أعتقد أن الشعب الأردني لم ينتظر خطابا سياسيا أردنيا بشغف وقلق، كما انتظروا خطاب العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، الذي ألقاه يوم الأحد الموافق الخامس والعشرين من مايو 2008 بمناسبة عيد الاستقلال الأردني الثاني والستين، وذلك بسبب العديد من الزوابع والاتهامات التي أثارها برلمانيون وإعلاميون أردنيون في الأسابيع الأخيرة، تعامل معها القصر الملكي بهدوء وصبر يليق بالملوك الذين يحترمون مكانتهم الدستورية كحماة للبيت الواحد، بكل من فيه من مخلصين ومجتهدين وغيورين على البيت، وغوغائيين يفتقدون الحكمة والتدقيق الذي يقود للحقيقة بعيدا عن الإثارة الإعلامية التي تضع صاحبها تحت أضواء الشهرة لأيام قليلة، ثم يتلاشى كغبار الزوبعة التي أثارها. وقد كان ترقب الأردنيين للخطاب الملكي رغم أنه خطاب سنوي في مثل تلك المناسبة، لأن موعده كان سيحين بعد أسابيع قليلة من اتهامات أطلقتها النائبة الأردنية السيدة ناريمان الروسان، طالت الدكتور باسم عوض الله رئيس الديوان الملكي والوزير السابق في أكثر من وزارة، مما يعني أنه كان وما يزال من الطاقم القيادي الذي يحظى بثقة العاهل الأردني . كانت تلك الاتهامات من العيار الثقيل جدا، إذ وصفت رئيس الديوان الملكي بأنه مثل الجاسوس الإسرائيلي(إيلي كوهين) الذي كان من أعمدة القصر الرئاسي السوري قبل أن يكتشف أمره ويتم إعدامه في الستينيات من القرن الماضي . وقد كالت النائبة اتهاماتها تلك في جلسة للبرلمان الأردني، بطريقة خطابية دون تقديم أية معلومة سوى اتهامات ببيع أراض حكومية وصفقات مشبوهة حسب خطابها، الذي رفضه رئيس مجلس النواب عبد الهادي المجالي.
صبر ملكي وحكمة في الأداء
ولأن الأمر يتعلق برئيس الديوان الملكي، فقد اعتقد الأردنيون أن هناك بيانا ملكيا سيصدر سريعا، تعقبه حملة اعتقالات تطال النائبة وإعلاميين أردنيين روّجوا لانفعالاتها التي لا تليق بنائب في البرلمان يحترم نفسه ومصداقيته، إلا أن القصر الملكي ظلّ ساكتا هادئا، وكأن ما حصل هو أمر عادي، ستظهر حقيقته بدون تدخل القصر الملكي، وكذلك رئاسة الوزراء الأردنية وأجهزة المخابرات والأمن، بدليل أن السيدة النائبة ما زالت تتمتع بحقوقها كنائبة، وتمارس حياتها الطبيعية، وكذلك صحفيون أردنيون التقطوا الاتهامات الجزافية من النائبة، ليجعلوها أساسا لتقارير خيالية(نهب الأردن: صفقات بيع مشبوهة) كما جاء في عنوان أحد تلك التقارير، وكأنه تمّ بيع المملكة الأردنية كاملة شعبا وأرضا وبنية تحتية، وهذا ما يمكن للبعض فهمه من هكذا تعميم(نهب الأردن)!!.
و بعد انتظار وقلق، جاء الخطاب الشفوي الذي ألقاه العاهل الأردني في دقائق معدودة بهدوء ورزانة، متسلحا بالأمل والتفاؤل من قدرة الشباب الأردني على مواجهة كافة التحديات، كما هي مسيرة الأردن طوال نصف القرن الماضي، إذ خاطب شعبه قائلا:quot; لدينا الكثير مما نعتز به ونفتخر فيه من الإنجازات الكبيرة التي حققناها في السنوات الماضية، وهي مؤشر على أن مسيرتنا سليمة، وأنّ أداء اقتصادنا الكلي يمضي قدما نحو الأفضل، فهناك ارتفاع في نسب النمو الحقيقي،والقدرة على إيجاد فرص عمل جديدة، وزيادة انتاجية الفرد الأردني، وهذه حقائق نفخر بها وبكم، لأنكم أنتم الذين صنعتموها، وجعلتموها واقعا ملموسا بإرادتكم وعزيمتكم، ولا نريد أن نلتفت إلى أصوات المشككين بمسيرتنا الاقتصاديةquot;. وهذا ما فسره المراقبون أنه انتصار لرئيس ديوانه الملكي، ورد غير مباشر على اتهامات النائبة ومن والاها من المشككين.

