(1): العقل كوني

quot;لا تضحك ولا تبكِ، بل افهمquot; (سبنيوزا)

1
العقلانية إذا عرفناها تعريفاً سالباً، أي بما ليس العقلانية، نقول هي نقيض اللامعقول. اللامعقول درجات أدناها العصاب الجماعي، الاعتقاد في ما لا يصدقه العقل، وأعلاها الهذيان. وهما سائدان في أرض الإسلام اليوم، في جميع الميادين تقريباً من الديني إلى السياسي. الهذيان اعتقاد راسخ في مفهوم مغلوط للواقع يشكل عائقاً لفهم هذا الواقع كما هو. وهو سائد بقوة في الشارع العربي والإسلامي وأيضاً في مكاتب قطاع من المثقفين حتى ممن يقدمون أنفسهم بأنهم quot;ديمقراطيون وعقلانيونquot;.

2
إثر كل حدث سار أو فاجع، تنزل الجموع إلى الشارع في حالة هستيريا جماعية أو بارانويا جماعية. تجلى ذلك بقوة غداة احتلال صدام للكويت. الجموع والنخبة صفقوا معاً، في انصهار كامل، للقرار الهاذي الذي اتخذه صدام، كما اعترف هو نفسه، في المنام خلال حلم quot;صادقquot; رآه. الجموع وجدت شعرة في سورة البقرة، كأمارة إلهية على النصر الإلهي الآتي ضد التحالف الدولي. بعض الإسلاميين وجدوا أحاديث تتنبأ بالحدث. بعض المثقفين تعرفوا على صدام ومعجزته في شعر لابن عربي.د. برهان غليون نصحه في الأسبوع الأول للحرب بالصمود ثلاثة أسابيع-3 فقط لا غير- وبعدها سيحدث انقلاب عسكري في الاتحاد السوفيتي، الذي كان يحتضر، وسينضم الجيش الأحمر إلى جيش صدام... وتحصل المعجزة ! بعد بعض الوقت دخل غليون، ربما ببركة هذا التفكير الإستراتيجي العبقري، إلى السوربون كأستاذ ومدير لمعهدها الاستراتيجي! د. محمد عابد الجابري صفق للحدث ولصانع الحدث فكافأه صدام هو الآخر بوسام... وقعت الواقعة في العراق. لكن الجموع ذاتها والمثقفين إياهم واصلوا الهذيان للإنتفاضة الفلسطينية الثانية التي رأوا فيها ما رأوه في قرار صدام وأكثر... ولما هزمت الانتفاضة ، كما كان متوقعاً، لم يكتب ممجدوها أي نقد ذاتي... أما في الإسلام السياسي، فالهذيان السريري أعدل الأشياء قسمة بين قادته. الشيخ أحمد ياسين أفتى، اعتماداً على القرآن والتوارة، بنهاية دولة إسرائيل سنة 2027، أي بعد 40 عاماً من قيام الانتفاضة الأولي في 1987. الشيخ عبد السلام ياسين، رئيس أكبر تنظيم اسلامي في المملكة المغربية وبإمكانه كسب أية انتخابات، لو لم يكن يكفّر المشاركة فيها: quot;يزعم تلقي الوحي ومجالسة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، والاطلاع على اللوح المحفوظ، وعلم الغيب ورؤية الأرواح [أرواح الأطفال] في البرزخquot;. (الأحداث المغربية 12/09/2007). بعض شيوخ الإسلام التقليدي لا يقلّون هذياناً عن شيوخ الإسلام السياسي: quot;رفض رجال الدين، قبل سنوات، مشروعاً اقترحته الحكومة السعودية لتنزيل الأمطار صناعياً بدعوى أن فيها تدخلاً في مشيئة الله (...) ولم تستكمل إحدى المشروعات السكنية في المنطقة الغربية بعدما اكتشف رجال الدين أن المراحيض تواجه القبلة في مكةquot; (الكاتب السعودي، خالد السعيد، الأحداث المغربية 4/06/2006). آية الله مصباحي، المرشد الروحي لرئيس الجمهورية الإسلامية أحمدى نجاد، يؤكد أنه على علاقة مع الإمام الغائب الذيquot;غابquot; منذ 10 قرون! أحمدي نجاد نفسه بشر مواطنيه في التلفزيون بأنه يلتقى الإمام الغائب بانتظام ويصنع معه قراراته السياسية والعسكرية. بل إنه أقام مخبأً ذرياً وحيداً في إيران مخصصاً للإمام الغائب ليقود منه الحرب القادمة ضد أمريكا! هذه الوقائع الهاذية ، وهي غيض من فيض، مؤشر على أن العقل في أرض الإسلام في الدرجة صفر. لكن هذا لا ينبغي أن يكون مثبطا، بل يجب أن يكون حافزاً ليخوض العقل أكثر معاركه أهمية مع اللامعقول.


