ما ان انتهى أو شارف على الانتهاء ما سمي بالربيع العربي، حتى ظهرت عشرات الصحف والمواقع الإلكترونية ومحطات التلفزة العربية الخاصة التي تبث من كل حدب وصوب برامج مختلفة تلقي الضوء على عيوب الأنظمة السابقة في كل بلد، وعلى تاريخ تلك البلدان التي زيفها قادتها عبر سنوات حكمهم في الدول العربية، مما أدى بالمواطن العربي لأن يُصدم بتاريخ هو لا يعلم عنه شيئاً، فكان كل زعيم عربي يلغي ما كان قبله ويبدأ تاريخ الدولة من حيث هو، مما أدى بالأجيال العربية الشابة أن تبهت من هول الصدمة، لمعرفة حقائق لم يكن للمرء أن يتخيلها أو يعرفها من قبل.

إنَّ مأساة الدول العربية تكمن في صناعة تاريخ مزيف لكل بلد على حدة، وعندما تريد أن تقرأ التاريخ لتجمعه معاً، مع أنَّه تاريخ مشترك، تجد بأنَّ كل جزئية تتعارض مع الأخرى، وكل بلد يختلف بتاريخه عن البلد الآخر، وكأنه نبتة شيطانية زرعت في أرض خلاء.

بثت القنوات المتلفزة الجديدة عشرات بل مئات المقابلات مع بعض من كان في السلطة قبل الربيع العربي، وكانت هول المفاجأة تكمن بأنه كيف لهذه الزمر الوضيعة الجاهلة أن تكون في تلك المراكز الحكومية العربية، منهم من كان مندوباً دائماً في الأمم المتحدة لدولته، ومنهم من كان وزيراً للخارجية، ومنهم من كان قائداً للجيش، ومنهم من كان مديراً للمخابرات، ومنهم من كان رئيساً للوزراء، حيث وجد المواطن العربي وهو يجلس أمام الشاشات أنه كيف كان مخدوعاً بهذه الأسماء البراقة وتلك المناصب العليا، وأغلبهم لو لم يوضع "تايتل" تعريفي على الشاشة لهذا الرجل أو ذاك، لاعتقدت أنها مقابلة مع سائق تاكسي أو بائع خضار أو حتى مع راقص في ملهى، وأصبح يتساءل الإنسان العربي كيف خدعته الأنظمة العربية كل هذه السنوات، وأشغلته بتحرير فلسطين والقضية المركزية للأمة العربية والقومية العربية وتحرير الشعوب، في الوقت الذي كانت كل تلك الشخصيات تعمل في تآمرات بينية في داخل الدولة نفسها أو مع الدول الشقيقة والصديقة.

إقرأ أيضاً: مآلات الواقع العربي بعد ربيعه (1)

وجد المواطن العربي نفسه أمام تساؤلات كبيرة، من حيث زيف الرواية وخداع البطولات وتشتت الشمل وضياع الهدف وان أجيالاً عربية كاملة ضاع مستقبلها من وراء تلك الشعارت البراقة الآتية من صناع قرار جهلة لا يستحقون الأموال التي استولوا عليها والمناصب التي تبوءوها؛ لا أدري كم من الوقت يحتاج المواطن العربي لترميم ما تعرض له من أذى وتشويه للتاريخ وتزييف للشخصية العربية وتدمير للذات المنطلقة التي كانت في أوائل القرن الماضي تتوق للتحرر من الخلافة العثمانية والاستعمار البريطاني والفرنسي والإيطالي، لتكون أمة عربية لها موقعها تحت الشمس.

إنَّ ما نحن به كعرب اليوم، هو حالة الذهول ما بعد الصدمة لانكشاف عورات جيل كامل من الساسة الذين رحلوا مع الربيع العربي، أو ما زالوا قابعين في مناصبهم، وقد يحتاج المرء عقداً آخر من الزمن لاستيعاب ما قد مر به العرب وما اكتشفوه من هول معاناتهم، وإنَّ الناظر لغده لقريب، والله من وراء القصد.