حين أقرأ حكم محكمة الجن والجنايات والجنيات في القاهرة، في قصة ذبح سوزان تميم من الوريد للوريد، وأن تقريرا من 161 صفحة يقول فيه القضاء أنه متيقن أن المجرم خلف الجريمة، وأن ضابط المخابرات والفلق والحبوس صاحب الساطور والسكينة، ولكن الرأفة والرحمة تحركت في قلوب القضاة، للتخفيف من حكم هذا الرجل المالي الكبير، صاحب المشاريع العملاقة، والأموال الهائلة؛ أعرف أن السبب خلف تخفيف الحكم من الإعدام إلى 15 سنة، لتصبح بعد خمسة أشهر خمس سنوات، لتنزل بعدها إلى خمسة أشهر، ثم خمس ليال في فندق سبع نجوم، يقضيها الملياردير المنتفخ بمال السحت، في متنزه حلو لطيف معتدل المناخ؟
أعرف تماما كما تيقنت المحكمة من القضية، أن من أنجا المجرم هما ساقان من المال والنفوذ، وأن من يمشي إلى حبل المشنقة هم المساكين الفقراء بدون سيقان من النفوذ والمال.
بنفس الوقت أعرف سخافة العدالة الأرضية، وكم من القضايا تذهب فلا يعرف القاتل، بل وكيف يموت أناس ويقتلون لأنهم قالوا كلمة حق كما حصل مع باتريس لومومبا في وجه الملك البلجيكي حين تكلم عن الاستعمار في حفلة تضم دهاقنة السياسة، وتوماس سينكارا الأفريقي المسكين، وسيد قطب في وجه العجل الناصري، وسعيد بن جبير في مواجهة الشقي الحجاج!
وبالتالي فإن مشهد العدالة الأرضي يضطرب ويهتز مع قصة مصرع سوزان تميم المسكينة التي راحت ضحية الفن والجمال والغيرة والهيام والمال السحت..
بل يهتز المنظر جدا حين نرى الكثير من الطغاة والمجرمين يموتون في عزة وشقاق، ويحملون إلى مدافنهم على عربات حربية، والناس تندب وتنتحب وتبكي، وتضرب المدافع أجلالا لذكرى المجرم ويحضر روؤساء الدول في الجنازة، كما حصل مع تيتو ولينين وستالين وماو تسي دونج وعبد الناصر وبول بوت والأسد ومن طالته يد العدالة بنصف عدالة كان صدام المصدوم المشنوق؟؟
أو كما مات العديد من طواغيت التاريخ ومجرميها بهذه الطريقة من إمبراطور الصين تشين وجنكيزخان وأتيلا وتيمورلنك الذي كان يبني أحدهم أهرامات من الجماجم، ويحيل المدن إلى قاعا صفصفا لاترى فهيا عوجا ولا أمتى، كما فعل جنكيزخان مع باميان في أيران حين قتل حفيده في المعركة وهو المعتدي الأثيم؛ فحلف أن لايبقي حياتا ونشورا في تلك المدينة الجبلية؟ فقتلوا البشر والقطط الهائمة والكلاب الشاردة والمعز النطيح؟
ونرجع إلى المنحورة المذبوحة سوزان تميم وقدرها العاثر أن منحت جمالا وسؤددا ومالا وشهرة؛ لقد تزوجت ربما أربعا، من عتيق ومعتوق وبوكسرجي عراقي، وعاشرت ربما أكثر فمن دخل هذا الباب ولج مغارة علي بابا وأربعين حرامي، ومن سكر لم يعد اٌقداح الفودكا والشمبانيا؟ عفوا من التعبير، ثم وصلت أخيرا إلى التيكون المالي فأسكرته هياما وعمرت أكياسا من الدولارات والليرة اللبنانية والجنيه المصري واللندني، ولكن ولوج مثل هذه الأبواب الخطيرة ليس بدون ثمن وجريمة.
