مرت عليه أيام صعبة جداً بعد أن صدر أمر إلقاء القبض عليه بتهمة معارضة الدولة والقائد الأوحد، لذلك كان ينتقل من مكان إلى آخر هرباً من مصائد الأمن البعثي. كان جالساً وحيداً يفكر بعمق، يحدث نفسه ويتذكر حواراته مع ابن عمه.
"إنَّ الحياة لا تعطيك شيئاً، إن لم تأخذ منك مقابله شيئاً آخر"، كلمات حسان ابن عمي ما زالت ترن في ذاكرتي، وهو منذ الأيام الأولى للحرب مع إيران قد اختفى! وقد تأكد الأهل أنَّ النظام اعتقله كما اعتقل آلاف الشباب. وقد صدقت كلماته، لكن باختلاف بسيط، ففي الواقع الدنيا لم تعطني شيئاً! بالمقابل أخذت كل شيء... إلا إذا اعتبرنا الخوف والقلق والرعب عطاء دنيوياً مقابل ما أخذت منا.
ها أنا مطارد من قبل رجال الأمن بتهمة عشقي الكتب! أتعلمون لماذا؟ لأني اشتريت كتاب "البيان في تفسير القرآن" للسيد الخوئي، هذا عنوان جريمتي كما كتبها صاحب التقرير السري، فهل هناك أكبر من هذا الجنون؟ تصبح متهماً فقط لأنك تقرأ!
أتذكر جيداً العجوز الأشمط أبو عبيدة في حينا، وهو لا يكل ولا يمل من كتابة التقارير بحق شباب الحي، فأدخل الأحزان على البيوت، مقابل حفنة من الدنانير الملطخة بالدم، يا ليتني ضربته بفأس جدي العتيقة عندما صادفني ليلة الأمس.
صعدت الباص وهو مزدحم جداً، والناس في ذهول وصمت، الكل خائف، وراديو الباص يزعق بصوت أغنية: "أحنا مشينا للحرب..."، فتزرع كلماتها الرعب في قلوب الناس.
في رأسي ضجيج أجيال الثمانينات وهم يصرخون طلباً للحياة، إنهم الأكثر مظلومية في القرن العشرين، حيث كان رغماً عنهم أن يصبحوا وقوداً لحرب صدام، وإلا يتم إعدامهم بتهمة خيانة الوطن! ما زلت أتذكر أحلام صديقي محمود بأن يشتري تلفزيوناً ملوناً، ليشاهد كأس العالم بالألوان، هذا أكبر أحلامه، لكنه قتل في سجون البعث، وذبل معه حلم مباريات بالألوان. أو عباس الحلاق وخططه للزواج من ابنة عمه بعد أن اشترى غرفة نوم مستعملة بسعر مناسب، لكن بعثياً حقيراً من زقاقه قام بكتابة تقرير بأن عباس يشتم صدام، فاختفى عباس من الوجود وتبخر حلمه بالزواج.
في جسدي تعب الحرب وجروح الحصار، وهموم سنوات طويلة ضاعت مني، أفتقد عمراً هرب بعيداً، فصول متلاحقة تذبل ونحن نبحث عن خبز الشعير المخلوط بالخشب.
أبحث عن الخلاص من كل هذا، فلا أجد إلا مشنقة البعث تلاحقني. السماء ممطرة كأنها لم تمطر من قبل، بل تبكي على ما يحصل لنا بين جدران العراق، يخيل إلي أن الفصول ذابت في فصل الخريف فلا نعيش إلا به، برد قارص كأنه الوحدة التي تقض مضاجعي.
مستمر بالهرب من ملاحقات الجيش الزيتوني، ملابسي ممزقة كأني أحد المتسولين في شوارع بغداد الغارقة بالخوف. فجأة، صوت بدد وحدتي:
هويتك، أخي...
كأني غرقت في بحر عميق متلاطم الأمواج، فها أنا بين يدي رجال الأمن، بعثي بلبسه الزيتوني وشاربه الذي غطى على كل ملامح وجهه. كان لا بد أن أقول شيئاً:
عن أي هوية تتحدث؟ لا أملك إلا هوية التشرد والخوف وبعض الجنون.
نظر بعمق نحوي وتفحص وجودي، ثم تنهد وقال:
يبدو أنك من المجانين، لا تبقى في هذا الشارع وإلا تم الإمساك بك.
صعقني جوابه، فركضت بعيداً، وأنا فرح بملابسي الرثة التي دعت هذا البعثي لترك قدري ليوم آخر.
اقترب الليل أن يدخل على بغداد، وأنا هارب بين الأزقة من زبانية البعث، وصلت مقهى عتيقاً في شارع الرشيد، أغلب الجالسين حزانى يبكون من دون صوت، والتلفزيون يعرض بطولات صدام مع أناشيد حماسية. طلبت الشاي، وكانت أمامي صحيفة "الثورة"، حاولت أن أقرأ شيئاً نافعاً يبدد وحشة الزمن، نكتة أو قصيدة غزلية أو نصاً عن الحب، وجدتها ممتلئة بقصائد الشعراء وهم يمدحون صدام! يغدقون عليه بصفات الشجعان والحكماء، أي نفاق هذا الذي يمارسه شعراء أيام المحنة! عجيب أمرهم أن يفقدوا عذريتهم مقابل دنانير البعث.
وصلت أخيراً لشارع حينا وهو مظلم غارق بالمياه الآسنة وتلال نتنة من الأوساخ، وقربهما جدار متهالك، ومرسوم عليه صورة صدام ومكتوب تحتها: "صدام حسين بطل الأمة العربية وفارسها"، التفت يميناً ويساراً، لا وجود لأي جرذ بعثي.. اطمأننت قليلاً.
شعرت لحظتها برغبة عارمة للتبول، فاتجهت نحو صورة صدام وأشبعته بولاً وأنا أقول: "ذق سيادة الرئيس، ذق أيها الطاغية العفن، ألا يعجبك بولي، قدرك أن تكون مستقراً للبول".
التعليقات