ياسمين علي : يجلس الرجل العجوز بهدوء في كرسيه ، يرفع قبعته عن راسه ويضعها الى جانبه ثم يتناول صحن اللبن ويشرع بتناوله بصمت .يلتفت بين حين واخر الى جهاز التلفاز عبر زجاج شرفته ليعاود تناول وجبته الخفيفة.
ضجة كبيرة عكرت صفو جلسته ، تحرك ببطئه المسن في محاولة لكشف سبب هذه الضجة.
"الله يرحمو" .. ردد بصوته اللاهث ، ليعود ويستند الى كرسيه ليأكل اللبن باستمتاع واضح على معالمه . هكذا قرر ان يمضي نهار اخر من نهارات تقاعده .. على شرفته مادًّا قدميه باسترخاء يراقب السماء ويخرج ضجة سنوات منهكة من رأسه .

..تتسلل ابنة شقيقتي لتمسك بي على حين غفلة ،ترفع جسدها الصغير لتجلس نفسها في حضني وتضع رأسها على كتفي ويداها تغطيان وجهها .. هكذا تخاف ابنة شقيقتي وهكذا تعبر عن رعبها . احتضنتها وانا اردد " معلي ما تخافي " .
تخاف الصغيرة من الاصوات المرتفعة ، فهي تكره الاعياد لانها تمضي نهارها باكية بسبب اصوات المفرقعات . لم تكن قد سمعت دوي الانفجار وقت حدوثه ، لكنها سمعته الان عبر التلفزيون ورأت اناس يبكون . هي لا تحب البكاء .
والدتها تبكي .. هي تعرف الممرض الخاص للحريري الذي توفي معه .
هل كان هناك ممرض خاص ؟ لم انتبه ..
لعله ذكر خلال سياق الاخبار ، لكنني لم احفظ سوى اسم مرافقه الخاص .. لعلهم لم يذكروا سوى اسم يحي العرب .
هناك من يبكي مازن الزهبي بحرقة توازي حرقة اولاد الحريري او العرب او اي من المرافقين ، توازي حرقة تلك الفتاة التي خرجت للبحث عن والدها الذي اختفى في موقع الانفجار.
.. مازن الشاب الطموح ،الذي واسهل ما يقال فيه ان الحظ بالكاد ابتسم له حتى انتزعه منه الموت بأبشع الطرق .هذا الشاب الذي أراد ان يخرج من دائرة الفقر الذي خلق فيها ، جاهد للحصول على عدة شهادات في التمريض من الجامعة الاميركية في بيروت كي يضمن لنفسه مركزا مرموقا . عمل ودرس ..واخيرا حصل على وظيفة في السعودية .
هناك _ولحسن حظه او سوئه _ التقى الحريري الذي ضمه الى فريق عمله .. فبات مازن الزهبي بعد سنوات طويلة من العمل والدراسة والتعب والسفر ممرض الحريري الخاص .
ومع الوظيفة الجديدة وما درته عليه من اموال سارع لشراء شقة ووخطبة من يحب .
ثلاثة أشهر مضت على ارتباط مازن .. ثلاثة اشهر فقط كانت حظه من الحظ الذي التفت اليه بعد سنوات .
لا احد يعلم بقصته ومن المرجح ان احدا لن يعلم بها .
..تميل ابنة شقيقتي الى الامام لتناول قطعة الحلوى التي جلبتها لها ، تاخذها بسعادة بالغة . تمضغها بتمهل وقد زال الخوف عنها ، تخرج من جيبتها لعبة صغيرة وتنهمك بها .
يتحرك العجوز من مكانه بهدوء ، يحمل صحنه الذي افرغه من اللبن ، يرفع بيده لتحية جاره ..يسأله ان كان قد شاهد الاخبار .. فيجيبه "الله يرحمو ، ويرحمنا كلنا ".
تتحرك الصغيرة بسرعة وهي تركض من مكان لاخر فرحة بلعبتها ناسية تمامًا ما رأته منذ لحظات ..تصرخ للعجوز جارنا الذي انهمك بالاهتمام بنبتة صغيرة ، ينظر اليها ويلوح لها مبتسمًا كعادته حين تناديه .هي نسيت ما رأته وهو قرر بعد كل هذه السنوات تناسي كل ما قد يحدث خارج شرفته وجلسته اليومية .