يقولون إنَّ السياسة في النهاية هي لعبة؛ يجلس اللاعبون الكبار ليحركوا بكل سهولة ويتحكموا بالرقعة التي تكتظ في داخلها البيادق المنزوعة الإرادة، وهم يلوّحون من عليائهم ما دامت همومهم تنحصر داخل تلك الرقعة دون إكتراث لهموم البيادق وأوجاعها.

في العراق، تتوتر الأوضاع وتنسحب إلى كل المجالات كلما اشتبك حامي النظام السياسي، ونقصد به أميركا، مع حامي أركانه ودلالته إيران، ليبقى ذلك السؤال قائماً: متى يخرج ذلك الاشتباك من أرض العراق؟ حينها يعرف هذا البلد معنى الاستقرار.

حالة من الغموض والمجهول تصنع الواقع المعقد في العراق بسبب وجود العامل الخارجي المؤثر في قراره وسيادته، بل وفي ديمومته. والمفارقة أنَّ النظام السياسي الذي أسسته أميركا في العراق بعد عام 2003 واستماتت إيران بالدفاع يقوم على أن الدولتين كانتا تتصارعان على أرضه تارة، فيما تتفقان لتدميره مرات أكثر، حتى فَقَد العراقيون بوصلة الحقيقة وضاع الخيط والعصفور حسب ما يُشاع في أمثالهم الشعبية.

سخرية ذلك النظام السياسي الذي بات يستقطب كل تلك التدخلات الخارجية ويسأل هل من مزيد؟ إلى حد ضياع هويته الوطنية وسيادته المفترضة حين أوجد نظام المحاصصة والانتماءات المتعددة الألوان.

كثيرة هي فرص المواجهة والاشتباك، والأكثر منها تلاقي رغبات الأميركيين والإيرانيين على حد سواء، دون الإكتراث لمصالح العراق المنهوب من الطرفين، حتى أصبح اليقين أن لا طرف يريد التغيير في العراق ليبقى الوضع على ما هو عليه.

هي ليست أكثر من لعبة بالنسبة إليهم، كلعبة الشطرنج أو الدومينو لا فرق، ما دامت مصالحهم تنحصر بساحة الملعب حيث القواعد الحاكمة التي لا تجيز التفكير بهموم البيادق ولا أوجاع الكرة التي تتقاذفها أقدام اللاعبين، المهم وجود ذلك التنافس المحموم الذي يُغري المتنافسين، وفوز يجب تحقيقه والتحشيد لنيله، ويبقى السؤال هل هي الحرب أم اللاحرب؟

في موقف يقترب من الحيرة، يقضي رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني سنوات حكمه محاولاً التأكيد على موقف العراق غير المُنحاز إلى أي طرف في هذه المعادلة، مجتهداً في وضع مساحة أمان بينه وبين البلدين المتخاصمين تارة، والمتصالحين تارة أخرى، ومنتظراً ما يوحي بحلحلة الأمور بين الجانبين ونزع فتيل الحرب بالإنابة الذي يدفع العراقيون أثمانها الباهظة، لكن في المحصلة، فإنَّ وساطة السوداني لن تكون مثل محاولات الرئيس الأميركي الأسبق ثيودور روزفلت بين اليابانيين والروس خلال حربها التي اندلعت عام 1904، واستمرت لأكثر من عام ونصف، ومنحته جائزة نوبل للسلام بعد أن تمكنت جهوده الدبلوماسية من إنهاء تلك الحرب، وهي وساطة لن يكون بمقدور السوداني أن يفعلها أو يفرضها على طرفي الخلاف.

الخلاصة أنَّ العراق انهار كدولة ومؤسسات بفعل قواعد الاشتباك غير النظيفة على أرضه، ويبقى الحديث عن السيادة متعدد الأوجه وذو غايات غامضة ومتلونة، فيما تفتح أبوابها المتعددة مصارعها لكثرة الآراء والتفسيرات لمرضى الكذب والتدليس، وتخلق أبطالاً من ورق يساهمون في تضليل ما هو غامض أصلاً، إلى درجة أن البلد أصبح عاجزاً عن كبح جماح أي عدوان، أو على الأقل معرفة نوع وأسباب الاعتداء الذي يطاله.

المضحك حد البكاء هي تلك اللجان التحقيقية التي تُشكلها الحكومة لمعرفة هول الحقيقة المعروفة أسبابها ونتائجها، وستُنسى في أدراج النسيان أحداثها على وقع أحداث أخرى متوالية.

لا يدرك هؤلاء القوم أنَّ العالم لا يحترم الضعيف في قراره السياسي داخلياً وخارجياً، وغياب ذلك القرار الموحد الرسمي يجعل من العراق فريسة سهلة لكل نطيحة ومتردية، وهذا ما لا تريد أن تفهمه الكتل السياسية الحاكمة في المنطقة الخضراء التي تُجيد فن تهشيم النظام السياسي من الداخل وتشطره إلى درجة أصبح الوصف الوظيفي لرئيس الحكومة التنفيذي مثل مدير عام كما وصفه أحد الزعامات في الإطار التنسيقي ليوضع في دائرة منسية في ضعف وهوان.

حروب الإنابة التي تحدث على أرض العراق بين أميركا، التي تخشى القصف في الداخل الإيراني تجنباً من توسع محاور الحرب في غزّة، وإيران التي تدفع بأذرعها لغايات ومصالح تصب في مصالحها، ليكون العراق هو الخاسر الأوحد الذي لم تغادر أرضه الحروب والانكسارات ويحكمه نظام سياسي لا يبالي به ولو استقرت البلاد في قعر الجحيم، وإنما كيف يُرضي واشنطن وطهران مثل حال المطرقة والسندان، يتم طحنه من خلالها دون مستقبل واضح أو هوية وطنية أو مفهوم معرّف للسيادة في بلد عمره أكثر من 6000 عام، علّم المجتمعات كيف تكون الكتابة، لكنه للأسف اليوم لم يتعلم هو.