ماذا لو كانت ناريمان في دمشق أو لندن؟
تسمح الديمقراطية الحقيقية للنائب في البرلمان و الإعلامي و أي مواطن أن يسأل ويحاسب أي مسؤول، طالما هو يمتلك الأدلة والمستندات للقضية التي يتهم المسؤول فيها أو حولها. ولكن ما تفوهت به النائبة الأردنية ناريمان الروسان بشكل جزافي دون تقديم أدلة ووثائق على ما تقول، وأن تظل بعد ذلك نائبة في البرلمان، وتمارس حياتها الطبيعي، فهو ما قادني للسؤال السابق، والإجابة عليه:
في دمشق
لو قالت السيدة النائبة ما قالته في مجلس الشعب السوري بحق رئيس ديوان القصر الجمهوري، لتعامل معها القصر الجمهوري من خلال أجهزة المخابرات بطريقة من إثنتين: الأولى اسمها(انتحار وزير الداخلية غازي كنعان، أكتوبر 2005)، حيث قال البيان الرسمي أنه أطلق الرصاص على نفسه في مكتبه، أي أنه انتحر ولم ينحروه !. أو الثانية التي أصبح اسمها الحركي(عماد مغنية)، أي سيارة مفخخة يتم تفجيرها على بعد أمتار من مقر دائرة المخابرات، ويغلق ملف التحقيق دون إعلان أية معلومة عن الجهة التي نفّذت الاغتيال، مما يعني أنها جهة داخلية بعلم ومساعدة الجهاز الذي تمت عملية التصفية على بعد أمتار من مقره الرئيسي. إذ لا يعقل أن عملية اغتيال بهذا الحجم والنوعية، لا يتم إعلان كلمة واحدة حولها لولا أن الدولة هي التي نفّذت العملية، وبعد هذه العملية كرسالة حسن نية، يتم الإعلان الإسرائيلي السوري عن تقدم وتفاهم في المباحثات بين الطرفين في تركيا. ويعقب ذلك السفر المفاجىء لخالد مشعل لبيت الطاعة في إيران، وكما نقلت بعض المعلومات الصحفية أنّ السفر هدفه البحث عن مكان إقامة جديد، قبل تحقيق تقدم في المباحثات الإسرائيلية السورية، يستدعي حسن نية جديدة على طريقة عماد مغنية، اسمها الحركي الجديد خالد مشعل.
في لندن
أما لو كانت السيدة النائبة في لندن لتمّ رفع الحصانة البرلمانية عنها، وتقديمها للمحاكمة للتدقيق في اتهاماتها لمسؤول في القصر الملكي البريطاني، فإن أثبتت بالأدلة والوثائق أنها حقائق وليس اتهامات، كسبت القضية وخسر المسؤول في القصر موقعه، وبالتالي محاسبته على كل تلك الجرائم التي كشفتها النائبة. أما إن لم تثبت بالأدلة والوثائق صحة اتهاماتها لخسرت موقعها في البرلمان وتمت محاكمتها على تلك الاتهامات.
أما في الأردن، فالملك شخصيا ينفي هذه الاتهامات عن رئيس ديوانه، من خلال دعوته لعدم الالتفات إلى المزايدات وأصوات المشككين بالمسيرة الاقتصادية، وأيضا كما قال الزميل عامر الحنتولي في تقريره في إيلاف يوم الأحد الخامس والعشرين مايو quot; بدأ خطابه بالتركيز على الشأن المحلي مساندا رئيس ديوانه باسم عوض الله الذي كان عرضة لحملة إعلامية ظالمة إرضاء لمراكز قوى لاسيما مع بروز لهجة تدهور بين مراكز القوى الأردنية، وهو الأمر الذي استدعى اشادة العاهل الأردني بالسياسات الاقتصادية في محاولة للجم الأصوات السياسية والإعلامية النشاز التي تعرضت لرجل مهمات الملك الخاصة الوزير عوض الله، الذي ظلّ يتحرك مبتسما في بهو مكان الاحتفال مكرسا ثقة القيادة السياسية به quot;.
ورغم هذا الموقف الملكي الواضح الرافض لتلك الاتهامات الجزافية لرئيس ديوانه، لم يتم التعرض أو الإساءة للسيدة النائبة، وهو أمر يُشكر عليه العاهل الأردني ورئيس وزرائه وأجهزته المخابراتية والأمنية، لأن هذا الهامش الواسع جدا من حرية إبداء الرأي، تطبيق ميداني لتأكيد العاهل الأردني في خطابه المذكور على(التنمية السياسية وضمان الحريات الأساسية للمواطنين ومؤسسات المجتمع المدني، وتعزيز مشاركتهم في اتخاذ القرار هي حق مكفول في الدستور، وهي متطلب رئيسي لتحقيق التنمية الشاملة المستدامة، وهذا لا يمكن أن يكون إلا بوجود بيئة تسودها قيم الحرية والتعددية والتسامح واحترام الرأي والرأي ألآخر وسيادة القانون وتكافؤ الفرص).