3
فما هو العقل؟ في العربية عقل مشتق من quot;عقل البعيرquot; أي تحكم فيه، وفي اللاتينية مشتق من حسَبَ، أي قدّرَ سلفاً احتمال المكاسب والخسائر في أي مشروع قبل الإقدام عليه. العقل ليس الفكر السحري الذي يطلب من الواقع نتائج مخالفة لقوانينة، وهو نمط التفكير الشائع لدى الجموع وكثير من الإعلاميين والمثقفين في العالم العربي؛وليس الفكر الأسطوري الذي يستخدم التخييل الذي ينسب لأبطال واقعيين أو خرافيين قدرات استثنائية لصنع الأحداث؛ وليس الفكر الديني الذي يلغي الرابطة السببية بين الوقائع والأحداث معوضاً لها بضرورة التدخل الرباني في التاريخ: وما تشاؤون إلا أن يشاء الله. هذا تعريف العقل تعريفاً سالباً. تعريفه الايجابي: هو ملكة التفكير النقدي البرهاني. نقدي. لأنه يسأل ويسائل نفسه أيضاً ممارساً نقداً منتظماً للتأكيدات والأفكار والنظريات... معتبراً لها جميعاً مجرد فرضيات قابلة للدحض البرهاني وليست مسلمات مستغنية عن البرهان. مستخدماً، في اختزال الأفكار والنظريات إلى مجرد فرضيات مطروحة لنقاش. وظيفة الفكر النقدي هي مساءلة كل ما يقدم نفسه كحقيقة. والحقيقة ذاتها عنده ليست معطى ثابتاً بل سلسلة من الفرضيات التي نجحت في الاختبارات التجريبية التى مرت بها. كل فرضية تعدّلها فرضية أحدث منها وأوسع في تطبيقاتها من سالفتها. مثلاً فزياء أينشتين عوضت فزياء نيوتن لأنها استوعبت ما هو سديد فيها، وأضافت إليها حقولاً معرفية أخرى، لم تكن فزياء نيوتن تنطبق عليها. برهاني. لأنه يعتبر التأكيدات quot;والحقائق المطلقةquot; مجرد فرضيات عليها إثبات شرعيتها العقلانية. الانطلاق من أن المسلمات المزعومة مجرد نظريات، ضروري لنشاط العقلانية في الحقل الثقافي العربي الإسلامي المليء بالثوابت التي هي في الواقع أوهام ثابتة تستمد شرعيتها من سلطة النص، أي من مجرد الإيمان بها إيمان العجائز. لكن إيمان العجائز يصلح للعجائز فقط وليس لمن يبحثون عن فهم وتفسير عقلانيين للمشاكل التي تأخذ بخناق أمم وشعوب.

