حدثان تصدّرا المشهد السياسي في كردستان العراق هذا الإسبوع، الأول تقرير ال"هيومن رايتس ووتش" عن “جماعات مسلحة في العراق تتبع حزب العمال الكردستاني تجند صِبية وفتيات تحت سن ال15 عاماً."، ما دفع المسؤولين في المنظمة إلى إدانة الأمر بإعتباره "جريمة حرب". الثاني، تصريحات رئيس إقليم كردستان نيجيرفان بارزاني التي أكدّ فيها على ضرورة "حزب العمال الكردستاني الخروج من شنكال"، ملّوحاً ب"تحريك قواته المسلحة"، و"استخدام القوة إذا لم يخرج حزب العمال الكردستاني من شنكال".

الرد من المتحدث بإسم "منظومة المجتمع الكردستاني" جاء سريعاً بالقول: "تهديدات بارزاني لا تعنينا وقواتنا باقية في شنكال."

هذه ليست المرّة الأولى التي يدعو فيها مسؤول كردي رفيع المستوى في إقليم كردستان "العمال الكردستاني" ب"ترك شنكال والعودة إلى من حيث أتى". فسبق وطلب رئيس الإقليم مسعود بارزاني، ونجله مستشار "الأمن القومي الكردستاني" مسرور بارزاني المطلب ذاته، لكنّ "العمال الكردستاني" لم يستجب، وهو ما دعا مؤخراً إلى دخول واشنطن على الخط، مطالبةً على لسان المتحدث بإسم وزارة خارجيتها جون كيربي " العمال الكردستاني الخروج من سنجار، لأنه سيصبح عائقاً أمام عودة أهالي سنجار."

لكن الجديد في تصريحات بارزاني، هو التلويح ب"إستخدام القوة" لإنهاء وجود "العمال الكردستاني" في سنجار (أو "شنكال" كما يسميها سكان المنطقة).

تأتي تصريحات بارزاني في وقت يحاول فيه الجميع (بغداد وأربيلوجيرانهما الإيرانيون والأتراك) بالإضافة إلى قوى "التحالف الدولي ضد داعش" بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، أن يكون له موطئ قدم في الموصل ما بعد التحرير.

ولعلّ عنوان مؤتمر الجامعة الأمريكية (استقلال كردستان: الفرص والتحديات) و الذي انعقد في ال15 و16 من ديسمبر الجاري بدهوك يوضح لنا بعضاً من النقاشات والهواجس التي ستتصدر المشهد السياسي في العراق وكردستانه بعد طرد "داعش" من آخر معاقله في الموصل العراقية. 

الحديث عن استقلال كردستان يعني في ما يعنيه السياسيون في الإقليم هو استقلال كردستان العراق. وأي حديث عن انفصال الإقليم عن بغداد، لا يمكن بدون تقرير مصير "المناطق المتنازع عليها"، والتي تقع تحت بند المادة 140 من الدستور العراقي.

في ظل الأزمة السياسية والإقتصادية التي تعصف بالإقليم يبدو الحديث عن "إستقلال كردستان"، راهناً، ضرباً من "الترف السياسي"، فضلاً عن كونه شعاراً لغرض الإستهلاك السياسي المحلي. خصوصاً وأن الأحزاب الكردية الرئيسية المعارضة (في مقدمتها حركة التغيير / كورن) والمختلفة مع سياسات "الديمقراطي الكردستاني" (الحزب الأكثر سلطةً ونفوذاً في الإقليم) استقبلت تصريحات بارزاني المتكررة بخصوص "الإستفتاء" لتقرير مصير الإقليم وعلاقته مع بغداد ب"استهجان" و"فتور" واضحين. 

سنجار التي يقطنها غالبية إيزيدية (يربو تعدادهم على 370 ألف من مجموع سكان القضاء) تعتبر من "المناطق المتنازع عليها". 