وهكذا ومن أجل المال والشهرة ماتت ذبحا كما ماتت مارلين مونرو بالسم منتحرة، فإما انتحروا أو نحروا؟
إنني حقيقة أضحك من فكرة العدالة الأرضية، وأعرف أن الأرض حافلة بالشر والقتل واسأل هوليوود تخبرك، ومثلا في فيلم العصابة (لا بريميرا) يقول التقرير أن هناك حتى عام 1990م 3000 من ضحايا القتل بالجريمة المنظمة، وعدد السجون في أمريكا تزداد، وفي داخلها يتدرب (الغشيمون الساذجون؟ كذا؟) على فنون جديدة في القتل والسرقة؟
إن الملائكة حين علموا بخلافة آدم قالوا يارب أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟
ونلاحظ هنا استغراب الملائكة عن سفك الدم أكثر من الكفر فلم يقولوا أتجعل فيها من يكفر ولا يعبدك بل أشاروا إلى أمرين جوهريين: الفساد في الأرض وسفك الدماء؟
وهو ماحرض المخيلة عند أستاذ الرياضيات جيفري لانج الأمريكي والذي اعتنق الإسلام أن يكتب ثلاث كتب كان الثاني بعنوان: حتى الملائكة تسأل (الكتابان الأخريان وهما قيمان للاطلاع والاقتناء والقراءة: الصراع من أجل الإيمان، والضياع الديني؟)
لماذا القتل وسفك الدماء؟ لماذا قتلت يامن قتلت سوزان تميم؟ شهوة شهرة غيرة كراهية انتقام رد اعتبار استخفاف بالعدالة الأرضية والشعور بالجبروت والتمكن كما قال قارون؟
أين ذكرى الرب في الجريمة؟ أظن أن من يقدم على الجريمة يدخل في هذه الحالة التي سماها القرآن على لسان قابيل (فطوَّعت له نفسه قتل أخيه فقتله)؟
لقد عقد رشيد رضا في تفسيره المنار فصلا جميلا عند هذه العبارة وهو أن المجرم لايقدم على جريمته بسهولة بل يضطرب حتى يصل مرحلة الذروة في اتخاذ القرار والإقدام على الجريمة، وهو في تصوري ما وصل إلى حافته المجرمان بعد تردد، ولكن لا أظن أن ضمير الرجلين سيجد الهدوء مالم يصلان إلى ماوصل إليه ابن آدم القاتل الأول من الندم الحقيقي والدخول في التطهير الروحي التعويضي، وهي حالة نفسية قد يصل إليها المجرم وقد تضيع عنه ويضيع عنها حتى تأتي لحظة الموت هنالك تبلو لكل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق ألا الخ الحكم وهو أسرع الحاسبين؟
هذا كان موضع حيرة الملائكة أتجعل فيها من يسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟
قال الرب: إني أعلم ما لاتعلمون؟
الجواب وسره في ثلاث كلمات؟؟ هنا نحن بين الجريمة وسفك الدم وبين علم الله في الإنسان؟
حسب فلسفة جودت سعيد الذي هو سقراط بالنسبة لي فأنا منه ربما بمنزلة أفلاطون من سقراط أخط مانطق بقلم وورق؟ أو هكذا أزعم؟ يرى أن إجابة القرآن على الجريمة وخاصة في قصة ولدي آدم تروي جدل الصراع الإنساني كله، وأن الإنسان سيصل إلى قدر من الكمالات يعتنق فيه مذهب ابن آدم الذي لم يدافع عن نفسه، لإن حل المشاكل يأتي من هنا..
إن القتل وسفك الدماء هي أفظم مايفعله ابن آدم على وجه الأرض. ولعل صراع ولدي آدم القديم يظهر القصة على نحو أوضح، فقد خط كل منهما لنفسه طريقة في الحياة، وبالتالي أصبح من وراء ولدي آدم مذهبين في الحياة؛ من يؤمن بالقتل وسيلة لحل المشاكل كما فعل من فعل في ذبح سوزان تميم بالخنجر والسكين.
ومن يؤمن بعدم الدفاع عن النفس ولو هدد بالقتل؟ فقال لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين، إني أريد أن تبوء بأثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين؟
والعالم منذ جريمة ابن آدم الأولى حتى اليوم قد جرب طريق سفك الدماء بما فيه الكفاية، ليصل في نهاية المطاف إلى القناعة الكاملة أنه طريق الخيبة والندامة، كما حصل مع ابن آدم الأول حين قال عنه القرآن فقتله فأصبح من الخاسرين ثم من جديد فأصبح من النادمين.. ومعنى الندم هو التوبة والاعتراف غير المباشر بصحة مذهب الذي لم يدافع عن نفسه..