إن شجاعة وجرأة النائبة ناريمان الروسان مطلوبة أن تتوفر عند أي نائب، بشرط أن تكون مدعمة بالحقائق والوثائق، وليس اتهامات جزافية انفعالية، رفضها رئيس مجلس النواب عبد الهادي المجالي quot; قبل أن تبادر الروسان نفسها خلال برنامج تلفزيوني إلى القول بأن باسم عوض الله صديقها، وأنها لم تقصد ما نقل عنها حرفيا،قبل أن تثير توضيحاتها تناقضا لافتا حول المزاوجة بين صداقتها لعوض الله واتهامه بالجاسوس الذي ينفذّ مخططات مشبوهة quot; كما ورد في تقرير آخر للزميل عامر الحنتولي.
وطن التحديات و أمل العزائم
لا أعتقد أن هناك وطن أو دولة يعيش أوضاعا حسّاسة كما هو الأردن، المحاط بالمشاكل السياسية من الشرق والغرب عبر بؤر ملتهبة لا نهاية مرتقبة لنيرانها، ويترافق هذا مع ضعف هائل في الثروات الطبيعية . من هنا تبدو أهمية ما أطلقت عليه في مقالات سابقة (الاستثمار في الإنسان)، ومن أولويات هذا الاستثمار توفير مستوى كريم من الحياة، لذلك ركّز خطاب الاستقلال الملكي على أنّ(الأردن بالرغم من محدودية موارده الطبيعية وإمكانياته في طليعة دول المنطقة في مجالات عديدة في مقدمتها التعليم ونسب النمو الاقتصادي وكفاءات الشباب الأردني، الذي أثبت أنه متميز على المستويين المحلي والخارجي، وهذه الإنجازات ما كان يمكن تحقيقها لولا نعمة الأمن والاستقرار التي ينعم بها الأردن، التي هي نتاج قواتنا المسلحة والأجهزة الأمنية). ويكفي التذكير أنه في أردن الموارد والإمكانيات المحدودة، يعيش ويقيم ويعمل حوالي 800 ألف مواطن عربي، وتحديدا من العراق ومصر وسورية.
أردنيون هواة فتنة وفرقة
ضمن هذه الظروف الأردنية الحساسة التي تتعامل معها القيادة الأردنية من القصر الملكي إلى رئاسة الوزراء والأجهزة الأمنية بحكمة ودقة عالية، هناك مواطنون أردنيون ينفخون في نار الفتنة من خلال التفريق بين مواطن ومواطن، رغم تأكيد الملك الحسين الراحل دوما على(أردن الأردنيين من كافة المنابت والأصول)، وتأكيد الملك عبد الله الثاني:(أنا أعرف الواقع الذي يعيشه أبناء وبنات هذا الوطن العزيز في مختلف مناطقهم من الشوبك إلى المفرق، ومن المريغة إلى الأزرق، ومن مخيم حطين إلى القويرة وجرش وغيرها الكثير في الأرياف والبادية والمخيمات) . فمثلا في سياق الاتهامات العشوائية التي ساقتها النائبة ناريمان الروسان بحق رئيس الديوان الملكي الدكتور باسم عوض الله، وعادت تقرر أنها لا تقصدها كما أوضحت سابقا،فقد كتب الكاتب الأردني ناهض حتر تقريرا في جريدة quot;الأخبارquot; اللبنانية يوم الثالث عشر من مايو 2008، بعنوان quot;نهب الأردن: صفقات بيع مشبوهة quot;، تحدث في بداية تقريره عمّا أطلق عليه(مجموعة الليبراليين الجدد المتنفذين وصقور رجال الأعمال)، فيقولquot; ويقود هذه المجموعة باسم عوض الله وهو في الثالثة والأربعين من العمر، ومن أصل فلسطيني أميركي، قدم إلى الأردن مطلع التسعينات، وعمل موظفا بسيطا في رئاسة الوزراء والديوان الملكي، ثم أصبح رغم الهجمات العنيفة التي تعرض لها من خارج النظام وداخله، أقوى رجل في عهد الملك عبد الله الثاني، ويحتل منصب رئيس الديوان الملكي، ويرافق الملك كظله. ويسبب صعود عوض الله الذي لا يحظى بأي حيثية سياسية أو عشائرية أو اجتماعية في الأردن تساؤلات عن مصدر قوته).
