قبل أيام وبالتحديد في 29 تشرين الأول (أكتوبر) 2024 احتفلت جمهورية تركيا الجديدة بعيد تأسيسها الأول بعد المئة. مع هذه المناسبة، وفي خطوة غير مسبوقة، تم الإعلان عن مبادرة سياسية للسلام والمصالحة في تركيا من قبل زعيم حزب القومي التركي المتطرف، دولت باخجلي (76 سنة). وجاءت هذه المبادرة من خلال خطاب ألقاه باخجلي في اجتماع كتلته البرلمانية، حيث قال: "نحن الأتراك نريد أن نتصالح مع الأكراد، وأن الأكراد جزء مهم في نسيج المجتمع التركي، ونريد أن نكون إخوة ونتشارك ونتعاون في ازدهار بلدنا وتطويرها، ونقف معاً ضد كل محاولات تفرقة صفوف شعبنا ووطننا، ونقف معاً ضد الإرهاب والإرهابيين بكل الوسائل وبكل قوتنا. نبني علاقة أخوة وصداقة بيننا ونتوقف عن القتال الداخلي فيما بيننا، ونعيش بسلام ووئام بدل أن نتحارب ونقاتل إلى الأبد".
إن هذه المبادرة في هذا الوقت الدقيق والحاسم الذي تمر به المنطقة، صدرت من شخص متطرف ومتزمت، يعارض كل الطموحات والآمال والحقوق القومية المشروعة للأكراد في تركيا وعلى مستوى كردستان الكبير. هي من ناحية مدعاة للتعجب والحذر والترقب، ومن ناحية أخرى مدعاة للخوف والقلق والريبة؛ لأن الأكراد على مر التاريخ مع الأتراك لا يثقون بالوعود ومد اليد للمصالحة من قبل الأتراك، خاصة من شخصية مثل باخجلي وحزبه الذي أُسس على مبادئ معاداة الأكراد وكل الأقليات الأخرى في تركيا.
لذا، يجب علينا أن نعرف: هل هذه المبادرة للسلام والمصالحة التركية صادقة وحقيقية؟ أم فقط للمزايدة السياسية الداخلية بين الأحزاب التركية؟ أم مبادرة سياسية تكتيكية وغير صادقة لخداع الأكراد؟ أم خوفاً وحذراً من التحديات الكبيرة التي تواجه المنطقة بأسرها؟ أم للتهرب من فشل أردوغان وحزبه الحاكم سياسياً واقتصادياً وأمنياً خلال 22 سنة من حكمهم الجائر؟ وتثور عشرات الأسئلة الأخرى...
من المعلوم أن هذه المبادرة جاءت من قبل قطبي السلطة في تركيا، أردوغان وباخجلي، في هذا الوقت الحساس الذي تمر به منطقة الشرق الأوسط بأكملها، في ظل الصراعات والحروب المستمرة بين إسرائيل والفلسطينيين من ناحية، ومن ناحية أخرى بين العرب في لبنان وسوريا والعراق واليمن، حيث يقود إيران هذه الأطراف تحت شعار المقاومة الإسلامية، بعيداً عن موقف جدي من أكثرية العرب السنة. علماً أن المنطقة معرضة لتغيرات حقيقية من ناحية الجغرافيا والخرائط ومصالح الأطراف المتنازعة. لكل هذه الأسباب الموجبة، نقرأ من هذه المبادرة من قبل أردوغان وباخجلي، أصحاب المواقف العدائية ضد الأكراد ومطالبهم وحقوقهم المشروعة طيلة قرن واحد، أنها ليست مبادرة حقيقية وصادقة تجاه الأكراد، بل خدعة ومماطلة وكسب للوقت، وأنهم يريدون في الحقيقة لم شمل الصف الوطني الداخلي والجماهير والشارع التركي بمختلف أطيافه، ويريدون الاقتراب من الأكراد خاصة في هذه المرحلة، لأن الأكراد المنضوين تحت راية حزب الديمقراطي الكردي الموجود في برلمان تركيا محوب سياسي ورسمي (دم بارتي)، والقريب من الجبهة المعارضة لحكومة المتحالفين (أكبة ومهبة) بقيادة حزب الشعب الجمهوري (جهبة) المعارض، ويريدون أن يبتعد الأكراد عن هذه الجبهة لمصلحتهم. بعد ذلك، يريدان إجراء تعديل دستوري لصالح أردوغان ليتمكن من انتخاب نفسه لمرتين متتاليتين لرئاسة الجمهورية، وليستمر حكم أردوغان وباخجلي لعشرة أعوام أخرى. لكل هذه الأسباب المخفية والمعلنة لأردوغان وباخجلي، تبقى مبادرة السلام موضع شك وتأمل وعلامة استفهام كبيرة من قبل الأكراد. في المقام الأول، هما فقط يريدان مصلحتهما الشخصية والحزبية وبقاءهما في السلطة، وليس حباً للأكراد ومصالحهم والاعتراف بحقوقهم المسلوبة منذ مئة عام وأكثر، وليس في نيتهما إجراء تعديلات دستورية لصالح الأكراد واتباع سياسات حكيمة وإنسانية تجاههم، وهم الذين حكموهم بالنار والحديد منذ عشرات السنين.
