بعد سنوات قليلة زال التخمين وثبت التأكيد بأنَّ هذه اللجان كانت تنفذ أوامر مسبقة مفروضة من السلطة وكانت من ضمن مخططات التعريب، ولا علاقة لها بالدراسات العصرية لجغرافية الدولة.

قلت لرئيس اللجنة مرة في إحدى فترات الاستراحة بعد الغداء، وبهدوء، أمام اللجنة وكانت مؤلفة من ستة أشخاص، من باب التذكير واحتمالية تغيير الرأي، إنه من المفروض كتابة التقرير على إننا سبع ملاكين، فرد بأن المالك الوحيد هو الوالد فقط، وأولاده ليسوا ملاكين، وما تم في عام 1952 ملغى حسب قانون الإصلاح الزراعي، وكان يعني القرار رقم (161) لسنة 1958، والمرسوم التشريعي رقم (31) لسنة 1980 المعدل للقرار السابق، والذي خلق الحزام العربي، ومزارع الدولة، إلى أن وصلت إلى مرحلة إقامة المستوطنات.

لا أظن بأنه كانت لديه نصوص القرارين، وربما لم يكن يعلم مضمونهما، لكنه كان قد لقن ما كان عليه أن يفعله وكان يدرك الغاية، فقال: سأطبق القانون، وبها يعتبر المالك، أي الوالد، متنازلاً لأولاده عن ملكيته، وقرار المحكمة التي أصدرت سندات التمليك لسبعة أفراد من العائلة، بينهم الوالد، ملغى وغير قانوني، يعني أنني كنت حينها أناقش صوت السلطة المحتلة لكوردستان.

أتذكر، حاول مرة أخرى أن يشرح القانون الجديد لي، وكأنه كان يريد أن يقنع ذاته وأعضاء اللجنة قبل إقناعي، لكنه لم يستمر وأنا لم أناقشه بعدها، حتى عندما كرر قوله أثناء كتابة التقرير النهائي إنَّ الأولاد ليسوا ملاكين. كان الوالد غائباً عن الديوان طوال الأسبوع، ونادراً ما كان يأتي أثناء وجود اللجنة، وبعدما ذكرتها له، جاء إلى الديوان، تناقش معه، لكنه قال: "أبو صبري كتبتها كما يفرض علي القانون الجديد". وفعلاً عمل بموجب المرسوم التشريعي رقم (31) لسنة 1980 وهو ما سآتي عليه لاحقاً.

إقرأ أيضاً: أنا ولجنة التحديد والتحرير (1)

من المؤكد أنَّ الرشوة لم تكن ستغير من المعادلة، حتى ولو كنت سأدفع له ما يريد بدون علم الوالد، وهو ما لم أفعله. فلم تكن هناك حيلة بإمكانها أن تعدل ما كان قد أقره القانون، وهو يقوم بتنفيذه مع أوامر من النظام، لكن تبين أنه كان معتاداً على الرشوة وعزائم الشرب، ولربما كانت ستأتي بنتيجة في المعاملة وترطيب الأحاديث ليس إلا، فالقرار كان قطعياً، بالرغم من أنه كان عليه تنفيذها، لكنه كان فظاً في التعامل، ولا يستبعد أنه كان مكلفاً بمثل هذا التعامل معنا، حتى الملاكين الذين دفعوا الرشوة خسروا أموالهم وأراضيهم فيما بعد.

إقرأ أيضاً: أنا ولجنة التحديد والتحرير (2)

عندما كانوا يرسمون طبوغرافية بيوت القرية، ويحددون مليكة البيادر، ناقشت أحد العناصر الذي كان يخططها، وقد كان لطيفاً، حيث أصبحنا أصدقاء بعدها، وسألته لماذا كل هذا الاهتمام بالبيوت والبيادر، ولا يماثلها اهتمام مقابل عند تخطيط الأراضي، فهمس لي بأن المخطط سيتم كما هو مرسوم من الدولة والمحافظة، وكررها أثناء اللقاء به في إحدى مراجعاتي لدوائر الاستيلاء في الحسكة: بأن رئيس اللجنة ونحن الأعضاء كنا ملقنين! بكل ما تم في ذلك الوقت، بغض النظر عن تنفيذ قوانين التحديد والتحرير!

إقرأ أيضاً: أنا ولجنة التحديد والتحرير (3)

بعدها، وعندما تم الاستيلاء على الأراضي وعلى خلفية أعمال تلك اللجنة والمماثلة لها وبناء المستعمرات، برزت في مخيلتي مسيرة ذلك الأسبوع بأوجه أخرى، وأعمال اللجنة غير ما كان يظهره أعضاؤها ورئيسها، وعرفت بأنني كنت حينها أواجه واصطدم بشكل مباشر مع قوى الاحتلال والتعريب والاستيلاء، وأن نقاش الوالد المختصر معه ليوزع الملكية على جميع بناته وأولاده، أو على الأقل وضع أسماء الذين كانوا في الملكية السابقة حسب سندات التمليك لعام 1952، كان هباء وكان من شبه المستحيل تغيير ما كان مخططاً له، ولو كان البعد هو الإصلاح الزراعي أو تخفيض سقف الملكية كان عليهم أن يوزعوا المستولى عليه على أبناء القرية ذاتها، لكن المخطط كان أكبر من اللجنة ومن النقاشات البسيطة بين الملاكين ورؤساء هذه اللجان؛ كان هناك مصير شعب على المحك، وقضية أمة تدمر.

يتبع...