قبل انسحاب منظومة الدفاع الكردستانية وسقوطها في أيدي داعش، كانت سنجار تدار من قبل "حكومة الأمر واقع" المحلية التابعة لإقليم كردستان رغم تبعيتها الإدارية لبغداد، إلا أن كلّ شيء تغيّر بعد الثالث من أغسطس 2014.

تمدد "العمال الكردستاني" وانتشار فصائله المسلحة في سنجار بعد فتحه للممرّ الإنساني وإنقاذه لحياة الآلاف من الإيزيديين المحاصرين في الجبل، في أغسطس 2014، وإنشائه لمعسكرات، حوّله بوجود حاضنة شعبية تتلقف أفكاره، إلى قوة رئيسية ورقم صعب في أي صراع محتمل في المنطقة.

على الرغم من انتشار أكثر من 40 قاعدة ل"العمال الكردستاني" في مناطق أخرى يعتبرها الإقليم تابعةً له وضمن خارطة كردستان العراق، مثل كركوك وخانقين وطوزخورماتو، إلا أنّ الخلاف بينه وبين "الديمقراطي الكردستاني" يظهر ك"صراع نفوذ" في سنجار أكثر من أي منطقة أخرى.

الصراع بين الحزبين المتصارعين في سنجار وعليها ربما يبدو "كردياً ـ كرديا" بين حزبين في ظاهره، إلا أنّ الباطن أبعد من ذلك بكثير، إذ يحمل بين طياته صراعاً عميقاً بين أجندات ومصالح إقليمية.

الصراع "الكردي ـ الكردي" في سنجار له أبعاد إقليمية، رغم بروزه بمظهر الصراع بين "الإخوة الأعداء".

ولعل بعض معالم هذا الصراع يمكن قراءته في التهديدات التركية المتكررة ل"العمال الكردستاني" والتأكيد المستمرّ أكثر من مرة على "ضرورة ملاحقته في سنجار" كونه "يشكل خطراً على الأمن القومي التركي"، وعبّر أكثر من مسؤول تركي (بينهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان) عن مخاوف "تحويل العمال الكردستاني لسنجار إلى قنديل أخرى".

تعزيز "العمال الكردستاني" لوجوده في قضاء سنجار وتشكيله لوحدات عسكرية ("وحدات مقاومة شنكال" و"وحدات مقاومة المرأة ـ شنكال") يبلغ قوامها حوالي 5000 مقاتل، بحسب مصادر محلية، بالإضافة إلى إنشائه للمعسكرات والعديد من المقرّات والقواعد العسكرية في الجبل، كل هذه مؤشرات تدلّ على أنّ "العمال الكردستاني" لن ينسحب من سنجار بسهولة. 

شقيق عبدالله أوجلان زعيم "العمال الكردستاني" المعتقل في سجن إميرالي منذ عام 1999، أوصمان أوجلان الذي انشق عن الحزب مع قياديين آخرين عام 2004، يقول في مقابلة له: "أحد الأركان الأساسية لعقيدة العمال الكردستاني هي الشهادة.. كل أرض تسقط عليها شهيد للحزب تعتبر أرضاً له". 

سنجار بحسب "العقيدة الأوجلانية" تعتبر جزءاً لا يتجزأ من أرض "العمال الكردستاني" ليس بسبب دماء شهدائه التي سقطت على هذه الأرض فحسب، وإنما أيضاً لأن سنجار تشكلّ امتداداً لعمق مشروع "الأمة الديمقراطية" الذي يقوده الحزب في "روجآفا" بالتحالف مع أكثر من طرف إقليمي في المنطقة وفي مقدمتها إيران.

ولعل حلم الحزب في البقاء في المنطقة هو الذي دفع بقادة فصائله المحلية المسلحة في سنجار إلى الإصرار على المشاركة في معركة الموصل، خصوصاً بعد حصولها على تفويض رسمي من الحكومة المركزيّة بالانضمام إلى عمليّة تحرير الموصل، كونها قوة تتبع ل"الحشد الشعبي"، وتتلقى الأسلحة والأموال من بغداد.