4
تعريف العقل بأنه ملكة النشاط النقدي البرهاني هو في الواقع تعريف لآثار العقل لا العقل ذاته. سبب ذلك واضح: لم تكن البيولوجيا قد تطورت بالقدر الذي يتيح للفلاسفة والعلماء تحديد مكان العقل. وهو ما أصبح اليوم ممكناً بفضل تقدم علوم البيولوجيا، التي تعلمنا أن عقل الإنسان هو دماغه المعرفي الموجود في قشرة الدماغ والمسؤول عن العمليات العقلانية المعقدة. هذا الدماغ المعرفي حديث لا يتجاوز عمره 150 ألف عام، وهو ينمو ويتطور - والتطور هو تطور الدماغ - بالتدريب. مثلما يوجد في الدماغ دماغان آخران، الدماغ المتوسط أو الانفعالي حيث تسكن العواطف والإنفعالات واللامعقول، ومكانه الفص الصدغي؛ والدماغ الغريزي المرتبط بالدماغ الإنفعالي وهو مركز الغرائز والغرائز العدوانية. كلما كان الدماغ المعرفي أكثر تطوراً ومرانا وخبرة كان أقدر على التحكم في هذين الدماغين المنتجين للامعقول. وبالمقابل، كلما كان قليل التطور والتمرن والخبرة طغي عليه لا معقول الدماغين الآخرين. أي طغى اللامعقول الديني والسياسي... إلخ على المعقول، الذي هو التفكير النقدي: من هنا أهمية تسليح الدماغ المعرفي بالتعليم العقلاني وبترجمة العلوم، قمة العقلانية، وترجمة الفكر النقدي الغربي والفرنسي على وجه أخص. لأن عقلانية فلسفة الأنوار تغلغلت في الثقافة الفرنسية أكثر من أية ثقافة غربية أخرى.

5
أصحاب جوقة اللامعقول الصاخبة ضد تقليد الغرب لم يفهموا شيئاً من جدلية العقلانية العلمية والتكنولوجية كما تحققت في التاريخ، لم يحدث قط أن مرت أمة إلى مرحلة الإبداع العلمي والتكنولوجي والفكري دون المرور بمرحلة تقليد العلم والتكنولوجيا الغربيين. الصين لم تحقق اليوم من التقدم الاقتصادي في عقدين ما حققته بريطانيا في قرنين إلا بفضل تقليد الغرب. وكذلك فعلت الهند وquot;النمورquot; الآسيوية. تماماً كما أن الطفل يتعلم بتقليد أبويه ومعلميه قبل أن ينتقل إلى مرحلة الاستقلال عنهما وربما التفوق عليهما. وكما أن الترجمة الجيدة هي فعل مشاركة في أبداع المؤلف، وبالمثل التقليد الحق للفكر والعلم الغربيين هو في الواقع مشاركة فعالة في الاكتشاف العلمي والتكنولوجي والابستيمولوجي والثقافي. وهذا اليوم، كما تشهد بذلك تجربة البلدان الصاعدة، ليس مجرد تقليد فردي، بل تقليد تقوم به مؤسسات للمؤسسات الغربية العلمية والتكنولوجية والسياسية والثقافية... تحريم تقليد الغرب هو عنصرية ضد الذات، هو انتحار!.

