محمد ويهود بن النضير (1/3)

يقول اليعقوبي (ثم كانت وقعة بني النضير، وهم فخد من جذام / سوف نناقش ذلك لاحقا /... وكان رسول الله بعث إليهم بعد أن وجّه من يقتل كعب بن الأشرف اليهوديّ، الذي أراد أن يمكر برسول الله صلى الله عليه وسلم: أن إخرجوا من دياركم وأموالكم. فوجّه إليهم عبد الله بن سلول وأصحابه المنافقين، لا تخرجوا فإنا نعينكم، فلم يخرجوا. فسار إليهم رسول الله...) اليعقوبي ص 49.
والنص يواجه مشكلة الإرسال، فهو غير مسند بالمرّة، ثم مقتل (كعب بن الأشرف / وياتي يوم اناقش فيه أصل القضية /) كان في تاريخ سابق على إجلاء بني النضير، فإن كثيرا من الروايات تفيد أن مقتل كعب هذا جاء بعيد معركة بدر كما عليه سيرة ابن هشام والواقدي وغيرهما!
يقول المسعودي في تنبيه الأشراف (ثم غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الاول بني النضير من اليهود... وكانوا موادعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم همّوا بالغدر به، فنذر بهم، فنبذ إليهم، فأقاموا الحرب، فسار إليهم، فحصرهم خمسة عشر يوما) ص 213.
هذا النص يواجه معضلة الإرسال.
يروي بن مردويه رواية طويلة أنقلها مختصرة عن فتح الباري الجزء السابع ص 255 (... أخبرنا عبد الله بن عبد الرحمة بن كعب بن مالك، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: كتب كفّار قريش إلى عبد الله بن أبي وغيره ممّن يعبد الاوثان قبل بدر، يهددونهم بإيوائهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتوعدونهم أن يغزوهم بجميع العرب، فهمَّ ابن أُبي ومن معه بقتال المسلمين، فاتاهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما كادكم أحد بمثل ما كادتكم قريش، يريدون أن يريدون أن تلقوا بأسكم بينكم، فلما سمعوا ذلك عرفوا الحق فتفرقوا، فلما كانت وقعة بدر كتبت كفّار قريش بعدها إلى اليهود: إنكم أهل الحلقة والحصون، فاجمع بنو النضير على الغدر، فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: أخرج إلينا في ثلاثة من أصحابك ويلقاك ثلاثة من علمائنا، فإن آمنوا بك أتبعناك. فأشتمل اليهود الثلاثة على الخناجر، فأرسلت أمرأة من بني النضير إلى أخ لها من الأنصار مسلم، تخبره بأمر بني النضير، فأخبر أخوها النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يصل إليهم، فرجع، وصبَّحهم بالكتائب، فحصرهم يومه، ثم غدا على بني قريظة فحا صرهم فعاهدوه، فانصرف عنهم إلى بني النضير، فقاتلهم حتى نزلوا على الجلاء، وعلى أن لهم ما أقلت الأبل إلاّ السلاح، فاحتملوا حتى أبواب بيوتهم، فكانوا يخربون بيوتهم بأيديهم فيهدمونها، ويحملون ما يوافقهم من خشبها، وكان جلاؤهم ذلك أوّل حشر الناس إلى الشام) 7 ص 255.
هذه الرواية توردها الكثير من المصادر، ولكنّها مصادر متأخرة نوعا ما، وبعضها ليست ذات قيمة سندية معتبرة، وكل صيغها تنتهي بـ (رجل من أصحاب النبي...)، وإذا كان العسقلاني وغيره يعتبرها صحيحة السند، فان الباحث العلمي يتوقف عند بداية السند (رجل من أصحاب النبي...)، ولا يتساهل في ذلك على إعتبار أن الصحابة كلهم عدول، فذلك شأن المحسوبين على التوجه الديني السني التقليدي. على أن هناك بعض الملاحظات الأخرى على الرواية. منها العجب من غياب أسم هذه المرأة التي أنقذت الموقف كله، ومنها غياب أسم الاخ الذي كان واسطة نقل الخبر من أخته إلى الرسول الكريم، فمن الصعب التصديق بأن التاريخ يهمل مثل هذين الاسمين الخطيرين، فقد لعب صاحباهما دورا إنقاذيا لكل التاريخ الاسلامي، بل لنبوة محمّد بحد ذاتها.
