قد يبدو عنوان مقالي صادماً أو قاسياً للوهلة الأولى، فمن المعروف أنّنا، وفق غريزتنا الإنسانية، نرفض إيذاء الآخرين دون سبب، أو نسعى إلى التربّح من آلامهم وأحزانهم، لكن من المؤسف أن هذا الأمر، يحدث بشكل يفوق ما يمكن أن نتصوره.

يكفي أن نقوم بعملية إحصاء بسيطة على أرض الواقع، أو عبر منصات التواصل الاجتماعي، أو من خلال وسائل الإعلام والترفيه، لندرك حجم وعوائد التجارة في آلام الفقراء، بغض النظر عن النوايا الحسنة أو السيئة.

إقرأ أيضاً: التكاسل أبو علم النفس

من بين أمثلة ذلك، السباق المحموم لوسائل الإعلام لعرض القصص والمشاهد الدموية بأساليب أكثر إثارة، تهدف إلى جلب عدد أكبر من المشاهدين والمتابعين، ومن الطبيعي أن تفترض تلك الوسائل أنَّ الناس يفضلون مشاهدة الأحداث المروّعة، لتحفزهم على فعل الخير، وبالتالي فإن معظم وسائل الإعلام تركز على القصص الحزينة والمثيرة، أكثر من القصص المفرحة والسعيدة. ومن منطلق القاعدة الصحفية "الأخبار السيئة هي أخبار جيدة"، يرجّح أن يشعر الكثيرون بالفضول وحتى بالمتعة أو التشفي، وأن يجد البعض أن تلك المشاهد ملهمة لهم، بل وحتى مصدر فخر وسعادة.

كما أننا نتعرض اليوم، وبشكل مكثف إلى أفلام ومسلسلات تجارية "سندويتشية"، أبطالها من الفقراء والبؤساء وضحايا الحروب والمجاعات، مزدحمة بتواريخ من الأحقاد الاجتماعية والسياسية المتبادلة، والروايات العشوائية المبتذلة، وهي من اللون السريع، الذي يُقدم واقعاً بديلاً يملأ الفراغات، ويصبح هو الحقيقة، وقد يغيّر حالة الوعي، والطريقة التي نعيش بها الواقع. وربما يؤدي أيضاً إلى تشكيل وجهات نظر سياسية خاطئة، ويساهم كذلك في تغيير منظومات القناعات والقيم والأفكار. لكن الأمر الذي نجهله جميعاً هو أنَّ التسلية بآلام الفقراء تحقق الربح والترفيه معاً!

إقرأ أيضاً: زوجات مُعلبات!

كما هو الحال دائماً، لا يمكن أن ينظر الجميع إلى مثل هذا الأمر من الزاوية نفسها. لكن على أي حال فإنَّ الدراما "السندويتشية" ستواصل إطلاعنا على أمور تخص الطبقات الدنيا في المجتمع، على نحو يُشعرنا بأننا نعرفهم عن كثب، بينما نكاد لا نعلم عن حياتهم ومعاناتهم في الواقع أي شيء تقريباً.

دعونا، الآن، نُلق نظرة عامة على ألعاب الفيديو، التي تعرض على شبكة الإنترنت، فسنجد أنَّ الفقراء يكونون على الأغلب أكثر الشخصيات التي تعاني البؤس والخوف، والشعور بالضياع، وفي ظل توفر هذا الجو البصري الفنتازي المثير للشفقة، فإنَّ اللاعبين سيمكثون وقتاً أطول في ممارسة تلك الألعاب. وإذا نجحت ألعاب الفيديو في زيادة وقت مكوثهم، فإنَّ ذلك يزيد من أرباحها.

من الحتمي أن يكون لما تقدمه ألعاب الفيديو من صور نمطية عن الفقراء والأغنياء تأثيراً بليغاً، يعزّز الكثير من الأحكام المسبقة، المترسخة منذ أمد طويل، بشأن الفروقات بين الطبقات الاجتماعية.

إقرأ أيضاً: "تكفين" الحليب في تونس

كما أنَّ هناك أدلة علمية، تفيد بأنها قد تُخلّف انطباعات دائمة في العقول بشأن "المعركة بين الخير والشر"، ولا يسعنا هنا سوى التساؤل عما إذا كانت المشاهد التي تشيعها "ألعاب الفيديو" بشأن الصراع بين الأخيار والأشرار، تشكل جزءًا من حل مشاكل الفقراء؟ أم أنها تنحو بها نحو دائرة الاستقطاب السياسي والصراع الأيديولوجي؟

يقول عالم النفس الاجتماعي البريطاني ريتشارد هوغارت "التمييز بين الطبقات لا يختفي، لكن الطبقات تتعلم طرقاً جديدة للتعبير عن نفسها. مع كل عقد من الزمان نقول إنَّ الطبقية ماتت، لكن الكفن يبقى فارغاً".

مقولة هوغارت تحيلنا على قضية أهم، لا تتعلق فقط بالتقسيم الطبقي، الذي يأبى أن يندثر من المجتمعات، بل تنطوي على إيحاء ضمني، لا علاقة له أيضاً بالتفضَّل والعطف على الفقراء، بل بضرورة الوقوف على قدر المساواة مع الآخرين، كي يصبح ذلك دافعاً لإجراء التغييرات المطلوبة والجوهرية في حياة الأفراد والمجتمعات.

إقرأ أيضاً: رجل أمن أم خبير عيون!

لذلك يتعين علينا التروي حينما نُقبل على مشاهدة المسلسلات والأفلام أو متابعة نشرات الأخبار أو التسلي بالألعاب الإلكترونية. ويتعين علينا أن نسأل أنفسنا إن كانت غايتها فعلاً التعاطف مع الفقراء؟ أم انطلت علينا حيلتها ووقعنا في شرَاكها، وأن هناك تجارة بديلة في آلام الفقراء، لم تكن في حُسباننا.

إن كان لا بدَّ من ممارسة "المشاهدة" فليكن رياضة "التأمل" الهادفة، لعلها تقودنا نحو فعل الخير والتسامح واحترام أنفسنا، والآخرين كذلك.