6
الاكتشاف البايولوجي للدماغ المعرفي بما هو موطن العقل وكل نشاط عقلاني معقد، تأكيد علمي لما صادرت عليه الفلسفة العقلانية منذ أفلاطون وأرسطو حتى الآن:العقل واحد عند جميع البشر. إذن كوني. أي أن معارفه البرهانية عابرة للقوميات والثقافات يسلم بها أو يفندها برهانياً كل ذي عقل سليم مهما كان موطنه أو ثقافته.
التفاوت بين العقول، أي بين الأدمغة المعرفية، حسب الانتماء الثقافي، تصنيف عنصري لم ينهض عليه دليل قط. من هنا غرابة مصطلح quot;العقل العربيquot; الذي جادت به قريحة د. محمد عابد الجابري في كتابهquot;العقل العربيquot;: quot;العقل كوني ومبادئه كلية وضرورية... نعم. ولكن فقط داخل ثقافة معينة وأنماط ثقافية متشابهةquot;، أي خاصة بإثنية ما أو ثقافة ما! هذا التعريف لـquot;العقل العربيquot; تسميه الفلسفة تناقضاً في الحدود، مثل نار ولكن لا تحرق ! أي أن أحد الحدين ينفي ما يؤكده الحد الآخر. في قضية الحالquot;العقل كوني ومبادئه ضروريةquot; ينفي ما تؤكده خصوصيةquot; ولكن في ثقافة معينةquot;! quot;العقل العربي كوني ومبادئه ضرورية ولكن- انتبهوا من فضلكم إلى لكن- بين العرب فقط لا غيرquot;، والعقل اليهودي كوني ومبادئه ضرورية، ولكن بين اليهود فقط دون سواهم! إنه الهذيان الابستيمولوجي. لو كان لكل ثقافة عقلها الخاص بها لما تكونت العلوم الدقيقة، منتوج العقل بامتياز، التي هي نتيجة تفاهم عقلاني مشترك بين أعضاء المجموعة العلمية، عن بعد ، ولما أمكن الاتفاق بين جميع علماء العالم وعقلائه على حقيقة واحدة، ولما استطاع الجميع استخدام البراهين العقلانية نفسها، ولما توصل العلماء إلى اكتشاف حقائق علمية في نفس الوقت دونما اتفاق مسبق.وباختصار لما استطاعت الإنسانية المفكرة من جميع القارات والثقافات الوصول إلى المقدمات نفسها والنتائج والبراهين نفسها. تعددية العقول بتعددية الثقافات، كما يزعم الجابري، تترتب عليها نتائج ابيستيمولوجية كارثية: نفي وجود - أو إمكانية وجود- قوانين علمية كونية، ومعارف كونية. وهذا ما أدركه ابن رشد الذي كتب فيquot;تلخيص ما بعد الطبيعةquot;: quot;أما العقل، فإن من شأنه أن ينتزع الصور من الهيولي [=المادة] ويتصورها مفردة على كنهها، وذلك من أمره بيّن؛ وبذلك صح أن يعقل ماهيات الأشياء؛ وإلا لم تكن ها هنا معارف أصلاًquot;.
فعلاً، في غياب كونية العقل العابر للثقافات تنتفي إمكانية المعارف الكونية وتدخل البشرية في برج بابل هاذ، حيث توجد من العقول والعلوم بقدر ما توجد من الثقافات والقوميات. وهذا ما يكذبه الواقع المعيش. ففي المملكة المغربية والصين يدرس الطالب الرياضيات نفسها والطب نفسه... إلخ. الفقهاء المسلمون تبنوا، في المعاملات، القانون الروماني، الذي تحول إلى عرف وعادة ، في مصر وبلاد الشام وشمال أفريقيا؛ بالمثل ترجم المتكلمون المسلمون quot;لوغوسquot; اليونانية بـquot;علم الكلامquot; واقتبسوا المعجم المصطلحي لمنطق أرسطو؛ كذلك فعل الفلاسفة العرب والمسلمون الذين عربوا كثيراً من المصطلحات الفلسفية اليونانية ولم يترجموها.ولم يتعللوا، كما فعل الجابري، بخصوصيتهم الثقافية الإسلامية ليحرموا أنفسهم من تبني ما أنتجه العقل الكوني في روما وأثينا.
تقول لنا علوم الأعصاب أن جميع درجات العنف، من المنافسة إلى الحرب، انطبعت في دماغينا، الغريزي والانفعالي، منذ مليوني عام ومازالت منطبعة فيهما ، كطبيعة ثانية، حتى بعد ظهور الدماغ المعرفي الذي مازال يصارع للتحكم في لا معقول الدماغين العتيقين. انكار كونية الدماغ المعرفي تعني العودة إلى quot;حالة الطبيعةquot; وquot;التوحشquot; قبل ظهوره. وليس مصادفة أن النظريات العلمية، والأفكار التنويرية، والقيم الإنسانية العقلانية والنداءات إلى quot;السلام الدائمquot; العابرة للثقافات، كانت نتيجة الأحتكام إلى العقل الكوني ، وصدرت عن ذوي العقول السليمة من جميع الأمم والثقافات؛والحال أن أشد الحروب والمجازر فظاعة، وأكثر المجتمعات انغلاقاً وأكثر الثقافات عداء للعقل صنعتها شخصيات فصامية، سايكوباتية وبارانوايه هاذية. من الإسكندر quot;ذو القرنينquot; إلى بن لادن مروراً بنيرون، جنكيز خان، نابليون، هتلر، ستالين، بول بوت، خميني وصدام. هذا يعني أن هجوم الجنون في التاريخ، كما أسماه ريمون آرون، خطر داهم ودائم. مما يفرض على العقل الكوني، أعني المجتمع المدني العالمي والمجموعة الدولية، أن يبقى حذراً ويقظاً حتى لا يطوف عليه طائف الجنون الدموي. الدماغان الغريزي والانفعالي أوquot;القوة الغضبيةquot; كما أسماها الفلاسفة العرب والمسلمون، تمرّسا بكل الآفات والأهواء العنيفة والمخاوف اللامعقولة طوال عمرها المديد وخاصة منذ اكتشاف السلاح الحجري والصيد. لذلك استطاعا استخدام الدماغ المعرفي الفتي والقليل الخبرة كأداة لتحقيق مكرهما والتذاذهما السادي بقسوة الإنسان على الإنسان، واستغلال الإنسان للإنسان واستمتاع الإنسان بالإنسان غلاباً واغتصاباً: quot;ما من رجل حللته إلا وهو يرغب في الإغتصاب quot;(فرويد). لكن العقل ليس اعزل أمام اللامعقول. إنه يستطيع، بالتعليم والإعلام العقلانيين، أن يتحكم في ميولنا الشريرة. تجربة التعليم والإعلام الأوربي تنهض شاهداً على ذلك:إقصاء التحريض على الكراهية والعنصرية والحرب من التعليم والإعلام، منذ نهاية المذبحة العالمية الثانية، أنتج في أقل من جيلين(40 عاماً)أجيالاً مسالمة تعادي الحروب بقوة غير مسبوقة في التاريخ. تجلى ذلك في الثمانينات، عندما أراد الحلف الأطلسي إقامة صواريخ برشينغ القادرة على استهداف الاتحاد السوفيتي، في المظاهرات الحاشدة التي رفعت شعار: quot;نفضل أن نكون حمراً [= تحت الإحتلال السوفيتي]على أن نكون أمواتاًquot;. وساندها الرأي العام الأوربي بقوة ، 60% من الفرنسيين أجابوا في إحدى الاستطلاعات، رداً على سؤال quot;ما هو واجب رئيس الجمهورية إذا احتل الاتحاد السوفيتي فرنسا؟quot;، quot;التفاوض مع المحتلquot; والحال أن السؤال المتلاعب يوحي لهم بجواب quot;أن يضغط على الزر الأزرقquot; لتطيير القنابل النووية إلى موسكو. بإمكان الحكم الصالح في أرض الإسلام، إذا وعى ضرورة إلغاء المناهج المدرسية التي تهيّج غريزة الموت في النشء والرغبة في القتل مثل تدريس العقوبات البدنية الشرعية، والجهاد وثقافة الإستشهاد وكراهية quot;اليهود والصليبيين والإجهاز على جريحهمquot;، وعداء المرأة والمواطن غير المسلم، والمواطن العلماني، والعقل وتحريم تدريس الفن وكل ما ينعش غرائز الحياة، و إذا وعى أيضاً ضرورة تعويضها بتدريس الأخلاق العلمانية الكونية، أخلاق حقوق الإنسان، والفلسفة والفن والموسيقى والرسم والنحت والرقص، فإنه سينجح خلال جيل في تكوين أجيال عقلانية تدرب دماغها المعرفي على النفور من العنف والإرهاب، وحب مواطنيهم ومعاصريهم بقطع النظر عن الجنس والدين، والإحتفاء بالعقل والفن وغرائز الحياة ، الترياق المثالي لغريزة الموت.
الدماغ المعرفي لم يشرع في التدرب على ألف باء التفكير المنطقي والحوار العقلاني إلا منذ 150 ألف سنة فقط. ولم ينجح في إقامة أول مسودة حضارة زراعية إلا منذ 10 آلاف عام. المغزى: إنه لازال في مقتبل العمر، وفي السيناريو المتفائل، مازال مستقبله أمامه، خاصة إذا غذته البشرية بتعليم وإعلام كالتعليم والإعلام الأوربيين المسالمين، وإذا لم يتصد له quot;العقل العربيquot; الإسلامي، الذي أضاع صوابه، بأسلحة الدمار الشامل لينحر وينتحر على غرار استشهاديي القاعدة وحماس.
في 2002، فندتُ أسطورة quot;العقل العربيquot;، فرد عليّ الجابري بصفحة كاملة في quot;الأحداث المغربيةquot; بحوالي 5000 كلمة وقعها باسم quot;... معلم ابتدائي في قرية...quot; دون أن يعي أنه ارتكب، بتوقيعه المستعار، زلة قلم بالمعنى التحليلي النفسي: اعتراف لا شعوري باستصغاره لنفسه في قرارة نفسه!.

