الحلقة الاولى
الحلقة الثانية
كان القدر يخطط...
(أخوات القدر) رمز لذلك المخطط الرهيب الذي سوف يقترح المصير، بل يرسمه على جبين كل شخوص المسرحية المرعبة. مكان في العراء وثلاث ساحرات يضعن اللمسات الاخيرة لتاريخ قادم لا محال دونه، زمان من رعد و بروق وأمطار، ومكان مقفر موحش، وفي نقطة تقاطعهما يأتي إسم (مكبث) ليكون هدف القدر الذي لا ينخرم ــ ساعود لمعالجة هذه النقطة بالذات ــ
شي ما يحدث في أفق غير منظور، يفتش عن فرصته ليكون منظورا، وبين اللحظتين كان الطوفان الرهيب.
ذاك هو الدم...
دنكن / ملك إسكتلندة: (ما ذاك الرجل المضرّج بالدم؟ بوسعة إخبارنا،
كما يبدو من سوء حاله، بأحدث
مراحل العصيان.)
ما قيمة الد م هنا في نظر الملك؟
قيمته يحمل شهادة صادقة على مايحدث، لا قيمة للدم مهما كان نقي المقصد، إن ابن الملك (مالكولم) يعزز هذه القيمة العرضية للدم، فهو يقول بعد أن يثني على شجاعة الرائد الجريح: (أدْل للملك بما تعرف عن المعمعة، كم كانت حين تركتها...).
الدم قيمة جوهرية لدى الملك وابنه الذي سوف يتوج قريبا نيابة عنه! قيمته تكمن بكونه شهادة على ما يحدث وليس شهادة على الوفاء والفناء في سبيل وطن يتعرض للنهب والخراب والاحتلال، فهل هي قيمة مستمدة من نسق من الفكر ينبثق من تضاعيف الزمن السائد؟ أم تلك هي طبيعة السلطة؟
لم يكن الدم في مآساة مكبث ذا موقع بكميته الهائلة التي أغرقت العالم، ولا بطبيعته المرعبة عندما يتدفق بغزارة من رؤوس مشجوجة وأجساد مقطعة، بل هو رعب كوني يكشف عن أصالة العدوان في جبلة بني البشر، ولست أدري إنْ كان (فرويد) على موعد مع شكسبير ليؤصل للعدوان في قاع كوننا النفسي البعيد؟
قطرات دم قد تثير ما لا يثيره شلال دم من خوف ورعب ومعنى يهبط بالحياة إلى مستوى من همجية المنحى والمبنى، فإن دم جرح غيلة قد يثير في سوية الخلقة مبرر الحكم على عطالة الحياة وتفاهة التاريخ وعدمية ا لوجود، فيما دماء تجري كالانهار قد لا تفزع ضمير الفطرة المتسقة مع قوانين السوية البشرية، ليس إلاّ لأنها دماء ربما جرت بها عادة الطبيعة ونكباتها المعهودة. إن دماء نكبة ا لطبيعة لا تلغي الطبيعة ذاتها، فيما دم غيلة يلغي مشروعية الطبيعة مرة واحدة.
لقد تحولت الطبيعة إلى كائن متوحش في نظر ماكبث وهو يتمعن دم الملك القتيل في يديه، كانت مجرّد لطخة عرضية، ولكنها أستوت في داخله فكرة موحشة، إنعكست على بصره في الدرجة الاولى، فلم ير من الوجود غير هشاشة تدعو للرثاء، أتحدث بطبيعة الحال عن النفس السوية.
يتحدث مكبث عن دم الجريمة: ـ
[ هل تغسل بحار (نبتون) العظيمة كلها هذا الدم عن يدي فتنظف؟
لا، بل إن يدي هذه
لسوف تضّرج البحار العارمة،
وتجعل الاخضر أحمر قانيا...].