الرواية بطبيعة الحال تختلف عمّا جاء في مصادر السيرة المهمة، مثل سيرة ابن هشام والواقدي وطبقات ابن سعد وأنساب الاشراف وغيرها من المصادر المهمة الاخرى. كما أنها تختلف مع روايات أخرى يعتمدها أهل الفقه، مفادها أن النبي لم يقاتل بني النضير، بل استلسم القوم، كما سيأتي بيانه إ ن شاء الله.
بعد كل هذا تشخص الرواية الأهم، المشهورة في كتب السيرة الأصلية، وملخص الأمر ، هو أن عمر بن أُميّة الضمري كان قد بعثه النبي صلى الله عليه وآله في مهمّة إلى مكّة / سأذكر نوع المهمة فيما بعد لاسباب فنية تتعلق بطبيعة البحث / ولما رجع إلى المدينة لقي رجلين من بني عامر، فاعتقد أنهما كانا يتجسسان ويتحسسان أمر النبي وأصحابه بتكليف من قريش، فقتلهما معاَ غيلة، وأعلم النبي بذلك فاستكثره عليه بحجة لعهد بينه وبين بني عامر، فلزم النبي أن يدفع ديّة الرجلين (فخرج رسول الله إلى بني النضير يستعينهم في دِية ذينك القَتيلين من بني عامر، اللذين قتل عمرو بن أميَّة الضّمري، للجوار الذي بين رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد لهما، كما حدّثني يزيد بن رومان، وكان بين بني النّضير وبين بني عامر عقد وحلف، فلمّا أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعينهم في دية ذينك القتليلين، قالوا: نعم ، يا أبا القاسم، نُعينك على ما أ حببت، مما استعنت بنا عليه، ثم خلا بعضهم ببعض، فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه، ورسول الله إلى جنب جدار من بيوتهم قاعد، فمن رجل يعلو هذا البيت، فيُلقي عليه صخرة، فيريحنا منه؟ فأُنتدِب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب، أحدُهم، فقال: أنا لذلك، فصعد ليُلقي عليه صخرة كما قال، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه، فيهم أبو بكر وعمر وعلي رضوان الله عليهم. فأتى رسولَ الله الخبرُ من السماء بما أراد القوم، فقام وخرج ر اجعا إلى المدينة، فلما استلبث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابُه، قاموا في طلبه، فلقوا رجلا مُقبلا من من المدينة، فسألوه عنه فقال: رأيته داخلا المدينة، فأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إنتهوا إليه، فأ خبرهم الخبر، بما كانت اليهود أرادت به من الغدر به، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ب التهيؤ لحربهم، والسير إ ليهم... فتحصنّوا...) سيرة ابن هشام ص 121.
وحاصل الرواية إن النبي محمد قرر تصفية الموقف مع بني النّضير بسبب التأمر على قتله، أي كانت البداية مؤامرة يهودية مسبقة، تعاهد عليها بنو النّضير مستغلين فرصة ذهبية كانت قد توفرّت، ولكن عنصر المفاجأة في الرواية هو كيفية علم النبي بهذه المؤامرة، فالرواية تؤكد أ ن السماء هي التي أبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فتحرك على ضوء هذا الإخبار السما وي، وقرر تصفية الموقف مع هذه الجماعة اليهودية المتأمرة.
يروي ذلك مفصّلا الواقدي، كذلك كاتبه ابن سعد في طبقاته مختصرا حديث شيخه محمد بن عمر الواقدي كذلك بصورة مختصرة أنساب الأشراف، والتنبيه والاشراف للمسعودي، وغيرها من المصادر الأخرى.
