هل أصبحت دول الخليج العربي مطالبة بتسديد فواتير الفساد لبعض الحكومات العربية التي لم تسع لإصلاحات جادة وحقيقية على الأرض، وأصبحت أموال الدعم الخليجي، خصوصاً الإماراتي والسعودي، بمثابة غنائم يتم تقسيمها على رموز ومسؤولي حكومات عربية والمنتفعين منهم، دون أن تدخل هذه الأموال خزائن الدول لتأخذ طريقها الطبيعي في تدشين مشاريع قومية ذات إنتاج يساهم في خفض معدلات التضخم داخل الدول مستحقة الدعم، ورفع قيمة العملة المحلية وتوفير السلع في الأسواق بأسعار تناسب المواطن العربي المطحون في ترسانة بعض الحكومات الفاسدة المحتكرة لأموال الدعم الخليجي.

لعل هذا ما فهمته من تصريح مسرب عبر صحيفة "اكسيوس" لوزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبد الله بن زايد خلال حضوره لاجتماع ضم وزراء خارجية كل من الأردن وأميركا والسعودية وممثل عن فلسطين. حيث ذكرت الصحيفة أن وزير الخارجية الإماراتي أبدى انزعاجاً وصل حد تركه الاجتماع بعد مشادة كلامية بينه وبين الممثل عن السلطة الفلسطينية، حيث قال له الشيخ عبد الله بن زايد "أنتم الجانب الفلسطيني تطلبون الدعم الإماراتي والخليجي ودائماً ما ندعمكم ولكننا لا نرى إصلاحات حقيقية على الأرض، أنتم مثل علي بابا والأربعين حرامي". ووفق الصحيفة، فقد ترك وزير الخارجية الإماراتي الاجتماع وانصرف في حضور وزير الخارجيه الأميركي أنطوني بلينكن، مما استدعى من وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان التدخل لاحتواء الموقف وتقريب وجهات النظر، وهذا ليس بجديد على الدبلوماسية السعودية التي دائماً ما تضبط النفس اتجاه عمليات استفزاز سياسي واستغلال اقتصادي يحدث من بعض الأطراف العربية التي ترى أن الدعم الإماراتي والسعودي لبعض الأنظمة العربية هو بمثابة فرض واجب النفاذ. حيث أن بعض الأطراف العربية ترى أن هذه "ديّة" وجب تقديمها من قبل الخليج العربي لندعمه ونحميه من الفزاعة الإيرانية والخطر الفارسي، والبعض الآخر اعتاد على طلب الدعم الخليجي حتى أصبح يرى أنه روتين يومي كاحتساء القهوة كل صباح. ولعل هذا ما يفسر الغضب غير المعلن من قبل بعض الحكومات العربية تجاه الصفقة السعودية الأميركية، والتي بموجبها ستحصل السعودية على برنامج نووي بشكل شرعي وكذلك تعاون أمني عسكري حقيقي وفاعل مع الجانب الأميركي. ووجدنا صدى هذا الغضب من بعض الأطراف العربية بارزاً في رسائل إعلامية تتناقل عبر مواقع التواصل الاجتماعي عبر لجان إلكترونية تتبع بشكل مباشر وغير مباشر لحكومات عربية مستاءة من الصفقة السعودية الأميركية الأخيرة، بل وحكمت عليها بالفشل من قبل أن يتم التوقيع على بنودها. وفي هذا المقال سأقوم بعرض بعض هذه الرسائل الإعلامية ومناقشتها.

السعودية تطرد الحجاج
كان هذا أحد الوسوم المنتشرة بموقع X في الأيام الماضية. وبتتبع مصدره، وجدت أنه وسم يدعمه لجان إلكترونية منظمة تتبع بشكل غير مباشر لبعض الأنظمة المستاءة من الصفقة الأميركية السعودية، والمنزعجة من تراجع الدعم المالي السعودي، باستغلال فيديوهات لرجال الأمن السعودي وهم يقومون بواجبهم الوطني في ترحيل العناصر المخالفة التي لم تحصل على ترخيص للحج هذا العام. وقد تعمدت هذه اللجان الألكترونية أن تتغاضى عن التنبيهات السعودية طوال الأشهر الماضية بضرورة الحصول على ترخيص للحج حتى للمقيمين داخل السعودية بل وعلى مستوى المواطنين السعوديين أنفسهم. وهذا ما ينفي أيضاً الشائعات حول استهداف الحكومة السعودية للمخالفين من جنسية معينة. وقد تعمدت هذه اللجان الالكترونية غض النظر عن الدواعي الامنية التي تستدعي من رجال الامن السعودي التصدي وبقوه لكل العناصر المتسللة إلى الحج حفاظاً على أمن الحجاج، تزامناً مع دعوات إيرانية لتهديد أمن الحج هذا العام عبر تصريحات ميليشيات تابعة، فقد نشر مقتدى الصدر عبر حسابه الرسمي رسالة تهديد مبطنة ذكر فيها بأنهم سيدخلون مكة من باب علي. ما يشير إلى وجود نوايا خبيثة في الإخلال بأمن وسلامة الحجاج. وهناك أيضاً بعض الحسابات الالكترونية الايرانية الموثقة بدأت بنشر أخبار كاذبة بهدف إثارة الزعر بين الحجاج والكثير من التهديدات.