بغض النظر عن مشاركة قوات "العمال الكردستاني" في معركة تحرير الموصل من عدمها، إلا أنّ الحزب سيبذل كل ما في جهده للبقاء في سنجارلثلاثة أسباب رئيسية:

الأول، له بعد محلّي، يتعلق ب"فيدرالية روجآفا"، حيث السيطرة على سنجار سيؤمن للحزب السيطرة على أهم منفذ استراتيجي وحيوي يربط مشروعه بالعراق.

الثاني، له بعد إقليمي، يتعلق بتشابك وتقاطع مصالح "العمال الكردستاني" مع أجندات إيران التي ستمكن سيطرتها على مناطق سنجار وتلعفر من ربط طهران عبر "روجآفا" بالبحر الأبيض المتوسط وربط مشروع "الهلال الشيعي" ب"الهلال الكردي".

الثالث، له بعد دولي، إذ أنّ نجاح "العمال الكردستاني" في تقوية نفوذه في سنجار سيقوّي من أوراقه في اللعب مع اللاعبين الكبار، خصوصاً وأنّه نجح في سوريا إلى حدّ كبير في لفت أنظار العالم إلى رديفه السوري (الإتحاد الديمقراطي) بكونه شريكاً في استقرار المنطقة ومكافحة الإرهاب وصناعة السلام، بعد عقود من إدراجه على لائحة الإرهاب.

الصراع الحقيقي في سنجار، إذن، هو ليس بين "الديمقراطي الكردستاني" و"العمال الكردستاني"، بقدر ما هو صراع بين تركيا وإيران.

أيران تريد لسنجار منفذاً وممّرا استرتيجياً لها، يربط طهران عبر "روجآفا" بالمياه الدافئة، وتركيا تريدها ظهيراً لتلعفر لحماية الأقلية التركمانية ومحاصرة "العمال الكردستاني" وتطويق مشروعه من جهة الغرب.

 

على الرغم من التصريحات الأمريكية المتكررة المطالبة ب"سحب العمال الكردستاني لقواته من سنجار"، إلا أن واشنطن لا تزال تمسك العصا في سنجار من منتصفها. 

فهي من جهة حليفة ل"روجآفا" تحت قيادة "الإتحاد الديمقراطي" رديف "العمال الكردستاني" في سوريا، ومن جهة أخرى هي حليفة لتركيا المتحالفة مع إقليم كردستان العراق تحت قيادة مسعود بارزاني.

 

التقارب التركي ـ الروسي في الأشهر الأخيرة، وامتلاك موسكو لمعظم أوراق اللعبة في الملف السوري، يزيد من احتمال استمرار واشنطن على هذه السياسة "الوسطية" في التعامل مع ملف "العمال الكردستاني"، والتغاضي عن وجود "رديف عراقي" له في سنجار كما هو الحال في سوريا. خصوصاً وأن حراكا سياسياً تحت أكثر من مسمى يهتديب"الآيديولوجيا الأوجلانية" بدأ بالظهور في سنجار، إضافة إلى بروز قوةعسكرية تتسلّح بالآيديولوجية ذاتها وتتكون من إيزيديي المنطقة، أصبحت بحكم القانون ضمن ملاك منظومة الجيش العراقي، بعد موافقة البرلمان على إضفاء صيغة قانونية على "الحشد الشعبي" باعتبارها مساندة للجيش مع الحفاظ على هويتها وخصوصيتها.

 

في كلّ الأحوال تبقى سنجار هي "مربط الفرس"، سواء لجهة الصراع بين بغداد وأربيل، أو الصراع بين "العمال الكردستاني" المتحالف مع إيران و"الديمقراطي الكردستاني" المتحالف مع تركيا. عليه فإنّ القتال فيها وعليها يبقى مفتوحاً على الإحتمالات.

فهل ستشهد سنجار بداية "حربٍ كرديةٍ" بالوكالة؟

 

هوشنك بروكا

 

[email protected]