ويمكن أن نسجل الملاحظات التالية على هذه الرواية، مركِّزين على رواية ابن اسحق والواقدي باعتبارهما أهم مصادر الرواية المذكورة.
أولا: هذه الروايات إمّا بلا سند أصلا، أو سندها مرسل. ويكفي أن نعرف أن رواية ابن اسحق مصابة بهذه الآفة، كذلك رواية الواقدي.
ثانيا: أن بعض هذه المصادر لم تذكر قصّة المؤامرة، فلم نجد لهذه المؤامرة ذكرا في (أنساب الأشراف) مثلا، وهو مصدر مهم.
ثالثا: وهناك إرتباك كبير في قصة القتلين العامريين اللذين جاء النبي بسببهما إلى بني النّضير لأشراكهما في ديتهما، ومن مصاديق هذا الإرتباك، أن ابن اسحق يذكر مقتلهما علي يد عمرو بن أميّة الضمري عندما رجع من (بئر معونة) إلى المدينة، حيث كان النبي أرسله إلى (بئر معونة) لاستجلاب جثة(خبيب بن عدي) الذي قتله القريشون هناك / سيرة ابن هشام ص 118 ، فيما يذكر الواقدي مقتلهما على يد عمرو بن أميّة هذا بعد رجوعه من (مكّة). وكان قد بعثه النبي إليها ليقتل سفيان بن حرب لان الأخير كان قد خطط لقتل النبي، فاراد النبي أن يستبقه بقتله، فكلّف عمرو بن أميّة لذلك، ولكن الأخير فشل، وفي طريقه إلى المدينة من مكّة التقى هذين الرجليين العامريين فقتلهما لظنه إنهما كانا في مهمة تجسسية! وأيده في ذلك ابن هشام في رواية خاصة به مستدركا على ابن اسحق كما مرّ بيانه / سيرة ابن هشام ص 397 /.
نعم، هناك أحتمال ا لجمع بين روايتي الواقدي وابن اسحق بالقول أن (عمرو بن أميّة الضمري) قتل أربعة رجال من بني عامر، ولكن هذا الجمع صعب وتحميلي أكثر من اللازم. خاصة إن النبي كان يريد أن يدفع دية قتيلين وليس اربعة، فيما كلهم من بني عامر، حيث يجب دفع دية كل القتلى بسبب المعاهدة بينه وبين بني عامر.
رابعا: إن بعض المصادر لم تتعرض إلى الإخبار الألهي لمحمد فيما يخص قتله أو إغتياله، وأنا أركز على هذه النقطة هنا، لأن الرواة المسلمون يهتمون بالجوانب الغيبية خاصة فيما يتصل بحوادث ووقائع السيرة النبوية الشريفة، ومن هنا نتساءل عن أهمال البلاذري مثلا لهذه النقطة في كتابه المهم (أنساب الاشراف)، وفي كتابه الاخر (فتوح البلدان) / ص 27 طبع دار الهلال / وقد تجاوزها أيضا اليعقوبي في تاريخه، كذلك المسعودي في (التنبيه والاشراف).
خامسا: هناك ا ختلافات بين مصادر الخبر التي نحن بصددها وهي تتحدث عن مؤامرة يهود بني النّضير لقتل النبي الكريم وإخبار السماء له بذلك، نشير إلى بعض منها.
1: نقرأ في سيرة ابن هشام أن يهود بني النّضير أجتمع بعضهم لبعض (فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل هذه الحالة) ثم يقترحون بصيغة الجمع إلقاء الصخرة عليه ص 121، فيما يقول الواقدي (ثم خلا بعضهم إلى بعض فتناجوا، فقال حيَيّ بن أخطب: يا معشر اليهود، قد جاءكم محمّد في نُفير من أصحابه... فاطرحوا عليه حجارة من فوق هذا البيت الذي تحته فاقتلوه) ص 364.
2: جاء في رواية ابن إسحق إن النبي الكريم حاصر يهود بني النّضير ستَّ ليال ص 121، فيما في مغازي الواقدي حاصرهم خمسة عشر يوما ص 374، وفي (أنساب الأشراف) نقرا (وحصرهم خمس عشر ليلة) ص 339.
3: يذكر الواقدي في روايته أن يهود بني النّضير لم يتحصّنوا فقط، بل (جعلوا يرمون ذلك اليوم بالنُّبل والحجارة حتى أظلموا) ص 371، فيما يخلو مصدر ابن إسحق من ذلك تماما، وينستشف من كلامه أنهم استسلموا بلا قتال، وكان النبي قد أمضى لهم ما حملت أبلهم من أموال إلا السلاح ص 121.
هذه عينات مهمة تبين مدى التباين بين الروايات في نقاط مهمة من الحدث، ممّا يجلعنا على حذر من قبول ما يروى جزافا، وتشكل هذه الاختلافات والتباينات نقاط ضعف في الرواية عموما.


ثغرة كبيرة
ينطوي النص على مفارقة كبيرة، لعلَّها تطيح بمشروعيته التاريخية بالصميم، فإن النص يفيد أن النبي الكريم قد أعلمته السماء بمخطط بني النّضير بقتله، فما كان من النبي إلاّ أن ينقض عهده معهم، ويقرر إجلائمهم!
لا يمكن للنبي أن يلزمهم بهذا الإخبار أبدا، فإن إلزامهم يجب أن يكون بجرم مشهود، وليس بالاعتماد على إخبار غيبي، ومن المعروف عن النبي أنه كان يقضي بين المتخاصمين حسب معطيات ا لشهادة الحسيّة وليس حسب معطيات علمه الشخصي، بل هذه احدى قواعد القضاء في الفقه الاسلامي، فإن القاضي حتى لو كان نبيا لا يجوز له الحكم منطلقا من علمه بالواقع، بل منطلقا ممّا تفضي به شهادات الشهود ومعالم البينات، ولا يجوز له أن يقضي أو يلزم أو يبرم أو ينقض بناء على علم خاص به. وربما لذلك عزف الكثير من المؤرخين التطرق إلى هذا الإخبار، أي إخبار السماء للنبي، وإذا أردنا أن نسامح الرواية نصرف علم النبي بمحاولة قتله إلى الحس وليس الغيب، و أنهم عرفوا بعلم النبي هذا، وبذلك تكمل المعادلة بشكل واضح، وقد أسفر الواقدي عن هذا المعنى في تضاعيف سرده للحدث، فقد جاء في السرد أن النبي كان قد أرسل مبعوثه الخاص لبني النّضير يأمرهم بالخروج من وطنه، وممّا قاله هذا السفير إلى بني النضير هو قول النبي (قد نقضتم العهد الذي جُعِلَت لكم بما هممتم به من الغدر بي) ص 367، ويضيف الواقدي بأن هذا المبعوث (أخبرهم... ظهور عمرو بن جِحاش على البيت يطرح الصخرة، فسكتوا فلم يقولوا حرفا) ص 367 /. فهذا النص يبين بوضوح أن النبي كان قد رآهم يهمون بقتله، بل رأي المنفذ للعملية، وهو كما في الروايات (عمرو بن جحاش)، وهذا التصوير ينسجم مع أبسط قواعد الفقه الإسلامي في القضاء، كما أنه ينسجم تماما مع حق النبي بنقضه العهد معهم، ولا يدع حجة لبني النّضير بالرد أو المراوغة، وهو ما اشار له النص.
لم يحتج النبي على يهود بني النّضير بمادة الإخبار الغيبي، بل احتج عليهم بانه نقضوا العهد بمحاولتهم قتله دون الاحتجاج دليلَّا بالأخبار السماوي، ومن ثم، لم يتطرق القرآن إلى هذه النقطة الحسّاسة، رغم أنه تناول موضوعة بني النّضير في سورة الحشر.
يتبع

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونيه