اعتقد الحالمون العرب الذين تعلموا التواصل عبر الفيسبوك أول ظهوره، أنَّ إزاحة القادة العرب المتشبثين بالسلطة في الأوطان العربية سيكون فيه الخير الكثير على مستقبلهم ودولهم وأوضاعهم النفسية والاقتصادية والاجتماعية، وكان حلم الشباب العربي الولوج إلى الألفية الجديدة بدول عصرية واقتصاد منيع، وحرية سقفها السماء، إلا أنه، يا لهول المفاجأة، فقد صدم الحالمون العرب بأن أوضاعهم ازدادت سوءاً وعملاتهم الوطنية انهارت ومستقبلهم أصبح مشكوكاً فيه، واكتشف الشباب العربي أنَّ المثل العربي القائل "امسك على قردك، لا يجيك أقرد منه" كان صائباً، وأنَّ من جاء على ظهر دبابة بانقلاب كان أرحم ممن أتى عن طريق الأميركان والناتو والدول الغربية، وأنَّ الشرعية الثورية التي تمتع بها جمال عبد الناصر ومعمر القذافي وصدام حسين وعلي عبدالله صالح وغيرهم الكثير، كانوا يحكمون بإحساسهم أنهم صناع ثورة وتغيير، وأنَّ كل المساوئ التي ارتكبوها في حق شعوبهم في بلدانهم الوطنية مبررة لأنهم يعيشون في مرحلة التغيير ما بين الأنظمة السابقة التي وضعها الغرب في سدة الحكم في الأوطان العربية، وبين الثوريين الجدد، إلا أنَّ مأساة الأنظمة العربية الجديدة التي انبثقت بعد الربيع العربي في معظمها لا تستند على أي شيء إلا القوة في البطش، وعدم وضوح الرؤية، والاستناد إلى من هم وضعوه في واجهة الأحداث وسيادة القوم.

إقرأ أيضاً: العشوائيات الديمقراطية

عندما ينظر المراقب إلى العملات الوطنية في بعض البلدان العربية ما بعد الربيع العربي، يجد أنَّ الدولار الذي كان يعادل رقماً بسيطاً مقارنة بالعملات الوطنية، أصبح الآن يساوي ملايين الليرات اللبنانية والسورية وملايين الدنانير العراقية والليبية وآلاف الجنيهات المصرية واليمنية وغيرها من العملات، وأصبح أغلب المواطنين العرب يستلمون رواتبهم بملايين العملات المحلية، ومع ذلك يحسبون مع الفقراء في بلدانهم قياساً بسعر الدولار. لقد أصبح حلم امتلاك السيارة والمنزل والأرض في أغلب الدول العربية أشبه بحلم "إبليس في دخول الجنة"، فأيّ مستقبل ينتظر هذه الملايين من الشباب العربي الذين ضاع بهم الطريق.

إنَّ مجازر الربيع العربي التي ارتكبت بحق العرب في أغلب البلدان العربية أدت إلى تقوية شوكة إسرائيل في التفنن بقتل الفلسطينيين في غزة، وسحقهم ودورهم وممتلكاتهم عن وجه الأرض، حيث يخرج عليك المحللون السياسيون الصهاينة ويقولون نحن لم نرتكب جرائم حرب، وإذا أردتم أن تحاكمونا في ما فعلنا في غزة، فعليكم محاكمة من مسح مدناً بأكملها في الأقطار العربية من القادة السابقين أو الباقين في السلطة.

إقرأ أيضاً: ابتسامات بوتين في الرياض

إنَّ مأساة الشعوب العربية في هذا الزمان فاقت أيّ وصف، وتعدت حدود الممكن في المعقولية والفهم، مما أدى بالمواطن العربي البسيط أن يشاهد القتل والتدمير والتعذيب الممنهج على شاشات التلفزيون، ولا يعير أدنى انتباه لما يراه، مما يعطيه الشعور بأنَّ ما يشاهده من مآسٍ هي أمور عادية تحدث في أرقى المجتمعات، وهي جزء من ديمومة الحياة، وكأن لسان حاله يقول: "وهل يضير المبتل كثرة المطر". لقد أصبح المواطن العربي حائراً في وضعه ومستقبله وماضيه وكلفة معاشه، فلا يعرف من أين يبدأ وإلى أين سينتهي، وعليه، فإنَّ هذه الظروف التي وضع فيها هذا الشقي العربي اليوم تؤسس إلى مرحلة قادمة لا يعرف الناظر للمستقبل أي منقلب ستنقلب إليه الأمور، وأي مستقبل ينتظر هذه الأمة، وما هي مآلات الواقع الأليم اليوم، والله من وراء القصد.