تتميز الأنظمة الديمقراطية بتعدد توصيفاتها بموجب أسلوب الحكم الذي يسود في الدولة والمجتمع، فهناك الديمقراطية الكاملة التي تقوم على الانتخابات والتداول السلمي للسلطة والحياة الدستورية والمدنية، وهناك الديمقراطية المباشرة والديمقراطية التمثيلية والتعددية والتوافقية وغيرها من الديمقراطيات التي تتغير بمنهجها وفقاً لظروف البلد وطبيعة التركيب الاجتماعي والسكاني، لكن جميعها محكومة بدستور يحمل صفة العلوية والسمو بكونه ينظم وظائف المؤسسات الديمقراطية في عملية الفصل بين السلطات.

أنظمة الحكم الاستبدادية في بلدان الشرق والعالم الثالث هي الأخرى استعارت مفردة الديمقراطية لتزين بها عنوان نظامها، كما كان الحال في ليبيا إبان حكم القذافي، والعراق في زمن صدام وسوريا في حكم الأسد الأب والابن المستمر بحواره "الديمقراطي" مع سكان حلب ودرعا، ونستثني السودان لأنَّ الديمقراطية فيها أصبحت ديمقراطيتين، واحدة لحميدتي والثانية لبرهان وهما مستمران بلعبة الموت من أجل الانتصار وبناء ديمقراطية المسيرات وصواريخ الكروز. أمَّا ديمقراطية أنظمة الإسلام السياسي، فتجمع صلاحيات وقوانين السماء والأرض وتضعها بيد المرشد الأعلى الذي يمثل حكم الله على الأرض، وهي لا تحتاج للتصويت، لأنَّ ثمة حوار سري بين الشارع العظيم والحاكم بأمره، وهي الأخرى تسمى ديمقراطية كما وجدناها في حكم محمد مرسي في سنة حكم واحدة، أو سلطات راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة وديمقراطية "تأديب" النساء داخل قاعة البرلمان.

الديمقراطية الأميركية المركبة على أحزاب طائفية وعرقية أخذت مدياتها في العراق خلال عشرين سنة مضت، لتكتسب عن جدارة لقب الديمقراطية المائعة، ويصح تسميتها بالسائلة، فالديمقراطية هنا ديمقراطية انتخابية تحتكر فيها الأحزاب "العرقطائفية" السلطة، لأنها تفوز في الدورات الانتخابية كافة، بعد أن تضع القانون الانتخابي الذي يمثل مصالحها، ولا تكترث بمن يفوز بالقائمة الحائزة على أعلى الأصوات، بل تجمع القوائم الخاسرة لتتكتل بقائمة واحدة تحقق أعلى المقاعد وتدخل البرلمان بكونها فائزة، أما القوائم التي تحقق فوزًا ساحقًا فعادة ما تجد نفسها خاسرة بحسب اجتهاد المحكمة الاتحادية العراقية التي أعطت للكتلة التي تدخل البرلمان بأعلى المقاعد وليست الفائزة بالانتخابات بأعلى المقاعد! تلك حالة غريبة ومنافية للنص الدستوري الذي يشير إلى "يُكلف رئيس الجمهورية مرشح الكتلة النيابية الأكثر عدداً بتشكيل مجلس الوزراء خلال خمسة عشر يوماً من تاريخ انتخاب رئيس الجمهورية".

الديمقراطية المائعة تعيد وضع القانون الدستوري بقالب دلالي جديد يتنافى مع مبادئ الديمقراطية، ولكنه يتساوق مع شهية القوى الفاعلة وتوجيهها لتفسيرات المحكمة الاتحادية.

ميزات أخرى للديمقراطية المائعة وهي أنها لا تلتزم بالسقوف ومحدداتها بحسب النص الدستوري، ولا بالمدد الزمنية ، بمعنى الزمن عندها يكون سائلاً. مثال ذلك يمكن أن تكون الجلسة الأولى للبرلمان مفتوحة دون توقيتات محددة حتى تتم الصفقات السياسية في مبدأ المحاصصة الذي أتخذ عرفاً وعدم الأخذ بالنص الدستوري. مثال آخر يتعلق بخلو منصب رئيس مجلس النواب الذي ينبغي أن يتم انتخاب رئيس جديد في أول جلسة له، ولكن مر أكثر من شهرين ولم يتم انتخاب رئيس جديد للبرلمان العراقي!

إقرأ أيضاً: هل يسرقون المطر الإيراني؟

يؤكد الدستور العراقي على تأسيس مجلس الاتحاد… إلخ ومنذ ثمانية عشر سنة والموضوع لم يُنظر فيه. وإذا ما تطرقنا إلى موضوع النفط والغاز والمادة 140 وغيرها... وضعت كنصوص في وثيقة الدستور لكنها لم تنفذ.

خلاصة القول إنَّ الديمقراطية المائعة كانت انتقائية في التعامل مع وظائف الدستور القضائية والسياسية والتمثيل، وافتقدت إلى تطبيق أهم مبدأ في الدستور ينص على أنَّ العراقيين متساوون بالحقوق والواجبات، الأمر الذي يجعل الانقطاع عن المشاركة بالانتخابات بنسبة تزيد على 70 بالمئة، جواب يقدمه الشعب برفضه لهذا النوع من الديمقراطية التي لا تختلف كثيراً عن الأنظمة الدكتاتورية.