لنؤمن إذا بثلاث أن القتل ليس أسلوبا لحل المشاكل، وأن العدالة الأرضية فيها من القصور الكفاية، ولذا قال الرب أن الآخرة هي دار القرار، وأنها خير وأبقى، وأنه لاظلم فيها بل يضع الرب ميزان القسط؛ فيقوم بالعدل ولو كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين؟ من ظلم أو رحمة من شر وخير، فيجازي السيئة بمثلها وهم لايظلمون، ويجازي الحسنة بعشر أمثالها.
وثالثا أن البشر يسعون لتحقيق العدالة في الأرض وهذا هو الإٍسلام نظام العدل وكل مجتمع يحقق كمية أكبر من العدل هوأقرب إلى الله من تلك التي تشرب من خمر الظلم فتسكر وتهوي.
ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولاتتبع أهواء الذين لايعلمون إنهم لن يغنوا عنك من الله من شيء؟
كذلك علينا أن نستوعب أن مصائر العباد لاتتحدد كلية في الأرض مكافأة أو عقوبة؟ بل سيكون هذا في يوم لاريب فيه؛ فتوفى كل نفس ما عملت، ولو كان مثقال حبة من خردل، وكل نفس بما كسبت رهينة ومن عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها..
رحم الله سوزان فقد رجعت إلى ربها وهي بأمس الحاجة لهذه الرحمة، فقد ضيعت عمرها وشبابها، وماتت في قمة فتنتها، فتنة للمفتونين وآية للمتوسمين.. إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم.
كيف يحدث ما حدث؟ وينجو القاتل بالتقسيط؟؟ إنها مهزلة العدالة الأرضية أليس كذلك؟
كل المشكلة هي في الفساد البشري؛ فكيف ينجو من ملك المال والنفود ويشنق الفقير والأجير..
إنه باب هلاك الأمم كما وصف المصطفى ص أنه أهلك من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد؟؟
وفي هذه نتذكر قصة جبلة بن الأيهم الذي وطأ اعرابيا في الحج وكان قد أسلم من قريب، ثم هرب والتحق بملك الروم وارتد حين عرف من عمر ر أنه سيقاضيه، ولو كان شريفا من العرب فيلطمه البدوي كما لطم هو البدوي بغير حق؟
وفي هذا الصدد عندما نتذكر العدالة القرآنية حين نزلت لتبرئة يهودي أتهم ظلما بسرقة درع من بيت أنصاري فتنزل عشر آيات في سورة النساء تطلق سراحه وتعيد له الاعتبار؟؟ هنا نعلم إلى أي مستوى يمكن أن تتحقق العدالة وكم خسر مجتمعنا هذه القيم التي بها ارتفع.. أذكر قصة الصحابي الذي ذهب إلى يهود خيبر فأرادوا رشوته أنه قال لهم والله يامعشر يهود تعلمون أنكم أبغض إلي من القردة والخنازير ولكن هذا لايمنعني من إقامة العدل فيكم فقالوا بصوت واحد على هذا قامت السموات والأرض.. نعم اتحدت الأرادة الإنسانية هنا مع القانون الكوني فيقول القرآن وما رميت إذا رميت ولكن الله رمى.. لقد كان المسلمون رمية التاريخ الموفقة..
لنقرأ بخشوع الأيات العشر من سورة النساء: إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما؟؟ تابعوا حتى النهاية..
واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما..
ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لايحب من كان خوانا أثيما..
يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون مالا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا..
ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليه وكيلا؟
ومن يعمل سوء أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما..
ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما..
ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرمي به بريئا فقد احتما بهتانا وإثما مبينا.
ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك مالم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما.
وأراهن على من يمسك دموعه وهو يقرأ هذه الآيات ثم يسمع قصة سوزان وقاتليها أين كنا وإلى أين انحدرنا؟؟