برز اسم الصين مؤخراً بقوة ضمن تقارير إعلامية تتحدث عن دور صيني محتمل في وقف الهجمات التي تشنها جماعة الحوثي ضد السفن التجارية في البحر الأحمر، حيث تعتقد الولايات المتحدة ان بإمكان الصين استغلال علاقاتها القوية مع إيران واقناعها بكبح هجمات الحوثيين، وذلك استناداً إلى تصريح أدلى به المتحدث باسم مجلس الأمن القومي، جون كيربي، وقال فيه إن الولايات المتحدة تريد من الصين موقفا إيجابيا بخصوص هجمات الحوثيين. وقال رداً على سؤال صحفي "إن الصين لديها تأثير على طهران، ولديهم القدرة على إجراء محادثات مع القادة الإيرانيين لا نستطيع نحن القيام بها".

في مناقشة هذه النقطة المهمة يمكن الاشارة إلى جانبين مهمين أولهما يتعلق بالشق الاقتصادي، حيث تتأثر حركة التجارة الصينية شأنها شأن غيرها من الدول بزيادة تكلفة الشحن والتأمين البحري وغير ذلك، وهنا يجب مراعاة أن السفن الصينية ليست هدفاً لهجمات الحوثيين، بل إن السفن الصينية ترى في الظروف الراهنة فرصة مواتية لتعزيز حركتها ونشاطها التجاري والاستفادة مما يوصف بحصانة الصين البحرية في هذه الأزمة وذلك رغم أن خطوط شحن الحاويات الصينية الكبرى مثل شركة "كوسكو" صاحبة رابع أكبر خط حاويات بالعالم، وتسيطر على تشغيل 5% من الأساطيل البحرية للنقل الثقيل وتساهم بحوالي 11% من حركة التجارة العالمية، قد أوقفت الشحن إلى موانىء إسرائيل. وثانيهما يتعلق بالرؤية الاستراتيجية الصينية وهي رؤية متشعبة ذات أبعاد مختلفة وربما متباينة منها ما يتعلق برغبة الصين في استنفاد جهود الولايات المتحدة والغرب في صراعات مناطقية متعددة بما يتسبب في إشغال هذه القوى عن التفرغ لمناكفة الصين في إطار التنافس الاستراتيجي المحتدم بين واشنطن وبكين. ومنها مايتعلق بدور الصين كقوة دولية متنامية تسعى إلى إبراز مكانتها ولعب دور دولي في تسوية النزاعات وانهاء التوترات، وهو ماقد يدفعها إلى اقناع إيران بالضغط على الحوثيين لوقف هجماتهم في البحر الأحمر.

ماسبق كله ينطوي على أهداف صينية متضاربة ولو ظاهرياً، ولكن جردة الحساب النهائية لهذه المصالح وفق معادلة الربح والخسارة تشير إلى ان الصين قد لا يكون لها مصلحة استراتيجية كبرى في لجم اندفاع الحوثيين، على الأخص في التوقيت الراهن، حيث يتزايد موقف الرئيس الأمريكي جو بايدن حرجاً على الصعيد الداخلي وتتراجع شعبيته وبالتالي فرص إعادة انتخابه، وقد تفضل بكين عدم منحه قبلة الحياة في ظل هذه الظروف، كون فترة حكمه، في السنتين الأخيرتين على وجه التحديد، قد شهدت موجة من الضغوط والعقوبات الاقتصادية غير المسبوقة التي فرضها البيت الأبيض ضد الصين.

الصين التي اتجهت في الأعوام الأخيرة لإظهار مكانتها ودورها في الشرق الأوسط، ولعبت دوراً حيوياً مهماً في الوساطة بين قوتين كبيرتين هما المملكة العربية السعودية وإيران، قد تكون لها حسابات معقدة في الملف الحوثي، ولاسيما أن بكين قد لا ترغب في التدخل في ملف يحمل فرص الفشل بقدر احتمالات النجاح، كما أن الوساطة في مثل هذه الظروف تعني امتلاك قدرة التأثير على طرفي النزاع، أي الحوثي والولايات المتحدة التي تقود تحالف "حارس الازدهار"، ومن الصعب في هذه الحالة ـ على سبيل المثال ـ اقناع واشنطن على سبيل المثال بتفكيك التحالف وانهاء المهمة، في حال نجحت بكين بالفعل في الضغط على إيران واقناعها بكبح هجمات الحوثيين.

ثمة نقطة أخرى مهمة تتعلق بموقف الحوثيين أنفسهم، حيث حققوا ما يعتبرونه نجاحات دعائية في مزاعم مساندة الشعب الفلسطيني، وليس لديهم الكثير مما يخسرونه في مواجهتهم مع الولايات المتحدة، وهي مواجهة دعائية من الطراز الأول، وتستهدف بدرجة كبيرة النيل من سمعة القوة العظمى والتشكيك في مكانتها ونفوذها، ومن ثم فإن ما يحدث يصب في خانة هذا الهدف المدعوم إيرانياً بدرجة كبيرة.

وكالة "رويترز" قالت نقلاً عن "مصادر إيرانية مطلعة" إن الصين طالبت الجانب الإيراني بالتأثير على الحوثيين لوقف هجماتهم في البحر الأحمر، مشيرة إلى أن علاقاتها التجارية مع طهران ستتأثر في حال تضررت مصالح بكين التجارية بأي شكل من الأشكال. ولكن التقرير الذي لم يتضمن أي تفاصيل أخرى قد أوضح أن بكين نقلت لطهران أنها ستشعر بخيبة أمل كبيرة تجاه إيران إذا تعرضت أي سفن مرتبطة بالصين لهجوم أو تأثرت مصالح البلاد بأي شكل، وهذا أمر مفهوم ومنطقي لأن الصين لا تريد أن تضع نفسها في موقف بالغ الحرج يضطرها للرد عسكرياً على حلفاء إيران أو الشعور بالغضب جراء عدم مراعاة وكلاء إيران للسفن الصينية.

قد يفهم مما سبق أن الصين تريد بالدرجة الأولى الحصول على حصانة أو ضمانات شفهية بعدم استهداف سفنها التجارية المارة في البحر الأحمر، لاسيما أن لديها مصالح تجارية بحرية مهمة مع أطراف اقليمية أخرى في البحر الأحمر غير إسرائيل مثل مصر وغيرها. وربما يكون من الوارد كذلك أن تطلب الصين من إيران الضغط على الحوثيين في حال توصلت مع الولايات المتحدة وحلفائها في التحالف البحري وإسرائيل كذلك إلى تفاهمات غير معلنة بشأن مصالح متبادلة، ولاسيما أن نجاح الصين في الضغط على إيران والحوثيين يرضي شركاء إقليميين آخرين لبكين مثل المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات، وغيرهما من الدول الخليجية، التي تستشعر القلق جراء تصاعد التوترات في البحر الأحمر ومضيق باب المندب.

المحصلة أن الصين تمتلك حسابات استراتيجية متباينة في إدارة موضوع التهديدات الحوثية للملاحة البحرية، وبالتالي فإن المضي في أي اتجاه منها يتوقف على جردة الحساب النهائية التي ستوجه دفة القرار الصيني سواء نحو التدخل بشكل فعلي بالضغط على إيران لاقناع الحوثيين بوقف الهجمات، أو التزام الصمت والاكتفاء بمراقبة نتائج هذه الأزمة.