يلاحظ الباحث الاجتماعي ان هناك quot;ردة حضاريةquot; اصابت المجتمع العراقي وارجعته قرونا عديدة الى الوراء. وهي ظاهرة اجتماعية موضوعية نوعية تحتاج الى رصد وبحث وتفكيك وتحليل ونقد، انطلاقا من معرفة الذات ونقدها ومحاولة الكشف عن مكامن الخلل والارتداد، والوصول الى مؤشرات من الممكن ملاحظتها وتحديد مظاهرها واعراضها ونتائجها التي اصابت الفرد والمجتمع والدولة، من تخلف وتفكك وانحطاط وما اصاب الشخصية العراقية، من انقسام وتشوه وخراب، والهوية الوطنية من تمزق واغتراب، وهو ما سهل تمزيق وحدة الشعب العراقي وادخاله في مأزق حرج ووضعية لا يمكن وصفها بغير quot;الردة الحضاريةquot;، التي ارجعت العراق الى ما قبل تأسيس الدولة العراقية الحديثة.
ومن أبرز مظاهر هذه الردة ما اصاب البنية التحتية والمؤسسات الصناعية والزراعية والتجارية والخدمية من دمار وخراب، وذلك بفعل الاستبداد والحروب والحصار وأخيرا غزو العراق من قبل قوات الاحتلال، وما افرزه ذلك من فوضى وعنف وارهاب سبب ضعف الدولة وانكسار هيبتها وتفكك مؤسسات المجتمع المدني وشيوع المحاصصة الطائفية وظهور الحركات والافكار الاصولية التكفيرية والميليشيات والعصابات المنظمة وغير المنظمة والتعصب الاعمى ضد النساء والاقليات الدينية والنزوح الطائفي القسري والقتل على الهوية والمراهقة السياسية وتردي الاداء السياسي وقتل واختطاف وتهديد المئات من الاساتذة والاطباء والقضاة وغيرهم.
وقد أدى كل ذلك الى انهيار منظومة القيم الاجتماعية والثقافية والاخلاقية واعادة انتاج القيم البدوية السيئة كالفردية والعصبية القبلية والمرجلة والطائفية وترسيخها وتزايد الميل الى التغالب والتكالب على اشباع المصالح والوصول الى الاهداف بطرق ميكافيلية سريعة.
ان تصدع البنية الاجتماعية والسايكولوجية للانسان العراقي وتمزق النسيج الاجتماعي والعائلي والاخلاقي وانقسام المجتمع العراقي على نفسه الى هويات متعددة أثنية ودينية وقبلية وطائفية تتناحر فيما بينها، أدى الى تراجع مستوى العمل والانتاج والاداء الجمعي والفردي وازدياد البطالة والبطالة المقنعة والاعتماد على الدولة الريعية، مما زاد في الميل الى الانانية والفردية وحب الذات والنرجسية، وعمق في ذات الوقت، الميل الى العنف والفساد والرشوة من جهة، وتراجع السلوك الحضري عما كان عليه في الخمسينات من القرن الماضي، الذي يظهر في التداعي الاجتماعي والثقافي والنفسي والصحي والتعليمي وتردي السلوك المدني وتدني مكانة المرأة وتزايد ارتداء الحجاب (الافغاني) ولبس العقال والكوفية من قبل بعض رجال الدولة والضباط السابقين، كدلالة أو رمز لاثبات الهوية الاسلاموية والعروبية والعشائرية، وكذلك لبس الدشاديش والنعلان لاعادة انتاج القيم والعادات التقليدية القديمة من جهة ثانية. وليس من النادر ان تشاهد رجالا بلباسهم التقليدي وهم يمتطون شاحنات حديثة ويحملون اسلحة متطورة واجهزة اتصال(موبايل) ويجولون في احياء بغداد quot;الراقيةquot;، بحيث اصبح العقال والعمامة والدشداشة رموزا لقوة اجتماعية جديدة اخذت تفرض نفسها بقوة كرد فعل وتحدي سلبي ضد قيم الحداثة والعصرنة التي تطورت في منتصف القرن الماضي. كما برزت ظواهرquot; مدينيةquot; شاذة أخرى مثل دخول بعض الاشخاص الى الاسواق المركزية أوسياقة السيارة بالبيجاما(لباس النوم) التي هي أصلا زي أوربي وليس عربيا، اضافة الى ظواهر اجتماعية هجينة تتمثل بالسلوك النكوصي (أنا شعلية)، الذي يعبر عن ثقافة اللاجدوى والاستلاب وغيرها من الظواهر الاجتماعية التي لم يألفها المجتمع العراقي قبل نصف قرن تقريبا.
