خلال نحو عقد من الزمن، تميزت سباقات المسافات المتوسطة بصراع البريطانيين سيباستيان كو وستيفن "ستيف" اوفيت، حتى ان جمهور بلديهما انقسم في مناصرته لكل منهما، فشكلا حالة خاصة على غرار استقطاب فرقة البيتلز وشعبية رولينغ ستونز.

كما اعتبر صراع العداءين من اجمل منافسات العاب القوى في دورة موسكو 1980، التي شهدت المقاطعة الغربية، وخاضتها بعض البعثات "الاطلسية" تحت جناح العلم الاولمبي ومنها البعثة البريطانية، وذلك بقرار مستقل من لجانها الوطنية.

ولا شك ان هذا الصراع مهد لسلسلة انجازات كو واوفيت طوال تلك الحقبة. وفي موسكو فاز اوفيت في سباق 800 م (40ر45ر1 دقيقة) وحل كو ثانيا (85ر45ر1 د). وحصد الاخير ذهبية 1500 م (40ر38ر3 د) وجاء اوفيت ثالثا (99ر38ر3 د) خلف الالماني الشرقي يورغن ستروب (80ر38ر3 د).

كان كو في الرابعة والعشرين واوفيت في الخامسة والعشرين. وعموما اعتبر تقدم اوفيت في 800 م مفاجأة. ويذكر كو انه ركض للفوز "واعتقد اني بذلت قصارى جهدي، لم افلح واعاقني الهواء. حاولت الالتصاق خلفه (اوفيت) لئلا تتسع المسافة بيننا، لكن في ال100 م الاخيرة وجدت نفسي بعيدا جدا، ارتكبت خطأ خصوصا عندما ضاعف السوفياتي نيكولاي كريلوف (حل ثالثا) الخطى".

ويضيف كو: "لم يكن هذا يومي. حصل تدافع وهذا ما امقته لذا لا احب الجري ضمن القافلة، افضل ان اكون على سجيتي. لكن ببساطة كان هناك عداء اقوى وفاز وعلينا تهنئته".

عموما، تحاشى كو لفظ اسم اوفيت، وحتى الاشارة الى من هو افضل عداء بريطاني للمسافات المتوسطة. وعلى منصة التتويج صافحه من دون ان ينظر اليه.

كانت هناك مقارنة ظالمة "ربما" بين البطلين وقتذاك، ودائما ما وصف كو بالصالح واوفيت بالشرير. لكن العداء الفائز لم يظهر ب"الوحشية" التي نعت بها، بل برهن انه يملك عاطفة جياشة عبر عنها خلال دورته حول المضمار محييا الجمهور وشاكرا مؤازرته، وارساله قبلات في الهواء الى والدته على المدرجات، فقيل "من هنا يستمد اوفيت قوته ويخزن طاقته".

قبل عام من الالعاب فضل اوفيت الانغلاق والاستعداد بعيدا وبهدوء، في حين كان كو يحطم الرقم العالمي. وخلال كأس اوروبا في تورينو، اقر كو بصوابية خيار منافسه على طريق الاولمبياد. وقال: "سيكون اوفيت قويا جدا في موسكو صدقوني. انا احترمه واقدر طموحه واجتهاده وموهبته".

في المقابل، كان لدى اوفيت بعض الشكوك من تمكنه من الفوز في سباق 800 م. غير ان تدريباته الاخيرة على السرعة اعادت الثقة الى نفسه. كانت تلك افضلية نفسية على كو، فهو لن يخسر شيئا لان الاضواء ستسلط على حامل الرقم القياسي.

وفي غضون ايام قليلة، تمكن كو من معالجة ثغرات خسارته تفاديا لهزيمة ثانية في سباق 1500 م، وقد عرف كيف يقاتل لكسب الرهان. وعلى رغم ذلك وصف على خط النهاية سباق 800 م ب"الكابوس الذي اردت الفوز فيه، ولو خيرت لفضلت ذهبية 800 م".

يتذكر كو ايضا كيف تحضر للموقعة الثانية، "بعد الخسارة اصابني ارق شديد فلم انم جيدا. وفي اليوم التالي حللنا والدي وانا الوضع. لقد واجهت اصعب يوم في حياتي الرياضية، وتوصلنا الى خلاصة مفادها ان مثل هذا اليوم لا يتكرر مرتين".

ومن خلال مراجعته شريط السباق، اتضح لكو ان "سرعته لم تكن بالشكل المطلوب. كان يجب ان اجاريه في ال200 م الاخيرة والا اكون مشدودا قبلها. وان اتقدم القافلة عند الخط المستقيم. وهذا ما صححته في ال1500 م. ركضت بثقة، كنت بجانب ستروب لكن عضلاتي مسترخية. والسرعة التي فرضها الالماني عامل ثمين ساعدني، تفاديت التدافع والاصطدامات، شعرت براحة وبقدرتي على اخذ الامور على عاتقي في المنعطف الاخير. كانت الامتار ال10 الاخيرة مضنية لاني بذلت اقصى ما يمكنني. صممت ان اموت والا اتخلى عن المركز الاول".

