كانت واضحة منذ بداية انطلاقها أغراض المطالبة الفرنسية بعقد مؤتمر خاص لما سمتها بالمنظمات السياسية العراقية "التي تخلت عن العنف، أو تعد بذلك." وأصابت منظمة المجتمع المدني العراقية والكتاب في استنكار تلك الدعوة وفضح مراميها الحقيقية، وهي إعطاء الشرعية لأعوان صدام، ومحاولة إعادتهم للسلطة، وكأنما فرنسا هي الوصية على العراقيين. وكان الأستاذ سعد صلاح خالص آخر من كتب في هذا الشأن في مقالته بإيلاف أمس.

وها قد جاء "الخبر اليقين" أول أمس حين وصل لشرم الشيخ وفد من الصداميين برآسة مزهر الدليمي، والذي كان الإعلام الفرنسي يدعوه في الشهور السابقة لحرب الكويت باسم مستعار هو " الكابتن كريم."

وإذن فقد وصل الكابتن، حفظه الله، ليقدم للمؤتمر الحكومي عريضة تفضح الهدف تماما، بإدانة الحكومة والمؤسسات القائمة والأحزاب الوطنية، والانتخابات، وبالدعوة لمغادرة القوات متعددة الجنسية، وإدانة حملة تطهير الفلوجة من القتلة وقاطعي الرؤوس.

يقول حامل العريضة إنه يمثل "ائتلافا وطنيا معارضا. فهل يبين لنا من هم أطراف ائتلافه العتيد" وما تاريخهم السياسي؟"

حكاية واقعية للتذكير:

فوجئ مشاهدو القناة التلفزيونية الفرنسية الأولى، وهم كثر في أوروبا والبلاد العربية، ذات مساء من شهر نوفمبر 1990، بمقدم البرنامج يقدم شخصا سترت الشاشة وجهه، سماه "الكابتن كريم." قال المذيع الشهير إن الكابتن هو أحد الحراس الخاصين لصدام، وسوف يقص كل مساء وقائع عن تعسف صدام وولديه. راح الكابتن يقص في كل ليلة ما يشاء من صحيح وملفق، في عهد كانت فيه فرنسا ميتران سباقة لتهيئة جو الحرب على العراق بسبب غزو الكويت. ظل الكابتن كريم الدليمي يقص ويقص، وذات ليلة كشفوا عن وجهه سافرا. فتبين من أقوال الشهود العارفين أنه طالب فاشل في فرنسا، وكان موظفا صغيرا في السفارة العراقية في بعض الأجهزة، ولم يكن يوما حارسا للطاغية الفاشي. وقد استغلت السفارة العراقية القضية لصالح نظامها، ولتكذيب كل الحقائق المعروفة والمؤكدة عن جرائم النظام الصدامي ورئيسه. لقد كان السيد الكابتن يروي قصصا سمعها ويضيف لها من عنده وينال الثواب من الفرنسيين، بعد أن توهم أن الحرب ستسقط النظام فيكون من مأمن. ولكن الأمور جرت بالشكل المعروف، فصدام لم يسقط لأن الأمريكان قرروا عدم الاستمرار لبغداد بسبب التدخل الإيراني الكثيف في الحركة الانتفاضية الشعبية العفوية ضد النظام، والتي بدأت في البصرة. كان الإيرانيون يرسلون المئات والآلاف من العراقيين الموالين ورجال مخابراتهم لرفع شعارات تنادي للخميني ولتأسيس دولة ولاية فقيه عراقية، وهو ما أرعب دول الخليج وأقلق الولايات المتحدة.

هنا، بعد الحرب، وجد الكابتن نفسه مضطرا لطلب التوبة من النظام، ومن حسن حظه أن توبته قبلت وراح منخرطا في عمل بعض أجهزة النظام.

صارت قصة الكابتن معروفة للعالم. ولذلك ليس منطقيا أن يجهلها السيد عمرو موسى، الذي استقبله ووفوده مرارا وتكرارا، وقبل استقبال وفد من مجلس الحكم. وقد رأى المشاهدون في حينه ترحيبه الحار بالكابتن وعبوسه في المقابلة الأولى مع وفد مجلس الحكم.

لقد برز هذا الشخص مرارا بعد سقوط الفاشية في مقابلات تلفزيونية وصحفية عند عرض وساطته مع خاطفي بعض الرهائن الأجانب، مما دل على انه يعرف الخاطفين ولهم ثقة به.

إن السيد الدليمي الذي أنشأ منظمة باسم " منظمة الدفاع عن حقوق الشعب العراقي"، هو وجه من وجوه "المعارضة" الصدامية للوضع السياسي الجديد، وهو على صلات وثيقة جدا بكل من فرنسا ومصر.

وثمة وجوه أو بيضات أخرى في السلة الفرنسية من عناصر عراقية تعيش في فرنسا وتقوم بتحركات حثيثة ضد العملية السياسية العراقية.وللعلم فإن فرنسا تحتضن واحدا من أقوى "اللوبيات" المناصرة لصدام والممولة جيدا: من سوريين ولبنانيين، وعراقيين، ومغاربيين.

إن من سوء حظ فرنسا و"أبطال المعارضة العراقية" هو الانكشاف اليومي لهذه الجثث المقطوعة الرؤوس للجنود والشرطة العراقيين، وبأعداد مذهلة، في مدن عراقية متعددة. ومن سوء حظهم ما كشفته وكالات الأنباء الأجنبية، ومنها الوكالة الفرنسية، من فظائع وجرائم الإرهابيين الزرقاويين والصداميين في الفلوجة بعد ضربهم بقوة.

إن العالم لا يجهل ما يحدث للعراقيين وللمنطقة لو انتصرت جحافل الوحوش هذه التي تريد عودة النظام الفاشي، ومنها من يريدون قيام دولة الطالبان العراقية. وإن الذين يدعون لمقاطعة الانتخابات وينذرون بتخريبها وقتل المشاركين يبرهنون بالقول والعمل على كونهم أعداء للديمقراطية وهم الذين يضعون أنفسهم خارج الشعب ومسيرته الجديدة. وقد وعدت وفودالإرهاب في الفلوجة مرارا بوضع السلاح ولكن بشروط تعجيزية تكون تلبيتها على نقيض تام مع الديمقراطية والوحدة الوطنية ومصالح مجموع الشعب العراقي. إن الذنب ليس ذنب الحكومة العراقية كما تريد فرنسا إيهام العالم. ومن سوء حظها أيضا تلك المقابلة الصحفية التي أشار لها الأستاذ سعد صلاح خالص لجريدة ليبراسيون اليسارية.إن تصريحات الشيخ فخري القيسي الصريحة والصارخة بنوايا القتل الهمجي والعشوائي للجميع، وإعلان التصميم على ذلك، تشكل صفعة قوية للدعوة الفرنسية ـ المصرية، ولمذكرة الكابتن العتيد.

إن المؤسف أن فرنسا لا تستطيع حتى اليوم "هضم" وجود عراق بلا صداميين، وإن الاستمرار على هذا الموقف المتشدد سيضر بموقع فرنسا ومصالحها المستقبلية في العراق. لقد آن الأوان لكي يعيد الساسة الفرنسيون حساباتهم ولا ينظروا للأمور بالمنظار الأسود لكراهية أمريكا والغيرة من دورها في العالم!!
23 نوفمبر