فهل هذا التوصيف يخدم الوحدة الوطنية في الأردن؟ ومصدر غرابتي أن الزميل الكاتب ناهض حتر من الكتاب العلمانيين التقدميين، حيث يفترض أن يكون تقييم أي مسؤول عنده حسب أدائه وإنجازاته وليس أصله وفصله . لذلك أتساءل: ما المقصود بقوله(من أصل فلسطيني أميركي) سوى إعطاء تشكيكه نفحة إقليمية بذكر أنه فلسطيني، ونفس مؤامراتي بذكر أنه أمريكي). وفي الوقت الذي تنادي فيه غالبية القيادات الأردنية وعلى رأسها الملك عبد الله الثاني بتعزيز مفاهيم المجتمع المدني ومؤسساته الديمقراطية، يعيب الكاتب على باسم عوض الله، أنه(لا يحظى بأي حيثية سياسية أو عشائرية أو اجتماعية)، وهذا في رأيي لا ينسجم مع الطرح التقدمي الذي يرى أن تقييم الشخص يكون من خلال أعماله وليس من خلال انتمائه السياسي أو الاجتماعي أو العشائري.
وضمن نفس السياق التوتيري، جاء ما نشره موقع quot; الحقيقة الدوليةquot; يوم الحادي والعشرين من مايو 2008 حرفيا: quot; قالت النائب الروسان للحقيقة الدولية، أنها بصدد إعداد مذكرة نيابية تطالب فيها وزير الداخلية عيد الفايز شرح الأسس التي تمّ بموجبها منح الإعلامي عمر كلاب الجنسية الأردنية قبل ثلاث سنوات quot;. وذلك على خلفية نشر عمر كلاب(من أصول غزّاوية) مقالة بعنوان(باسم عوض الله: ظلال المكان واغتيال الإنسان)، دافع فيها عن رئيس الديوان الملكي في مواجهة اتهامات النائب الروسان. وفي نفس اليوم الحادي والعشرين من مايو نفسه نشر موقع quot; عمّون quot; الأردني خبرا قال فيه حرفيا: quot; نفت النائب الروسان في تصريحات لعمّون أن تكون قد طالبت بسحب الجنسية من الزميل عمر كلاب، مؤكدة أن الجنسية حق دستوري......مؤكدة أنها لم تطالب بسحب الجنسية أو تقوم بتوجيه أسئلة حولها أو تسلك أيا من هذه المسالك quot;، وبالتالي يحتار القارىء هل يصدق روسان الحقيقة الدولية أم روسان عمّون . و في كل الأحوال، فإن هذه الأطروحات الإقليمية لا تصب في مصلحة الأردن، ونسيجه الإجتماعي الذي يحرص القصر الملكي من الملك عبد الله المؤسس إلى الملك عبد الله الثاني على وحدة الأردنيين من كافة المنابع والأصول، فلا يوجد مجتمع في دولة في العالم يتكون من عرق واحد، و إلا ماذا نقول عن المجتمع الأمريكي الذي لا يوجد عرق في العالم إلا ويعيش فيه ويحمل جنسية اسمها الأمريكية، وهذا المجتمع يشكّل القوة العظمى الوحيدة في العالم، تحرك ما تريد بالريمونت كونترول عن بعد.
الملك: لا نخشى على مستقبل الأردن
لذلك ربما كان مقصودا أنه في اليوم التالي للخطاب الملكي المذكور، كما نقلت وكالة الأنباء الأردنية quot; بتراquot; أنّ الملك عبد الله الثاني التقى في دار رئاسة الوزراء بحضور رئيس الوزراء نادر الذهبي ورئيسي مجلسي الأعيان والنواب، وحضر اللقاء رئيس الديوان الملكي الهاشمي الدكتور باسم عوض الله ومدير المخابرات العامة الفريق محمد الذهبي وجرى البحث في العديد من القضايا التي تهم الشأن الداخلي وموقف الأردن من القضايا الإقليمية. وأكّد الملك أهمية التعامل مع القضايا الوطنية بكل وضوح وجرأة وبمسؤولية مشتركة وبسط الحقائق أمام المواطنين لقطع الطريق أمام جميع محاولات التشكيك والإساءة للإنجازات ولمواقف الأردن الوطنية والقومية quot;.
من هنا فإن ضمانة عدم الخوف على مستقبل ألأردن هو في التلاحم الوطني، وتعميق التجربة الديمقراطية التي تجد في فكر الملك عبد الله الثاني ورؤاه التقدمية حاضنة حقيقية، قياسا بغالبية الممارسات والتجارب العربية المجاورة.
[email protected]