ويمكننا تأشير أهم اسباب هذه الردة الحضارية بما يلي :

أولا - التركة الثقيلة التي خلفها النظام الشمولي السابق
ان تركة ثلاث عقود من الاستبداد والقمع والاستلاب جعلت العراقيين يعيشون واقعا مريرا. فبالرغم من انهم ذاقوا طعم التحرر من النظام السابق لأول مرة وبدأوا يتولون قيادة مجتمعهم ويحاولون امتلاك ارادتهم واعادة انتاج وعيهم من جديد والعمل على بناء دولة القانون والمجتمع المدني والاستفادة من وسائل الاتصال الالكترونية الحرة التي حرم منها العراقيون في العقود الاخيرة، فانهم وقعوا في براثن قوات الاحتلال الجاثمة على صدورهم، مما شجع اعوان النظام السابق وعدد من الارهابيين والميليشيات ومن يدعمهم ويقف وراءهم من وراء الحدود على استعمال منطق القوة والعنف بذريعة مقاومة الاحتلال واستخدام جميع وسائل وادوات الارهاب الدموية والتكفيرية لاعاقة بناء الدولة العراقية التي قوضها الاحتلال.
لقد عانى العراقيون من محنة عسيرة هزت كيانهم وارتبطت بوجودهم وهويتهم وكرامتهم ومستقبلهم وحاولوا اعادة انتاج ذاتهم ولكن بشكل مقلوب، وذلك بسبب انهيار الدولة وقدراتها وتدمير مؤسساتها وبناها التحتية، الذي يعني في الحقيقة، كسر هيبة الدولة وتفكيك مؤسساتها التي بنوها منذ عقود طويلة، مثلما يعني محاولة لاعادة بنائها من جديد ولكن وفق مواصفات جديدة تخدم بالدرجة الاولى استراتيجية الولايات المتحدة الاميركية، مما انتج quot; فوضى quot; سببت زيادة في تمزق العلاقات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية وتفكك المعايير والقيم الاخلاقية واصبح الهاجس الأول والاساسي للعراقيين هو قضية الأمن والفوضى والعنف والارهاب.
ان هذا الوضع المأساوي الذي وصلنا اليه، يكشف بشكل واضح عن مدى عمق المحنة السياسية التي يعاني منها الشعب العراقي، مثلما يكشف وبوضوح اكبر، بأن قوى المعارضة، في الداخل والخارج كانت ضعيفة ومفككة وغير موحدة في جبهة وطنية قادرة على قيادة البلاد الى بر الامان بعد تغيير النظام السابق وذلك للاسباب التالية :
أولا : انها لا تمتلك مفاهيم سياسية واضحة ولا القدرة على انتاج آليات فعالة للتغيير.
ثانيا : أنها لا تمتلك قواعد جماهيرية حقيقية وعريضة، وقد تبين ذلك في انهيار الثقة بها بعد الانتخابات، خصوصا بعد ان تغيرت موازين القوى في العقود الاخيرة.
ثالثا : فقدانها الوعي الحقيقي والعميق بآهمية المشروع السياسي الوطني المتكامل للتغيير وكذلك آلياته.
رابعا : انها لم تفكر بالتخطيط والاعداد لما سيحدث في المستقبل من مستجدات ومخاطر لابد وان تحدث بعد أي تغيير سياسي.
خامسا : كان على المعارضة العراقية ان تدرك بان القوى العظمى، التي استطاعت تحطيم الاتحاد السوفيتي، تستطيع تحطيم العراق. ففي الوقت الذي كان المعسكر الاشتراكي السابق يدعم نظام صدام حسين، كانت أمريكا تؤيده ايضا، وهو ما يوصلنا الى نتيجة هامة، هي انه عندما سقط الاتحاد السوفيتي كان لابد وان يسقط نظام صدام حسين ايضا. فهل فكرت المعارضة العراقية بعمق قبل ان تخطو خطوتها الاولى في الموافقة على اسقاط نظام صدام حسين من قبل الحلفاء بدون مبادىء وشروط يتفق عليها مسبقا؟ وهل كان العراقيون يجهلون أنفسهم ويجهلون ما يريدون عمله وكيفية التخلص من النظام الدكتاتوري؟ وهل فكروا فيما يمكن ان يحدث بعد سقوط النظام الشمولي الذي رسخ سلطته على مدى اكثر من ثلاثة عقود وما هي البدائل المحتملة؟!

