يتحدث التاريخ عن القائد الفرنسي نابليون بونابرت، وعندما زار مصر طلب زيارة قبر أحد القادة المصريين الذين حاربوه دفاعًا عن بلدهم ليضع إكليلاً من الزهور على قبره. فترجموا له ما كان مكتوبًا على شاهد القبر: "هنا يرقد الرجل الصادق والسياسي العظيم". عندها بادر بونابرت قائلاً: "هذه أول مرة أرى رجلين يُدفنان في قبر واحد".

أدبيات السياسة في عالمنا تكتسب صفة الغرابة وتحيط بها الدهشة حين يختلط بها عالم الفساد وعصابات الجريمة المنظمة، ليصبح الحديث عن السياسة ورجالها كحديثنا عن عالم المافيا.

يُقال إنَّ أسوأ جائحة تصيب الوطن هي عندما يوكل أمر محاربة الفساد إلى فاسدين، وأن يُكلّف الفاشلون ببناء وطن والطائفيون بالقضاء على الطائفية، بعد أن تستخف السلطة بعقول الشعب.

يقول الجنرال الفيتنامي فون نجوين جياب: "عندما تصبح الوطنية مصدراً للدخل، يكثر الوطنيون". لذلك، تتوفر في مجتمعنا خلاصات وافية ومجلدات تملأ المكتبات عن حكايات الفساد والمفسدين، قد تصل إلى أدق التفاصيل عما يجري في أروقة السلطة، يسردها لنا سياسيو المنطقة الخضراء، أو زعامات الصدفة، ونماذج متعددة من الدرجات الحاكمة، تشعرك أنَّ الفساد أصبح شبحًا غير مرئي، أو من الأساطير التي كنا نقرأها. لا نسمع سوى عن أشباح الفساد وحديث فيه تمويه للحقيقة وصرف عن الذهن كل الحقائق والمنطق.

هي حالة السفسطائية التي يعيشها هؤلاء؛ ظاهرة فلسفية نشأت في نهاية القرن الخامس وبداية القرن السادس قبل الميلاد في بلاد الإغريق.

ملخص هذه الفلسفة هو أن الحقيقة نسبية غير مطلقة للإنسان الذي هو مقياسها حسب رأيهم. السفسطائيون طائفة من المحترفين في فن الإقناع الذين اعتادوا التجوال بين الناس لتعليمهم فن الكلام، واشتهروا بقدرة فائقة على الإقناع. بإمكانهم أن يقنعوك بأمر ثم يقنعوك بعكسه، وهكذا تستمر دورة خلط الأمور وقلب الحقائق.

تتميز الخاصية باستعدادهم للجدال إلى أمد طويل دون توقف أو ملل، مما يقع تحت وطأته الكثير من البسطاء والجهلة.

إقرأ أيضاً: مفقودون دخلوا العراق

نعترف أنَّ الكثير من السياسيين اعتنقوا السفسطائية، التي تستخدم الكلام المموّه للحقيقة والخالي من المنطق، من أجل الوصول إلى السلطة ولو على حساب تدمير البلد والشعب. وميزتهم أنهم يكذبون ويعرفون أنهم يكذبون. الحق لديهم نسبي ولا يوجد قانون أخلاقي للإلتزام به، ليذكرنا بالمحصلة بأنهم من بائعي كلام. يتميز أشطرهم في الخديعة بكلام منمّق معسول.

السفسطائية التي يمارسها أغلب السياسيين العراقيين في الخديعة والتمويه لعقول أغلب السُذّج، الذين يصدقونهم معتمدين على مقولة جوزيف غوبلز، وزير الدعاية الألماني في زمن هتلر: "إكذب، ثم إكذب حتى يصدقك الناس". لذلك تراهم دائمي الكذب وقلب الحقائق.

يمكن للعاقل أن يرى الإزدواجية في التصرفات من خلال بكاء بعض ساسته على مصير العراق ومعاناة شعبه، وينسى في ذات الوقت أنه سبب ذلك الدمار والشقاء.

إقرأ أيضاً: هل يتشكّل الإقليم التركي في الشمال العراقي؟

وسفسطائي آخر يعلنها صراحة: "كلنا لصوص وسراق أخذنا رشاوى، وأنا واحد منهم"، وآخر يتهم الطبقة السياسية التي هو واحد منها بأنها سبب الخراب والدمار والقتل، في الفعل المزدوج بالإتهام وجلد الذات والاستمرار في ممارسة الفعل.

قبل ألفي عام، قام أرسطو وسقراط وأفلاطون بمقاومة هذا الفكر المنحرف. فهل يستطيع الحاضر أن يفعل الفعل ذاته في محاربة هذا التطرف الأخلاقي؟

مصيبة العراق في الذين يحكمونه من غالبيته السفسطائيين، الذين يقولون عكس ما يفعلون. لذلك يتنقل البلد من خراب إلى خراب، نزولاً إلى القاع الصفصف.

تجارة الكلام التي كان يسوقها من لا يملك من البضاعة إلا الرديئة لتسويقها، يبدو أنها بدأت تفقد بريقها، خصوصاً مع اصطدام الواقع الذي يعيشه هؤلاء البسطاء بكثير من الأحداث التي تكشف زيف وإدعاء هؤلاء السفسطائيين، مثل الزبد الذي يذهب هباءً أو يتطاير.