الظاهر من هذه المبادرة هو كلام معسول ووعود بريئة من قبل أردوغان وباخجلي، لكنها في الخفاء عبارة عن خدعة وكمين ضد الأكراد ومطالبهم المشروعة، ويريدون القضاء على المسألة الكردية على مستوى كردستان الكبير والمنطقة برمتها؛ لأنهم يعرفون جيداً أن المسألة الكردية الآن وفي هذه المرحلة أصبحت مسألة دولية ومهمة وجدية على مستوى المنطقة والدول الكبرى، ويريدون بهذه المبادرة تحجيمها والعودة بها إلى الوراء بعشرات السنين.
إقرأ أيضاً: السلام يوحِّد والحرب تفرق!
كذلك، تعدّ المبادرة مزايدة سياسية داخلية بين أصحاب السلطة والجبهة المعارضة. هذه المبادرة موضع شك وحذر من قبل الأكراد، وموضع تعجب أيضاً، إذ يطالب الجانبان، الحكومة والمعارضة، في الوقت نفسه، بالمصالحة مع الأكراد والاعتراف بحقوقهم المشروعة في تركيا وكردستان سوريا، مثلما هو حالهم في كردستان العراق. ونسأل باستغراب: بين ليلة وضحاها، هل أصبح الأتراك الفاشيون والطورانيون، والملطخة أياديهم بدماء ملايين الأبرياء من الأكراد والأرمن وجميع المكونات الأخرى، ملائكة الرحمن، يريدون أن يغفر لهم الله ذنوبهم وينادون بدولة كردية مستقلة، والسلام، والعيش معاً كإخوة؟ هل يرغبون بإطلاق سراح القائد أوجلان من سجنه في إمرالي بعد 25 سنة، منذ عام 1999، ويعلنون وقف إطلاق النار بين الأتراك والأكراد، ويبنوا معاً تركيا جديدة بعيداً عن الحروب والقتال بين أبناء الشعبين، ويعملون معاً لمحاربة الإرهاب والإرهابيين؟
من المعلوم أن هذه المبادرة جاءت بعد فشل ذريع للسياسات التي انتهجها أردوغان وحكومته على الصعيد السياسي والاقتصادي والأمني، خاصة ضد القوات المسلحة الثورية لحزب العمال الكردستاني (PKK). من ناحية أخرى، جاءت هذه المبادرة بسبب المخاوف وسلسلة الانتصارات العسكرية لإسرائيل على جبهة المقاومة في فلسطين ولبنان وسوريا والعراق وإيران، وأيضاً بسبب الضغوط الأوروبية، وحلف الناتو، وأميركا، ضد السياسات التوسعية التركية في المنطقة وتدخلاتها في شؤون الدول المجاورة، ومواقفها من حرب روسيا وأوكرانيا، ودعمها لروسيا ضد أوكرانيا حليفة الغرب والناتو، ومحاولاتها الانضمام إلى منظمة بريكس بجانب روسيا والصين المعاديتين لأميركا والغرب عموماً.
إقرأ أيضاً: أردوغان الخاسر الاكبر فى لعبة شطرنج المنطقة
مع كل هذه النيات السيئة والمخفية للأتراك تجاه الأكراد، فإنه من باب الحكمة والعقلانية والدبلوماسية يجب على الأكراد وقادتهم السياسيين وأحزابهم أن يتعمقوا في نص المبادرة ويقبلوها كنية سليمة وصادقة، ويردوا بالمثل، ويمدوا يدهم للسلام والمصالحة حتى لا يتهموا بأنهم دائماً متعطشون فقط للحروب والقتال وأعداء للسلام بين شعوب المنطقة. من المعروف للجميع أن المنطقة في حالة هيجان مخيفة، لذا من الواجب على الجميع تبني سياسات حكيمة وعقلانية لدرء الخطر والتحديات عن المنطقة. لذا، على الأكراد أيضاً أن يعلنوا موقفاً إيجابياً من المبادرة، ولكن بحذر شديد وعقول مفتوحة، وعليهم أن يسجلوا كل مطالبهم المشروعة والديمقراطية المغتصبة من قبل الحكومات التركية المتعاقبة منذ سنة 1923، من جانب، ومن جانب آخر، لكي يكشفوا نية الأتراك الحقيقية من هذه المبادرة ويعرفوا إن كانت حقيقية وصادقة أم خدعة تكتيكية لكسب الوقت لصالحهم.
من المعروف أن مبادرات السلام في تركيا ليست بالقليلة في السنوات السابقة، لكن كل مرة تفشل هذه المبادرات بسبب مواقف الجماعات المتطرفة من كلا الجانبين، التركي والكردي، التي تجد مصلحتها في استمرار الحروب والقتال فيما بينها، وتسبح في ماء عكر. كما حدث في يوم 23 تشرين الأول (أكتوبر)، عندما وقع هجوم مسلح على مجمع صناعات الطيران والفضاء التركية في مدينة أنقرة العاصمة، كرد فعل على هذه المبادرة السلمية.
التعليقات