وقد تعمدت هذه اللجان الالكترونية أيضاً التغاضي عن رؤية خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمير محمد بن سلمان حول أهمية توفير كافة احتياجات الحجاج وسبل الراحة والأمان والذي سيصعب تحقيقهم في حال توافد الالاف المتسللين بين الحجاج الحاصلين على تصاريح رسمية. والذين يكلفون الدولة السعودية مبالغ طائلة لتأمين كافة الاحتياجات سنوياً، تفوق تلك التي تدخل للخزانة السعودية من اموال الحج سنوياً، مما يعكس التزام السعودية بواجبها الإنساني والديني كقائد للأمة الإسلامية دون النظر للمكاسب المادية التي تأتي من الحج، والتي تنفق السعودية أضعافها على أمن ورفاهية وسلامة الحجاج.

السعودية طبعت مع إسرائيل دون حل الدولتين
وقد تناقلت الحسابات المأجورة هذه الشائعة تزامناً مع نجاح السعودية كرئيسة المجموعة العربية في حشد الموقف الدولي لتحصل فلسطين على مقعد كامل في الأمم المتحدة، وكذلك نجاح وزير الخارجية السعودي خلال جولته العالمية، بهدف انتزاع اعتراف دولي بالدولة الفلسطينية، وشاهدنا صدى هذا النجاح الدبلوماسي السعودي في اعتراف خمس دول أوروبية الأسبوع الماضي بالدولة الفلسطينية.

وتبقى الحقيقة واضحة كالشمس لتبدد ظلمة غيوم الشائعات الواهية. فالسعودية حتى الآن ثابتة على موقفها؛ لا تطبيع مع إسرائيل دون حل الدولتين وقيام الدولة الفلسطينية على حدود 1967 عاصمتها القدس الشرقية وكذلك حصول الرياض على برنامج نووي، وهي التي تمتلك 6 بالمئة من احتياطي اليورانيوم في العالم، بالإضافة إلى عقد إتفاقية أمنية عسكرية مع الولايات المتحدة لصد أي هجمات خبيثة تستهدف العملاق السعودي الذي نهض ليأخذ مكانته الاقتصادية والسياسية والإعلامية.

سيتم الإستغناء عن النفط السعودي
تم إطلاق هذه الشائعة عبر بعض مشاهير موقع اليوتيوب المحسوبين على بعض الأنظمة المذكورة سلفاً. تزامناً مع إعلان "أوبك" مؤخراً تخفيض إنتاج النفط حتى أيلول (سبتمبر) القادم. وقد تعمدوا أن يغضوا النظر عن سياسة السعودية التي تسعى للحفاظ على سعر برميل النفط من خلال خفض الإنتاج بشكل مدروس على فترات مدروسة. بل أن بعض الخلايا الالكترونية المثيرة للشائعات ذهبت إلى أن الولايات المتحدة ستتخلى عن النفط السعودي وتبدأ هي بإنتاج النفط الأميركي من حقل "برميان"، الضعيف الإنتاج. وتناسى هؤلاء أن تكلفة استخراج النفط الصخري الأميركي مرتفعة، بل ان الولايات المتحده شهدت أزمات عديدة خلال السنوات الماضية وصلت حد التظاهرات التي راجت الشوارع الأميركية منددة بسياسة إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن التي أفقدتهم حليفاً مهماً كالسعودية وأحد أكبر مصدري النفط في العالم، بالاضافة إلى أن النفط الذي تنتجه لا يغطي احتياجات السوق الأميركي بالإضافة لتكلفة إستخراجه الباهظة.

الصفقة السعودية الأمريكية ستفشل
ولعل هذه الشائعة المتداولة تعكس مدى التناقض لدى مروجي الشائعات التي تستهدف السعودية. فالذين نشروا شائعة تؤكد حدوث تطبيع إسرائيلي سعودي دون حل الدولتين والذي كان شرطاً سعودياً، هم أنفسهم من يطلقون هذه الشائعة التي تؤكد أن التطبيع السعودي الإسرائيلي فشل، وان الولايات المتحدة انحازت لمصالحها الخاصة مع السعودية وقررت إداره الرئيس بايدن عقد صفقة نووية وعسكرية مع السعودية دون التطبيع مع اسرائيل.