وفي موسكو رفرف العلم الاولمبي عند تتويج كو نظرا لمقاطعة بلاده الالعاب، وحضور اللجنة الاولمبية الوطنية على مسؤوليتها. ورد كو على اسئلة الصحافيين حول هذه المسألة بقوله: "احب طبعا ان يرفرف علم بلادي وان استمع الى نشيدها، لكن اقدر خيار اللجنة الاولمبية البريطانية واتفهم دوافعها، واحترم هذا الاختيار".

وعن التضحيات التي بذلها والصعوبات التي واجهها للحضور الى موسكو والضغوط لمنع ذلك، اجاب بمواربة ذكية: "التضحيات هي ان تتمرن يوميا من 3 الى 4 ساعات. لكن الفوز يمحي العناء كله. وسأكرر ذلك لاني سأكون في العاب 1984".

بعد اربعة اعوام، وفى كو بوعده واحتفظ بلقب 1500 م (54ر32ر3 د) امام مواطنه ستيف كرام (40ر33ر3 د) والاسباني خوسيه اباسكال (30ر34ر3 د). كما حل ثانيا في 800 م (64ر43ر1 د) خلف البرازيلي جواكيم كروز (00ر43ر1 د).

بعد الاعتزال، اصبح كو واوفيت صديقين. ويوضح كو ان منافسه كان قليل الكلام ولا يعبر عن رايه، ما نسج حوله اشاعات واخبارا كثيرة عن طباعه. ويوضح: "لم نكن نعرف بعضنا جيدا، كانت الصورة مشوشة".

واساسا، انخرط كو في سباقات المسافات المتوسطة آتيا من سباقات الضاحية و3 آلاف م في شمال انكلترا، ونافس اوفيت قبلها على مسافتي 200 و400 م. وسيطلق فيلم عن صراعهما تزامنا مع افتتاح دورة لندن الاولمبية.

 اللورد 

دخل كو (مواليد 1956) تاريخ العاب القوى من باب كونه اول عداء يملك ثلاثة ارقام قياسية عالمية في وقت واحد، هي 800 م والميل و1500 م، فضلا عن ميدالياته الاولمبية. وهو تلقى علومه وتربيته وفق الاساليب الانكلو-ساكسونية التقليدية في كنف والده المهندس الذي جعله يزاول سباقات العدو الريفي (الضاحية).

عام 1978 اعتلى كو منصة الفوز للمرة الاولى دوليا بحلوله ثالثا في سباق 800 م ضمن بطولة أوروبا. لكن انطلاقته الحقيقية نحو المجد كانت عام 1979، حين حطم الرقم القياسي العالمي مسجلا 4ر42ر1 د في 5 تموز/يوليو. وفي 17 منه حسن رقم الميل مسجلا 49ر3 د. واكمل موسمه الصيفي الرائع في آب/اغسطس بتحطيم الرقم العالمي ل1500 م (1ر32ر3 د).

في عام 1981 سجل كو في ملعب كومونالي في مدينة فلورنسا الايطالية رقما قياسيا عالميا في 800 م بلغ 73ر41ر1 د وظل صامدا 16 سنة، حتى نسخه الدنماركي الكيني الاصل ويلسون كيبيكيتير خلال لقاء كولونيا عام 1997 (11ر41ر1 د).

بعد عجزه عن الانضمام الى المنتخب البريطاني لدورة سيول 1988 بسبب نزلة برد اعلن كو اعتزاله، وكرس نفسه لحياته الزوجية والعائلية في موازاة اهتمامه بالسياسة. وقد انتخب نائبا عن حزب المحافظين في مجلس العموم البريطاني عن دائرة فالموث وكامبورن. وبعد خسارته الانتخابات في دورة 1997 عمل مستشارا شخصيا لزعيم حزب المحافظين آنذاك وليام هيغ الذي ازيح عن زعامة الحزب لاحقا.

اظهر كو براعة في ادارة اعماله وصار العداء الاكبر دخلا بين عدائي المسافات المتوسطة. ومنحته الملكة اليزابت الثانية لقب لورد. ويعود له الفضل الاكبر في فوز لندن باستضافة الالعاب الاولمبية الصيفية للمرة الثالثة، بعدما تولى رئاسة لجنة الترشح واعاد حظوظ العاصمة البريطانية من بعيد، ثم ترأس اللجنة المنظمة للالعاب. ويتولى منصب رئيس الاتحاد الدولي لالعاب القوى بعد خلافة السنغالي لامين دياك المطرد بقضايا فساد ضخمة.