7
برنامج العقلانيين العرب، كم كنت أتمنى لو تسموا بـquot;رابطةالعقلانيين في العالم العربيquot; لدعوة الأقليات للإنتماء إلى رابطتهم التى قد يوحى اسمها بـquot;العقلانية العربيةquot; على وزن quot;العقل العربيquot; إياه، لا يمكن إلا أن يكون الدعوة، من خلال الترجمة والكتابة، إلى الانفتاح على العقل الكوني وعلى ثقافة جميع الأمم واستثماراتها ومنتجاتها ومواطنيها وفلسفاتها وفنونها وآدابها وعلومها وتكنولوجياتها؛ ولايمكن لبرنامجهم، في مجتمعاتهم المتخلفة علمياً وتكنولوجياً وبالتالي عقلانياً، إلا أن يكون البحث الجاد لدفع نخب شعوبهم إلى وعي ضرورة التقدم إلى مجتمع المعلومات الذي هو مفتاح الدخول إلى عصر الثورة الصناعية الثالثة الموسومة بتطوير تكنولوجيا الاتصال والمعلومات التي ترمز لها الانترنت والتي تمثل البوتقة المثالية للعقلانية العلمية والتكنولوجية، إذن الشاملة.
العقلانية العلمية والتكنولوجية تجر الشعوب جراً إلى العلمانية. إذ أن العلم والتكنولولجيا لا يتساكنان مع طغيان المقدس على المجال العام. الفجوة الرقمية تشجع هجرة العقول إلى البلدان الصناعية وتفريغ بلداننا من نخبها العقلانية. لابد إذن من الدعوة الملحة إلى تعاون دولي لردم الفجوتين الرقمية والمعرفية بين الشمال والجنوب كرهان على إمكانية عالم يحكمه العقل.