وفي رأيي كأكاديمية متخصصة في الإعلام السياسي، فإن تخبط الرسائل الاعلامية لدى اللجان الالكترونية الموجهة ضد السعودية يشير الى مدى تخبط الافكار والقرارات لدى الأنظمة التي تقود هذه اللجان. والنجاح الذي حققته السعودية أربك الأصدقاء والأعداء، بل وفرض نفسه على الساحة الدولية واضاف للسمعة الدولية المرموقة للسعودية مزيداً من اللمعان والتوهج. في ظل إدارة خادم الحرمين الشريفين وولي عهده، الشاب العربي المنفتح على كل الثقافات والشعوب والذي قرر منذ أن تولى ولاية العهد أن تكون أولى خطواته القضاء على الفساد ودعم المواطن السعودي وتوفير حياة كريمة له واحترام العلماء والاكاديميين من أبناء الشعب وتمكينهم عبر هيئة نزاهة، وديوانه الذي لا يغلق أمام أبناء وطنه.

وبالرجوع إلى نقطة تضارب الرسائل الاعلامية الموجهه ضد السعودية، سنجد أن نفس هذه اللجان الالكترونية تتبنى الآن مقوله ان الصفقه السعودية الأميركية ستفشل حتى ولو وافق الرئيس بايدن فسيرفض الكونغرس الذي يرى أن لا مجال لعقد مثل هذه الصفقة دون التطبيع مع اسرائيل، وفي ظل حروب تشهدها المنطقه في مقدمتها حرب غزة. وردي على هؤلاء بسيط؛ ليست المرة الاولى التي يمرر فيها رئيس أميركي صفقه دون إجماع من الكونغرس. بل ان حرب غزة الان هي اكبر دافع للادارة الأميريكية لتوقيع الصفقة الامنية النووية مع السعودية، في محاولة للحفاظ على نفوذ أميركي داخل المنطقة في وقت يزداد فيه النفوذ الروسي. كذلك علاقة الرئيس الروسي فلاديمير بوتن القوية بولي العهد السعودي على مستوى سياسي واقتصادي.

ولا ننسى أيضاً الصفقة السعودية الصينية التي تم الاعلان عنها حديثاً، والتي بموجبها سيتم تسوية المديونيات بالعملات الرقمية، مع العلم أن بكين هي أكبر الشركاء التجاريين للسعودية، في وقت تقوم فيه الصين بتسوية مديونياتها مع كل من الهند وروسيا بعيداً عن الدولار، وهذا ما يشير الى محاوله استغناء واضحة عن الدولار والهيمنة الأميركية. وفي رأيي فإنه سبب كافي لتتحرك إداره الرئيس بايدن في عقد صفقة أمنية عسكرية مع السعودية حتى وان لم يحدث اجماع داخلي عليها، وحتى وان كانت دون التطبيع مع اسرائيل. ولكن في كل الاحوال أصبحت الولايات المتحده ترى انها لن تستطيع المواصلة في تحمل أخطاء الطفل المدلل اسرائيل والتي اصبحت تهدد مصالح أميركا ونفوذها في المنطقة وعلاقتها بحليف مهم كالسعودية.

مجمل القول ان حجم الدعم السعودي للدول العربية يشير الى التزام السعودية بدورها اتجاه اشقائها العرب انطلاقاً من مكانتها السياسية والاقتصادية وعمقها التاريخي والاسلامي وموقعها كقائد للامة الاسلامية. ولا يأتي من باب تسديد أتاوات لأي جانب، لأنه ببساطه لو ارادت السعودية حماية وتأمين منشآتها النفطية ومصالحها التجارية التي تنمو مع الايام فانها ستاتي بالولايات المتحدة كفرد أمن يقف على باب تلك المصالح وفق اتفاقيات دولية تلزم الطرفين بما وقعوا عليه من بنود تضمن حقوقهما وتؤكد على واجباتهما. ومخطئ كثيراً من يعتقد ان هناك ما يسمى بالفزاعة الايرانية التي يمكن ان يستغلها البعض للضغط على الخليج وفي مقدمتهما السعودية. فخارطه التحالفات قد تغيرت وتغير معها الوضع الاقتصادي والسياسي والامني ولم يصبح الخليج العربي في حاجة ماسة الى شرطي يحميه من الهجمات الفارسية على المصالح الخليجية في وقت نشهد فيه اتفاقيات تطبيع ايراني خليجي وصفقات اقتصادية بضمان قوى عظمى كروسيا والصين. بالتالي فليس مطلوباً من السعودية الدوله الاكبر اقتصادياً وسياسياً في الخليج العربي أن تقدم الاتاوات وتحاسب على فواتير حكومات ينهش فيها الفساد والسرقه وتجوع فيها الشعوب. والشعوب هي التي تهم قادة الخليج العربي في المقام الاول.