ثانيا ndash; تبعات الاحتلال الاميركي
بعد خمس سنوات على سقوط بغداد بأيدي قوات الاحتلال، أصبح الوضع أسوء بكثير مما كان عليه قبل الاحتلال، لأن التغيير الذي جرى في العراق باسقاط النظام الشمولي السابق، بالرغم من انه مطلب وطني ومشروع، لم يجر بأيدي عراقية، وانما عن طريق غزو اميركي وبالقوة شاءت المعارضة أم لا!. ويعود السبب في ذلك الى ان المعارضة العراقية لم تستطع خلال اكثر من ثلاثة عقود توحيد نفسها في مشروع وطني واحد وتكوين قيادة وطنية موحدة تجمع كل العراقيين تحت خيمة وطنية واحدة. وبالرغم من ان المعارضة العراقية في الخارج عاشت اكثر من عقدين، فانها لم تكن سوى صورة أخرى للمعارضة المفككة في الداخل، التي تعرضت الى انواع من الاستبداد والقمع والقسوة، فيما عاشت المعارضة في الخارج في دول ليبرالية وديمقراطية وغيرها، التي وفرت لها هامشا من حرية الحركة والعمل السياسي، ولكنها لم تتعلم مبادىء الديمقراطية ولم تمارسها، ولذلك بقيت ضعيفة ومفككة ولا تمتلك القدرة وصنع القرار لأحداث عمليات تغير وتغيير جذرية، كما بقيت غير موحدة في هوية وطنية واحدة ومنقسمة على ذاتها الى تنظيمات سياسية عامودية وأفقية تتكلم بالديمقراطية ولا تمارسها في الواقع العملي وترفع شعار الوحدة الوطنية ولكنها متفرقة المصالح والاهداف ومنقسمة على نفسها أثنيا ودينيا وطائفيا، منذ لجنة العمل المشترك التي تأسست أثر احتلال الكويت وتشكيل جبهة موحدة ضد النظام العراقي وهيأت لعقد مؤتمر بيروت عام 1991 تم مؤتمر فينا عام 1992. واذا كان مؤتمر صلاح الدين، الذي عقد في ايلول 1992، ووزع نسب التمثيل بين الاحزاب الاسلامية والكردية والقومية واليسارية وغيرها للمشاركة في المؤتمرات ليس على اساس طائفي مكشوف، فان واقع الحال يبين بان الاحزاب العراقية تشكلت على اساس اثني وديني وطائفي تمثلت بالاحزاب الاسلامية الشيعية والسنية وكذلك الاحزاب الكردية والتركمانية وغيرها، مما طبع المعارضة منذ ذلك الوقت، بصفة المحاصصة الطائفية، التي قامت على اساسها المشاركة في مؤتمرات المعارضة العراقية، تلك البداية التي ساعدت على انسلاخ المعارضة العراقية من محيطها المحلي الى الاقليمي. وقد ساعدت قوات الاحتلال على ترسيخ المحاصصة الطائفية التي اعتمدها بريمر في تأسيس مجلس الحكم المؤقت، الذي لم يضع اسسا لبناء دولة القانون والمجتمع المدني الذي انتظرها الشعب العراقي عقودا طويلة، وانما قام بتثبيت تطلعاته الخاصة التي جرت الى التكتل الطائفي وتوزيع الادوار والمناصب على هذا الاساس، حيث أخذ كل واحد ينهش جزءا من جسده المدمى الذي تعرض لسياط الجلادين الكبار والصغار مخترقا جميع القيم والاعراف والمقدسات من اجل اهتبال هذه الفرصة الذهبية لافراغ غضبه وحقده واشباع انانيته التي ما زالت في عنفوان قوتها. فالحرية والديمقراطية التي لم يعرفها الشعب ولم يمارسها او يختبرها، تطلق العنان للمكبوت والمحرم والممنوع وتغلفه بشعارات قومية ودينية ووطنية براقة تشجع على انفجار الصراعات الاجتماعية والسياسية والعصبيات القومية والقبلية والطائفية.