8
استخلاصاً، أقول أن محور العقلانية هو الاحتكام إلى ملكة العقل النقدي في حل النزاعات والإشكالات بعيداً عن الحرب والفكر السحري والأسطوري والديني وسلطة النص.

9
الرهان هو صياغة خطاب عن اللامعقول، خاصة الديني لفهمه وتفسيره تحريراً للمعقول من أسره في أرض الإسلام حيث سيتعايش، أكبر الظن، المعقول واللامعقول طويلاً ويتصارعان طويلاً مادام الإسلام السياسي سواء أكان في الحكم، أم في المعارضة مصّراً على ممارسة الإرهاب ضد العقل، وما دام العقلانيون بدورهم مصرين على نشر مشروعهم التنويري دفاعاً عن العقل، بالتي هي أحسن، في أرض الإسلام التي مازالت منذ قرون تتعامل مع العقل بحد السيف، وأعواد المشانق وطلقات الرصاص: الفقيه العقلاني الجعد بن درهم ذبحه الوالي الأموي خالد القسري، الفيلسوف الإشراقي، السهروردي، أمر صلاح الدين ابنه، الملك العادل، فقتله سلخاً في حلب، العقلاني الديني محمد محمود طه شنقه حسن الترابي في الخرطوم، والعلماني فرج فوده سقط برصاص الإسلاميين في القاهرة، والتنويري نجيب محفوظ نجا من سكاكينهم بأعجوبة، وربما غداً، من يدري، يأتي الدور على كاتب هذه السطور الذي توعده راشد الغنوشي بالخطف من باريس وquot;الشنق في ساحة الباساج وإلى جانبه تلك الزنديقة الأخرى رجاء بن سلامةquot;!.

يجتمع العقلانيون العرب في باريس، في أول لقاء من 24 إلي27 تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري لتأسيس رابطة العقلانيين العرب، وإعادة هيكلة موقعها quot;الأوانquot;، وقد استضافوا العفيف الأخضر لإلقاء هذه المداخلة في اجتماعهم.

الحلقة الثانية: العقلانية الدينية

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية