رغم تناقض المواقف وضبابية المشهد وحالة الإسترخاء النسبي التي تشهدها الأوساط السياسية من قضية التوغل التركي داخل الأراضي العراقية وتباين الآراء بين من ادعى إن التوغل جاء بالإتفاق مع الحكومة العراقية كما أدلى به مستشار رئيس الوزراء العراقي وبين من يعتبره إحتلالاً تركياً يمتد على طول الحدود العراقية - التركية بطول أكثر من 370 كيلومتراً، وتوغل "محمد تشك"، وهي التسمية الشعبية للجندي التركي لأكثر من 40 كيلومتر داخل العراق.
سيناريو التوغل التركي الذي يختلف عن سابقاته بعدم محدودية الضربات الجوية بل عملية بلا سقف محدود تجري أحداثها على الأراضي العراقية قد تقضم مدناً وتصل إلى سنجار بعد أن تجتاز عدة أهداف أهمها كهوف جبل "كاره" التي بنى فيها رئيس النظام السابق صدام حسين قصراً له في الثمانينيات.
وفي رد فعل غريب، تحاول الحكومة العراقية تبسيط الموضوع وتبرير الإجتياح التركي نتيجة مكافحة حزب العمال الكردستاني، حيث أعلنت الحكومة العراقية قبل أشهر إن قوات حرس الحدود الإتحادية هي من ستكون المسؤولة عن الحدود مع تركيا بدلاً من القوات الكردية، وتأكد ذلك القرار خصوصاً مع زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى العراق، لكن ذلك لم يمنع من التصعيد العسكري للجيش التركي.
التوغل التركي لا يمكن توصيفه سوى بالإحتلال المبطّن، حيث تتعكز تركيا على اتفاقية وِقّعت في عهد الرئيس الأسبق صدام حسين وقّعها وزير خارجيته آنذاك طارق عزيز مع نظيره التركي عام 1984 في محضر رسمي يسمح للقوات التركية التوغل داخل الأراضي العراقية مسافة لا تتجاوز خمسة كيلومترات، على أن ينتهي مفعولها عام 1985، ودون ذلك لا توجد أي مذكرات تفاهم بين البلدين تتيح لتركيا إحتلال الأراضي العراقية.
غرابة الإجتياح التركي الذي بدأ يأخذ بالتوسع في قضم أراضٍ عراقية بذات الوقت الذي يركز على الحلول الدبلوماسية في سوريا ولا تستبعد أطرافاً سياسية في العراق أن الجانب التركي أخذ موافقة أمريكية وغربية لهذا الإجتياح.
تتحدث مصادر سياسية عن وجود صفقة أو إتفاق ما باللقاء الذي سيجمع الأتراك والسوريين برعاية عراقية في ظل سعي بغداد لمعالجة قضية حزب العمال الكردستاني، وبما أن الدستور العراقي يمنعها من ذلك، فقد فضّلت أن تقوم تركيا بالأمر، فضلاً عن المطالبات بحل هذه القضية إسوة بمعالجة قضية الأحزاب الإيرانية الكردية.
ما زالت تركيا تفرض حظراً جوياً على مطار السليمانية وتعبّر عن إستيائها من معلومات إستخبارية تشير إلى تنقّل عناصر حزب العمال الكردستاني بين السليمانية ومناطق سيطرة سوريا الديمقراطية.
إقرأ أيضاً: ومن الرأي ما قتل
وفي مشهد يثير السخرية والضحك لما وصل إليه واقع السياسة في العراق إلى قعر الإنهيار، استقبل رئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض السفير التركي في بغداد وسلّمه تكريماً غريباً عبارة عن درع الحشد الشعبي، في وقت إنتهاك السيادة العراقية من قبل الجيش التركي وكأنه إعتذار للإحتلال التركي وهو يتوغل داخل الأراضي العراقية في صورة ترسم دبلوماسية مستحدثة لإنتهاك السيادة وفقدان الوطنية.
لم تتخذ الحكومة العراقية إجراءً يوازي الفعل التركي سوى بإرسال وفد برئاسة مستشار الأمن القومي العراقي قاسم الأعرجي إلى إقليم كردستان من أجل الإطلاع على الأوضاع في المنطقة.
خطوات التصعيد التركي على الأراضي العراقية يرسم صورة قاتمة لما سيكون عليه الوضع مستقبلاً من ترسيخ للإحتلال التركي قد يذهب إلى إقامة "إقليم تركي" في الشمال العراقي.
إقرأ أيضاً: الاشتباك على أرض محايدة
لم يكن ذلك التوغل هو الأول للقوات التركية فقد ظهر بقوة في الأعوام الماضية حيث كشف رئيس الأركان في الجيش العراقي في يوليو/تموز 2022 النقاب عن وجود خمس قواعد عسكرية رئيسية للقوات التركية وأكثر من أربعة آلاف مقاتل تركي، فضلاً عن وجود 100 نقطة تركية داخل الأراضي العراقية بالقرب من العمادية ودهوك في كردستان العراق، تركيا لاتخفي أطماعها العثمانية في الوصول إلى مدينة الموصل.
في لافتات كُتب عليها ممنوع الدخول إلى الأراضي التركية حيث نُصبت السيطرات وهُجّرت قرى بأكملها من أرض عراقية محتلة كما يروي قصصها شهود عيان، لتؤكد واقعاً متناقضاً بين طبول الحرب التي تُقرع في تركيا واللامبالاة من الطرف العراقي الذي يحاول أن يُهوّن على الرأي العام قضية الإجتياح أو الضبابية التي تتناقض فيها تصريحات المسؤولين العراقيين، فإن العراق يعيش زمناً كالحاً من الظلام أصبح كالفريسة تتكالب عليها دول الجوار، وكل كلمات الأسف لاتنفع للتأسي على هذا البلد الذي ضاع بفعل صبيان السياسة.
التعليقات