لأنه دم جريمة وليس دم قطيعة الطبيعة مع إتساقها شبه الدائم، ولا هو دم صدفة عمياء إقترفت جريمتها الخرساء، ولا هو دم سوء فهم أو تفاهم يستجلب عنوان التسبيب وليس السبب، ولا هو دم نال حظه من التدفق خارج البدن باستحقاق عدالة يجب أن تنتصر. إنّه الدم الذي يحتل حيزه الجوهري من الضمير ولا يزول مجرد أن يزول من على سطح اليد، إنه الدم الذي يصبغ الطبيعة بعار الاثم ويسعّر بحارها بنكهته المكثفة المتغلظة بغثيان الموت. صبغة الموت المزرّق في شرايين الحياة البريئة.
دم الغيلة يوشِّح الطبيعة بحلتها المعكوسة، فيضطرب نظامها من الداخل مهما بدت من خا رجها محكمة القوام والقانون والمسيرة (في هذه الساعة تبدو الطبيعة، في نصف العالم، ميتة، والاحلام الشريرة تخادع النوم المسجَّف...)، هكذا كان يصرخ مكبث، في حين كان زوجته / الليدي مكبث / هي المعادل الموضوعي له!
دم الملك ا لمغدور مجرد سائل فيزياوي يمكن أن يزول بجهد قطرات معدودة من ماء نقدر أن نحصل عليه بأبسط الوسائل، قطرات من دم تحتاج لقطرا ت من ماء، بحر من دم يحتاج لبحر من ماء، معادلة سهلة المنال، لا تحتاج إلى تعقيد، وذلك مهما كان السبب الكامن وراء هذا الدم، فليس هناك معضلة، كما هي لدى مكبث وهو يصرخ والكون يميد من حوله يصرخ هو الآخر: (... قليل من الماء يزيل عنّا تبعة هذا العمل، ما أهونه إذن...)، فنحن بين ضميرين، بين نظرتين، بين رؤيتين!
الليدي تتعامل بكل بساطة مع هذا الدم، بلا تكلف (... إذهب وعليك ببعض الماء، واغسل هذا ا لشاهد القذر عن يديك...)، فهو مجرد لطخة مزعجة، يمكن التخلص منها بقطرات ماء عابرة. إنه شاهد قذر لأنه قد يفضح ا لقذارة، شاهد مجرم لانه قد يفضح الجريمة النكراء. لقد كان دم ذلك الرائد نزيها، شريفا، طاهرا، لانه شاهد صدق على ما يحدث لا على بطولة ترتجى، وهنا الدم شاهد قذر لإنّه شاهد صدق على جريمة مفجعة، ملحمة الدم هنا ضحية مركبة، ضحية مزدوجة، ضحية قتل وتزييف! ذبح وتوظيف زائف.
مكبث كان يريد (تنظيف) يديه / روحه من إثم الجريمة النكراء، الليدي مكبث تريد (إزالة) الدم، فرق جوهري بين المنحين والتصورين والهدفين! لقد كان مكبث يستجير بالكون كله طلبا للخلاص من صدى الاثم المرعب، خلاص من الداخل، أما زوجته فكانت تسخر من هذا الوهم (المكبثي)، وهو البطل الجسور الذي ما كلَّ سيفه يوما!!
أي مفارقة هذه؟
دم قليل، ذلك هو دم الملك المغدور أفزع البطل الهصور، ولكن دماء عشرات المحاربين سُفِكت على حافة سيفه من دون أن يرف له جفن!
لعبة الضمير كامنة في ملحمة الدم وتوزيع نماذجه بين مواقف متناقضة، ولولا أن يكون للإنسان داخل مضطرم القوى ما كانت هذه اللعبة تنال موقعها من اللغة العميقة. ولست أشك أن مكبث كان خليطا من هذا وذاك، ومن العسير على الذات البشرية أن تتسق بحكمة التماهي المطلق طوال تاريخها، و(حبكة) مكبث في نص شكسبير هو هذا التنازع الفذ بين هذه القوى المدهشة، حِبْكته النّصيِّة ليس في حدث نهائي، بل في مسيرة دائمة، ليست في وا قعة تلخص المشكلة، بل في مسير المشكلة الذي لا ينتهي، وهي ميزة يتفوق بها شكسبير، بل ميزته على الا طلاق.
يعقد شكسبير علاقة منطقية خا صة بين الكون والدم المسفوح غيلة أو ظلما، فهذا الدم يلغي ا لكون المنظور، أو بالاحرى يحوله إلى كون جديد، مقولات تفسيره تنبثق من داخل الذات، فالكون بعد الجريمة النكراء، أي جريمة، يفقد كما يبدو هويته الأولى، كذلك الحياة،بل الوجود ببعديه الزماني والمكاني، المادي والروحي، الظاهر والباطن، ثورة يحدثها الدم المسفوح غيلة أ و ظلما في جوهر الوجود.
يقول أحد نبلاء القصر: ــ
كانت الليلة هائجة، ففي المكان حيث مكثنا)
قوضت الريح المداخن،ويقولون
إن الناس سمعوا نواحا في الهواء، وزعقات موت غريبة
وراح طير الظلام ينعب في طوال الليل
متنبئا بفوضى رهيبة،و حداث مضطربة،
يلدها الزمن الفاجع مجددا،والبعض يقول
إن الأرض حُمَّت،وزلزلت).
لكن أين الليدي ماكبث من ملحمة الدم هذه؟ من هذا الكون الجديد الذي تبدى ظلمة حالكة ينخر في داخله عواء مخيف؟ هل يساور جنانها أو قلبها أو ضميرها مثل هذا الانقلاب الوجودي المرعب؟ ربما تخشى الليدي مكبث الفضيحة ولكن لا تخشى مستحقات دم مغدور! فإن منطق الدم هذا ليس معادلة موضوعية، لها حيزها الثابت في فضاء الوجود بقدر ما هو منطق النفس على إختلاف مشاربها وينابيع مذخورها، النفس هي التي تحدد منطق الدم المغدور، وليس للدم تلك الصلاحية الكونية المكثفة، الصارمة. وشكسبير يبرع في تأسيس هذه الرؤية الكبيرة.
يطرح لنا شكسبير نماذج من التكوين النفسي، نماذج يمكن تجريدها على شكل تصورات ذهنية، قابلة للانطباق على مشاهد خارجية حقا، ولم يكن الدم هو القضية الجوهرية في مكبث، بل الموقف من الدم، وإلا لماذا مكبث والليدي مكبث؟ ولماذا قطرات ماء تكفي لإزالة قطرات دم غيلة، فيما لا كفي كل بحار العالم لتنظيف اليد من هذه القطرات؟ هناك عمق يتجلى من خلال مشاهد مثيرة، والمهم هو سبر ذلك العمق.
لقد شعر ماكبث بالندم فور ا، فهو يقول:
لو مُتُّ قبل هذا الطاريء بساعة،
لكنت قد عشت زمانا مباركا، فمنذ اللحظة هذه
لم يبق ما هو جاد في المصير البشري.
كل شي أُلهية: علو السمعة مضى، والحُسن مات،
ونفذت خمر الحياة، ولم تبق إلاّ الحثالة
يتباهى بها قبو الارض هذا).
ولكن هذا الندم لم تستتبعه توبة، بل حمام دم مفزع، وهي قد تبدو من غرائب المنطق، ولكنها ليست من غرائب النفس الانسانية، وشكسبير يماشي النفس كما تفرض منطقها لا كما يصوغ لها من منطق، ورغم ذلك لم يجير الحقيقة النفسية لصالح الفن، بل هما متوازيان في عمله الفذ. فإن النفس الانسانية لو كانت مجبولة على طبيعة متسقة، ولا تخضع لتقلبات الاحوال لكان من السهل أن يصوغ لها الراصدون قانونا صارما، يقوم على التعميم والتجريد والتوقع ذي الاحتمال الراجح، من هنا، ليس من المستغرب أن يتحول الندم إلى كابوس دموي، يستأنف ذات الجريمة التي تأسس بسببها، وهكذا كان بالنسبة لمكبث، فقد تحول بعدها إلى جزار!
هل هي قاعدة إن القبيح يجر إلى ما هو أقبح منه؟ كلمات أدبية هذه، لا تؤسس لحقيقة يمكن أن تتحول إلى قاعدة إستنباط واستمزاج، وطالما تكذبها وقائع نعايشها ربما يوميا، وبالتالي، لا مناص من مجارات ما يقول به العارفون من أصحاب الذوق الرفيع، أي أن النفس الانسانية عالم غريب، وشكسبير كان يلح على إستجلاء بعض مظاهر هذا العالم الغريب، وذلك على الرغم من أنها رؤية مكبث بالذات مستعينا بالأدب الشعبي (لا بد من مصرعه/ يقصد مصرع مكدف / كمايقولون: الدم يطلب الدم) وقولته الشهيرة (كل ما بالشر يبدأ،إنما بالشر يقوى) ربما تعبر عن حقيقة موضوعية ولكن ليس هي على وزان (الدم يطلب الدم) لأن إمضاءها حقيقة موضوعية يغتال علم الترويض الاخلاقي من الاساس، ويصدع الضمير المبتلى ببداية نذلة حتى المثوى الاخير، وهذا ما لا نريده، وربما أسلط المزيد من الضوء على هذه النقطة فيما قدّمت قراءة لـ (مكدف) من خلال حواره المثير مع (مالكولكم)، ذلك الحوار الذي يشك بعضهم إنه كان من صلب المتن العظيم.
هذا الدم لم يبق باردا في ذاكرة الليدي مكبث، كانت له قابلية التحول إلى دم ساخن، ساخط، تحول إلى كابوس مخيف، هي الاخرى صعقها الدم، واستولى على ضميرها بلغته المرعبة، ففي الوقت الذي كانت فيه قطرات دم الملك مجرد نقاط زائلة، شبح لحقيقة ماتت، تحول إلى دم كوني، وفيما كانت قطرات ماء قليلة تزيل تلك الآثار الساذجة تعجز كل عطور العرب من أن تزيل رائحته النافذة، رائحته التي تزكم التاريخ إلى الأبد!!
فهل هي فلسفة شكسبير في تشخيص نهاية الشر؟ وهل هي فلسفة ذلك الزمن الذي عاش صخبه وأهواله ومجرياته؟ إن هذيان الليدي مكبث لم يكن عودة إلى الضمير، بل هو صدى لخوف مجهول ا لهوية، أو هو صدى لارتباك داخلي كثيف من الصعب تحديد هويته الذهانية أو العصابية، فإن العودة إلى الضمير صحو يعلو صوته بالندم والبراءة وإرادة على معاوضة الاثم بصالح عمل يوازيه ولكن ينفيه. ومن الصعب إحالة هذا التطور في الموقف من الدم إلى قراءة منطقية لقيمة الحياة أقدمت عليها الليدي مكبث أو هو حالة من تأنيب الضمير، شي غامض، مبهم.
تهذي الليدي مكبث: ـ
زولي أيتها البقعة اللعينة ّ! أقول زولي!واحدة إثنتان، هه إذن حان الوقت لفعلتها.جهنم مظلمة.عيب، مولاي عيب! أجندي ومذعور؟ لم تخشى من يعرفها،حين لن يكون ثمة من يستدعي سلطتنا للحساب؟ ولكن من كان يظن أن هذا الشيخ فيه هذا الدم الكثير؟).
هل هي خائفة؟
هل هي نادمة؟
هل هي متحيرة من تناقض مكبث؟
هل هي تعاني من صر اع داخلي مضى عليه زمن؟
تهذي مرّة أخرى: ــ
أمير فايف كانت له زوجة: أين هي الآن؟ ماذا، ألن تنظف أبدا هاتان اليدان؟ يا مولاي،كفى، إنك تفسد كل شي بانتفاضك هذا).
إن لاشعور هذه السيدة تحول إلى مرجل مرعب من التناقضات، مخاوف وآمال، تشابكت وتمازجت وتطارحت، فأنتجت هذا الهوس من الكلام، كانت تمشي في منامها وتطفح بأسرار القتل الاول، ذلك القتل الذي كان بداية محمومة لتاريخ محموم. ولأنه بهذا التعقيد الهائل عجز حتى طبيب الأسرة الحاكمة عن تشخيص اسمه او هويته.