ان هذه الاحداث الفوضوية احدثت بدورها تغيرات نوعية وجوهرية في مقدمتها تمثلات في الفكر طالت أسس الذهنية والهوية الوطنية والشخصية العراقية وغيرت كثيرا من طرائق التفكير والعمل والسلوك لدى الفرد العراقي، كما احدثت عنده اختلالات في المنظومة الثقافية والقيمية والسلوكية، مثلما طالت شبكة العلاقات الاجتماعية والعائلية والاخلاقية.
وبالرغم من ان مرحلة الفوضى، هي مرحلة تحول انتقالية من نظام استبدادي ndash; شمولي الىquot; تعددي ديمقراطي توافقيquot; يصاحبها هدم وتقويض لكثير من البنى الاساسية، كنتيجة طبيعية تصاحب انهيار كل نظام كما حدث في المانيا النازية واليابان في الحرب العالمية الثانية وكذلك مرحلة ما بعد سقوط الاتحاد السوفييتي ودول اوربا الشرقية، غير ان ما حدث في العراق يختلف في كثير من جوانبه مع ما حدث فيها. ففي اغلب تلك الدول لم تنهار اسس الدولة ومؤسساتها الاساسية بهذا الشكل الفوضوي (بسبب تراثها الحضاري ـ المديني)، مما فسح المجال امام الغرائز الاساسية للفرد للانفلات والتعبير عنها او اشباعها بشكل عفوي ومنظم في آن.

ثالثا ndash; quot;الفوضى الخلاقةquot;
لقد بينت الاخفاقات المتتالية لقوات الاحتلال منذ البداية وفي جميع المعايير أنه لم يكن ثمة اعداد سياسي جدي للحرب، مثل التحالف الذي بناه جورج بوش الاب لتحرير الكويت في بداية التسعينات من القرن الماضي، مثلما اخفقت في فرضها quot;الفوضى الخلاقةquot;، التي سببت quot;فوضى هدامةquot; و فراغا اداريا وسياسيا كان من نتائجه عدم استتباب الامن وشيوع العنف والارهاب والتمزق الاجتماعي، الذي هو نتيجة للاحتلال ولطبيعة السياسة الامريكية وما ارتكبته من اخطاء جسيمة في مقدمتها تفكيك الدولة ومؤسساتها الرئيسية وفشلها في اعادة انتاج البنى التحتية واعادة التوازن الى المجتمع العراقي وتوفير مناخ ملائم فيه هامش من الديمقراطية الحقيقية لاعادة بناء العراق من جديد، وفي مقدمة ذلك تشكيل حكومة فعالة يشارك فيها من أهل الخبرة والكفاءة من احزاب المعارضة والمستقلين والتنكنوقراط والاكاديميين من الداخل والخارج، ليس على اساس المحاصصة الطائفية، وانما على اساس الشخص المناسب في المكان المناسب. ولو حدث ذلك لكان من الممكن تجنب حدوث مثل هذه الفوضى الادارية والسياسية والاقتصادية. كما اخفقت اخفاقا كبيرا في تشجيع الاحزاب ومشاركتهم في السلطة على اساس عرقي وديني وطائفي بدلا من المشاركة على اساس وطني. واذا ادعت امريكا انها تريد نشر قيم الغرب ومصالحه ودمقرطة العراق وانضمامه الى دول العالم المتقدمة، فلماذا فشلت يا ترى في ذلك؟ يبدو ان جميع ما قامت به لم يصمد امام الحقائق التي تجري على ارض الواقع وانكشف زيف المشروع الايديولوجي الذي حملته قوات الاحتلال، وهو افتراض تطبيق الديمقراطية في العراق مثلما طبقت في اليابان والمانيا واوربا الشرقية. فالعراق لا يشبه تلك الدول التي كانت مستعدة والى حد كبير لتقبل النموذج الغربي لاحتضان مبادىء الديمقراطية واقتصاد السوق، وفي مقدمتها الانظمة الاستبدادية الشمولية المحيطة بالعراق والصراع التاريخي مع اسرائيل من جهة، وضعف الوحدة الوطنية والانقسام الى ولاءات اثنية ودينية وطائفية، وكذلك ضمور الطبقة الوسطى، التي يمكن ان تستند عليها وتحملها على اكتافها، فقد قوض النظام السابق الطبقة الوسطى ومزق الوحدة الوطنية ووسع الهوة التي تفصل بين الاثنيات والاديان والطوائف وانقسم المجتمع على ذاته، بحيث يغدو الحديث عن مجتمع مدني تعددي ديمقراطي، تحت هذه الظروف شبه مستحيل، لان الديمقراطية، كمفهوم طبيعي، هي اكثر من ثمرة مؤسسات مدنية وتقسيم عمل، انها ثقافة وقيم ومعايير وممارسة للحرية والاستقلالية والحداثة واحترام حقوق الانسان. ولا يمكن ان تكون هناك ديمقراطية بدون وجود ديمقراطيين واعيين بها وعيا حقيقيا وليس مزيفا.
في تصريح لوزيرة الخارجية الاميركية رايس عن quot;الفوضى الخلاقةquot; قالت فيه، بأن الاوضاع الحالية في البلاد العربية ليست مستقرة وان الفوضى التي تفرزها عملية التحول الديمقراطية في البداية هي quot;فوضى خلاقةquot;، ربما تنتج في الأخير وضعا أفضل مما تعيشه المنطقة حاليا.
لقد كان قدر العراق المفكك الاوصال ان يقع تحت رحمة الاحتلال من جهة، والتركة الثقيلة التي خلفها النظام الشمولي السابق من جهة ثانية، وتحت رحمة اجندات دول الجوار، وبخاصة ايران وتركيا وبعض الدول العربية من جهة ثالثة، التي لكل منها مصالحها واهدافها السياسية التي تريد تحقيقها، مستغلة ضعف الدولة وتفككها ومحاربة قوات الاحتلال الاميركي في غير ارضها.
كما كشف سقوط النظام سلوك العرب وارتباكهم حيال ما يجري في العراق. فهم يخافون من اي نجاح للمشروع الديمقراطي، لان ذلك يعني انتقال العدوى الى بلدانهم، كما انهم يخافون من فشل المشروع الديمقراطي، حتى لا تنتقل الفوضى الى بلدانهم.
ان هذه الردة الحضارية، هي لحضات تاريخية حرجة يمر بها العراق، يكشف فيها المجتمع والثقافة والسلطة في العراق عن ذواتها وترفع الاقنعة عن وجوهها الحقيقية وتفشي اسرارها وخفاياها بدون مواربة. فالخراب الذي عم العراق، هو ليس نتيجة لخروج المارد الجبار المحاصر من كل مكان من القمقم الذي حبس فيه بعد ان وجد له الآن متنفسا ليظهر عاريا متحررا ومندفعا ينتهز أية فرصة مناسبة للثأر والانتقام مما ألم به والحصول على حصته من quot;الكعكةquot; السائبة على قارعة الطريق فحسب، وانما هي نتيجة لعوامل اخرى كالاحتلال والعنف والارهاب ومواقف دول الجوار، التي تريد تفكيك العراق وبقاءه ضعيفا مفككا وغير قادر على الوقوف على رجليه.

رابعا ndash; عدم اعادة اعمار العراق
لقد اخفقت قوات الاحتلال وكذلك الحكومات العراقية التابعة لها في عدم تنفيذها برنامجا شاملا لاعادة بناء الاقتصاد العراقي بدءا باعادة بناء البنية التحتية وتحريك الدورة الاقتصادية وخلق فرص عمل جديدة وتخفيض البطالة وبصورة خاصة بين الشباب الذين تحولوا الى العمل في صفوف العصابات الاجرامية والميليشيات الطائفية. كما ان انهاء خدمات 385 الف عسكري في الجيش العراقي ومئات الالوف من رجال الشرطة والأمن وتدمير واغلاق المصانع العسكرية وكذلك الفشل في مكافحة الفساد المستشري في مفاصل الدولة منذ البداية، كون جيشا من البطالة والبطالة المقنعة.
ان عدم الاهتمام باعادة بناء البنيات الاقتصادية والاجتماعية والنفسية وتحلل منظومة القيم الاجتماعية والدينية والاخلاقية، التي حافظ عليها العراقيون اجيالا عديدة، ادت الى تدمير انسانية الفرد العراقي واهانته واذلاله بحيث اصبح غريبا عن ذاته ومجتمعه وعن طبيعته الاجتماعية مما ساعد على تدمير القيم والمعايير الاجتماعية والدينية والاخلاقية والقانونية التي سادت قبل حرب الخليج، مما كان له تأثير كبير على وحدة المجتمع وتفكك النسيج الاجتماعي والاخلاقي للعائلة العراقية ووحدتها. وما الفوضى واعمال العنف والنهب والسلب والتدمير الذاتي التي طالت المدن والمؤسسات والكارثة الحضارية الفظيعة التي طالت الكنوز الأثرية والمؤسسات الثقافية والذاكرة العراقية إلا نتاج لهذه العوامل الذاتية والموضوعية التي مر ذكرها، التي دفعت الى الفراغ الأمني والاداري والسياسي وتفجير المكبوتات التي تراكمت عبر أكثر من ثلاثة عقود واججت شحنات الحقد المشروع وغير المشروع وتفريغها باشكال واساليب مختلفة من العنف والارهاب والقتل على الهوية والصراع على المصالح والمناصب والنفوذ واستشراء الفساد الاداري والمالي والاقتصادي، الذي كون مناخا ملائما لمزيد من العنف والارهاب، الذي اخذ يدمر الوجود الاجتماعي والحضاري ويعمل على التخلص من الآخر المختلف بكل الوسائل والادوات التدميرية واشاعة ثقافة العنف والارهاب ورفعها الى مستوى المقدس باسم الدين وتبريره ايديولوجيا بكونه جهادا في سبيل الله.
ومع ذلك فلا يمكن تعميم هذه الظاهرة على جميع العراقيين، فما زال هناك ملايين العراقيين المخلصين لوطنهم والساكتين على مضض، في وجه الاحتلال، الذين ما زالت اصواتهم غير مسموعة، وسط ضعف الدولة والاحتلال والفوضى والعنف والارهاب.

خامسا : ضعف الدولة، قوى المرجعيات القبلية والدينية والطائفية
لقد دفعت قوات الاحتلال وضعف الدولة وتفككها بالمجتمع الى الفوضى والتشضي واقتسام الدولة والسلطة والثروة والنفوذ والبحث عن مرجعيات خارج اطار الدولة وذلك بسبب الخوف من المستقبل والحاجة الى البقاء والحماية وانتهاز الفرص السانحة. وهو ما جعلهم بوعي اوغيره الى استغلال الفوضى والحرية المنفلتة والديمقراطية الشكلية والبحث عمن يحميهم ويوحدهم تحت خيمات او مرجعيات قبلية او دينية او طائفية او غيرها. وهو ما يمنحهم شعورا بالانتماء يكون مصدر قوة ووحدة وتحدي من جهة، وحيث يتحول الشعور بالانتماء الى الوطن والولاء له الى الشعور بانتماءات وولاءت متعددة، التي تدفع بالضرورة الى الصراع فيما بينها على القوة والسلطة والنفوذ، في غياب دولة القانون والمجتمع المدني من جهة اخرى.
وهكذا برزت على السطح بعد التاسع من نيسان عام 2003 حالة من الاصطفاف القومي والقبلي والديني والطائفي لم يشهدها العراق من قبل. فبالرغم من وجود تمايز طائفي وعودة الى القيم العشائرية وتشجيعها وترسيخها من قبل النظام السابق، فانها بقيت محدودة وفي اطار ضيق. وكان غياب الدولة وانهيار مؤسساتها كافيا لتوفير مناخ ملائم للولاءات العشائرية والطائفية، التي اخذت تكتسب قوة وتطورا ونفوذا. ففي المجتمعات المنقسمة عرقيا ودينيا وطائفيا، بحسب ارك ديفيز، يسود الصراع والتنازع والاحتراب ويدفع الى التركيز على الهويات الفرعية. وهو سبب من الاسباب التي يعاني منها عراق ما بعد صدام حسين، حيث يسود تناقض حاد بين الدعوة الى الالتزام بالديمقراطية والتعددية واحترام حقوق الانسان، وبين الصراعات الحادة بين مكونات الشعب العراقي وبين القيادات السياسية والاحزاب والمليشيات واستفحال العشائرية والطائفية والمناطقية وانتشار الفساد والرشوة والتحريض على العنف السياسى وانتهاك حقوق الانسان.
ان هذه التناقضات البنيوية التي اخذت تطفو على سطح المجتمع العراقي، التي كان النظام السابق يخفيها بعناية وحذق، اطلت برأسها بكل قوة بعد ان كانت خامدة تحت الرماد، وخرج الاقوياء والضعفاء والمستضعفون والمهمشون مشغولين بصف انفسهم في فئات اثنية وقبلية وطائفية ومناطقية، دون ان يكون لهم اية تجربة سابقة، لا في الدولة ولا في الممارسة الديمقراطية ولا في التعامل مع بعضهم البعض الآخر على اساس التفاهم والتواصل والحوار. وما ان سقطت دولة الامتيازات الشمولية التي كانت تتحكم في رقاب الناس، حتى شرعوا وبشكل عشوائي بتصفية ثاراتهم القديمة وانتزاع ما يمكن انتزاعه منها من المال والسلاح والقوة، وفرض انفسهم كحقائق على الارض قبل ان يشتد ساعد الدولة الجديدة التي تهدمت بفعل ضربات موجعة من قبل قوات الاحتلال وما رافقها من قتل وتدمير من قبل الجماعات الارهابية ذات الآيديولوجية التكفيرية وكذلك من قبل اعوان النظام السابق الذين اشاعوا الخوف والرعب في النفوس ودفع الى تمترس الفئات والعشائر والطوائف والاحزاب ضمن حدود جغرافية ndash; محلية ومناطقية وطائفية اما دفاعا عن النفس او محاولة الحصول على مزيد من المكاسب على حساب الشعب العراقي او لاهداف ومآرب اخرى.
والحال، يمكننا فهم هذا النوع من الاصطفاف القومي والديني والطائفي كشعور سايكولوجي يضطر الافراد الى اللجوء الى جماعة او قبيلة او طائفة او محلة لحمايتهم من أي خطر يهددهم، خصوصا بعد سقوط النظام السابق الذي ساوى فى مفهوم الانتماء بين الوطن والنظام، الذي لم يكن يعني سوى رئيس النظام فقط، كما يقول الدكتور قاسم حسين صالح، استاذ علم النفس العراقي، وجعل الانتماء الى الشخص وليس الوطن معيارا للمواطنة، وبذلك فقد مفهوم المواطنة فلسفته ومعناه. ولكن عندما انهارت المعادلة بعد سقوط النظام السابق وتفكك الدولة وشيوع الفوضى والعنف والفساد وتزايد حدة الصراع والاحتراب الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وتراكم الشكوك والاوهام والتآمر والارتياب من الاخر، في هذه الوضعية القلقة من التسطيح والتعويم والتمركز على الذات تهتز الافكار والعقائد والقيم ويصبح الوضع مؤهلا لملىء الفراغ. فبدلا من الدولة الضعيفة التي لم تعد تحميه، يجد الفرد نفسه امام خيارين، فأما ان يسكت ويهرب ويخضع للأمر الواقع وربما يسحق تحت أرجل quot;الفوضى الهدامةquot;، أو ان يبحث عن ولاءات يحتمي بها ويتعصب لها مقابل ان توفر له الحماية وتضمن له البقاء والعيش والارتزاق. وهكذا تمت عملية الاصطفاف المصلحي، القبلي والطائفي والمناطقي والمحلي، كبديل لما كانت تقوم به مؤسسات الدولة. وقد ساعد quot;مجلس الحكمquot; الذي تم تعينه من قبل قوات الاحتلال وكذلك الاحزاب والمرجعيات الدينية والطائفية والسياسية والميليشيات الارهابية وتدخلات دول الجوار المباشرة وغير المباشرة على تكريس تعدد الولاءات الاثنية والقبلية والدينية والطائفية على حساب الوحدة الوطنية.
وهكذا وقع العراق في حالة من الفوضى والانهيار التدريجي، محاصرا بين قوات الاحتلال الغاشمة من جهة، وبين منظمات ارهابية تكفيرية وعصابات اجرامية مرتزقة وميليشيات طائفية ذات مصالح خاصة وغيرهم من جهة ثانية، وبين حكومة محاصصة ضعيفة لا حول لها ولا قوة، يستشري بين مفاصلها الفساد وتنخر في جسدها الرشوة والمحسوبية والمنسوبية من جهة ثالثة، وبين شعب ممزق ومنقسم على ذاته وفيه من الصراع الاثني والقبلي والطائفي والطبقي اكثر من اي بلد عربي آخر، مع ضغوط وتدخلات دينية وقومية وطائفية وسياسية من قبل دول الجوار لتشابك العلاقات والمصالح والادوار معها من جهة رابعة.
كل هذه العوامل مجتمعة تؤثر على طبيعة الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وعلى العقل والقيم والسلوك وتحدث خللا وتناشزا وصراعا يزيد من حدة الاحتراب السياسي والطائفي والطبقي، وكذلك من وتيرة العنف والارهاب. وهو لذلك بامس الحاجة الى تغيير وعيه الاجتماعي والسياسي وعقليته وسلوكه ونظرته الى الاخر وبذل الجهود لتعلم قيم التسامح والديمقراطية والتمرن على ممارستها التي تتيح له فسحة من الامل والحرية والاستقلالية في ابداء الرأي واحترام الرأي الآخر والتواصل والتفاهم والحوار.

ضرورة اعادة النظر في خطابنا الفكري وسلوكنا الاجتماعي
ان اعادة بناء المجتمع العراقي المنقسم على ذاته وامتلاك الارادة لاعادة الوعي الاجتماعي والوحدة الوطنية من جديد يحتاج الى اعادة هيبة الدولة واخضاع جميع التنظيمات المسلحة لسلطتها المركزية، وكذلك دعم القانون ومؤسسات المجتمع المدني، وهو ما يؤمن للمواطن قدرا من الحرية والعدالة واحترام حقوق الانسان.
واول خطوة ينبغي اتخاذها في هذه المرحلة الحرجة والمعقدة، هي تجنب ثقافة العنف والاحتراب الطائفي والالتزام بثقافة التسامح والتواصل والحوار العقلاني، فالعنف لا يمثل فضيلة، بقدر ما يمثل تعديا على حقوق الآخر المختلف. واذا كان العنف فضيلة الانسان القوي، فالتسامح لا يمثل سوى ضعف الانسان الذي تعوزه الشجاعة لان يكون متسامحا، وان قوة التسامح تكمن في الحقيقة في مبدأ ان تعيش وتترك الآخر يعيش بسلام.
ان على العراقيين اعادة النظر في الخطاب الفكري والسلوك الاجتماعي وما ترسب في الاذهان من اوهام كنا وما زلنا نعتبرها حقائق دامغة. وعلى العراقيين ان ينزلوا من ابراجهم العاجية التي بنوها في احلامهم وكبريائهم وان يعوا واقعهم الحقيقي وليس المزيف، بكل ايجابياته وسلبياته، وان يقيموا حوارا يقوم على اساس تفاهم وتواصل عقلاني رشيد، وان يمارسوا كل ذلك ممارسة عملية بحيث تتيح لكل فرد حرية الرأي والاختلاف والتفاهم والحوار وعدم احتكار المعرفة وفرض الرأي بالقوة على الاخر.
والخطوة الاخرى الهامة التي علينا تحقيقها هي الاندماج السياسي في مشروع الدولة الوطنية على اساس الولاء الى دولة القانون والمجتمع المدني واحترام حقوق الانسان والانتماء الى وطن واحد وهوية واحدة، ولا يتم ذلك الا وفق مؤسسات مدنية سياسية لا شخصانية وفي ظل تعددية اجتماعية وسياسية تجمع وتوحد جميع مكونات المجتمع العراقي. ومن الضروري تمكين جميع تلك المكونات الاجتماعية من تعريف نفسها ومصالحها وهويتها الفرعية ضمن مشروع الدولة الوطنية. وبالمقابل على الدولة، كاطار سياسي، ان تكون مرجعا مستقلا عن السلطة السياسية، لان جوهر عمل الدولة هو ان تؤدي وظيفتها المستقلة باعتبارها ممثلة للمواطنين وليس لشخص الحاكم وان تكون مستقلة عن المجتمع الذي شكلها، وان تكون لها مرجعية شرعية مستقلة ومحايدة لها معاييرها وآلياتها الخاصة بها. وهو ما يمكنها من ان تكون متحررة من الولاءات والانتماءات للثقافات الفرعية.
ان مشروع الدولة الوطنية يجب ان يكون لها كيان سياسي وان تكون دولة قانون وليس مجرد اقرار فعلي بالتعددية الاجتماعية والثقافية والسياسية، وانما ايضا اقرار فعلي بالمساواة السياسية التامة بين جميع افراد وجماعات وفئات المجتمع العراقي التي يقرها القانون وتدعمها مؤسسات المجتمع المدني، وهو الطريق الصحيح لبناء الدولة الديمقراطية الحديثة، التي لا يمكن ان تقوم ما لم تحسم مشكلة العيش المشترك والولاء والانتماء الى وطن واحد وهوية واحدة تجمعها مشاعر الافراد والجماعات ووعيهم الاجتماعي الكامل بانهم يخضعون لهذه المؤسسات الطوعية بدون تمييز. وقد بينت التجارب السياسية على طول التاريخ في العراق وفي غيره، انه لا يمكن اقامة دولة القانون بدون تحقيق فكرة المواطنة وان الدين لله والوطن للجميع.