ليس من الغريب أن يكتب المرء عن موت شاعر، لكن من غير المألوف أن تكون شاهدا على صراعه مع الموت، حاضرا في هذا الصراع كما لو كنت جزءا منه، ترى أمامك حَدَمة هذا الصراع أو تراجع حدته، وتشعر بنفسك واقفا الى جانب الطرف الأضعف، الطرف الإنساني الذي غالبا ما يكون خاسرا في النتيجة. هذا ما حصل معي أئناء إقامة الراحل
في بغداد كان سركون واحدا من مجموعة محدودة من الأدباء المهتمين بالموسيقى الكلاسيكية. وكان غالبا ما يغادر المقهى متجها الى المركز الثقافي السوفيتي الذي كان يحتوي على مكتبة موسيقية كبيرة، ليقضي ساعات عديدة في الإنصات الى سنفونيات رخمانينوف وريمسكي كورساكوف وغيرهم، وربما كان عشقه للموسيقى لا يقل عن عشقه للسينما،
| موت شاعر بريشة طالب حسين |
سركون يحتضن برلين، كما كان يحتضن بغداد أو كركوك أو الحبانية، وهو دائما شاعر المدينة، وربما كان يتجول في شوارع بابل، كما تجول في شوارع برلين. وربما كان إنشداده الى المقاهي القريبة من النهر في برلين وسواها هو إمتداد لما كان يفعل في العراق، على مقربة من الماء، في قلب المدينة.
ولا أدري لماذا مازلت لحد هذه اللحظة أتصور سركون بحارا يدور حول العالم من مكان الى مكان، دون أن يجد ما يستقر عليه، مثله في ذلك مثل quot;الهولندي الطائرquot; في أوبرا فاغنرالذي لم يلق ميناءا يحط فيه. إلا أنه كان على عكس الأخير، منغمرا في القصيدة التي كونت حياته وخططت لها حتى اللحظة الأخيرة. حين ألتقيت سركون بعد فراق يزيد عن عشرين عاما في quot;بيت الثقافات في برلينquot; كان يرتدي بذلة بحار. تعرفت عليه حينها، رغم كونه ملتحيا، ربما بسبب البذلة، فقفزت من مقعدي متجها نحوه للترحيب به. كان أول ما قاله لي: quot;كيف أستطعت أن تتعرف علي؟quot;
في المقهى البرليني quot;على الشاطيءquot; يوجد كرسي يتذكر سركون، وهناك نادلة مازالت تستفسر عنه، إذ كان قد صورها قبل سنوات عدة وقال لها: quot;صورتك هذه سترحل معي الى أمريكا.quot;
في وقت سابق كنت إحاور سركون عن مالكولم لوري وروايته الكبيرة quot;تحت البركانquot;. كنت أحلم، ولهذا الحلم ما يبرره، أن يقوم سركون بترجمة هذا العمل الملحمي، إلا أنه لم يتمكن من تحقيق هذا الحلم قبل رحيله.
في آخر لقاء معه حاولت أن أرتدي جبة الواعظ، حين طلب مني أن آتيه بزجاجتين من البيرة، فتطلع سركون نحوي بغضب: quot;لا أريد سوى أن أطفيء النار في جسدي. ثم من يمنحك الحق في أن تقدم لي النصح؟ هل أنت أكبر مني سنا؟quot;
في تلك اللحظة بدا لي كما لو أطلت علي من عينيه عشرات القرون من تاريخ العراق، رغم أن فارق السن بيننا لا يتجاوز ثلاث سنوات.














التعليقات