quot;العلاّكونquot;.. فئة تعلك، ثم تعلك، ثم تُعيدُ عَلكَ سَقْطِ الكلام.
فئة تقول كل شيء، ولا تقول شيئاً.
فئة تظهر في كل زمان ومكان.
فلكل زمان quot;عُلاّكهquot;. وهم يعلكون سَقْطَ الكلام، وتفاهة الأقوال، وسوء الأحكام. وغايتهم مضغُ الكلام المعلوك، وquot;الطرطقةquot; به، لكي يسمع الآخر (آخرهم) الذي في أذنيه وقراً، حيث لا حجّة لهم، ولا طريق لهم على ذلك الآخر غير quot;الطرطقةquot; بعَلكِ سَقْط الكلام.
نقرأ بين فترة وأخرى هجوماً صبيانياً غوغائياً، غير علمي وغير موضوعي على الإسلام من قبل كتاب مسلمين وغير مسلمين مضطهدين في أوطانهم، نتيجة عوامل كثيرة. وهذا الهجوم شائع هنا في quot;إيلافquot; وغيرها من مواقع الانترنت التي تتمتع بهامش حرية أكبر بكثير من هامش حرية الصحافة الورقية. وقد لاحظ الكثيرون أن هذا الهجوم والنقد المرير لا ينصبُّ على فقهاء الإسلام المعاصرين، وأقوالهم، واجتهاداتهم، وفتاواهم، وإنما ينسحب أيضاً على بعض النصوص المقدسة الإسلامية. وغرض هؤلاء إما إثبات أيديولوجية سياسية معينة، أو الاقتصاص من الأحزاب الدينية التي تقف عقبة في طريق منح بعض مكونات المجتمعات العربية حقوق المواطنة كاملة، أو الثأر من أجهزة الدولة الحاكمة التي تحول بين الناس وألسنتهم.
وهؤلاء المهاجمون quot;العلاّكونquot; لم يميزوا بين quot;إسلام القرآنquot; وquot;إسلام الفقهاءquot; ونصوصه التي تراكمت على مدى 14 قرناً لتنتج لنا quot;الإسلام المُضادquot;، كما يُطلق عليه المفكر الليبي الراحل الصادق النيهوم. وهؤلاء المهاجمون يستغلون دون شك أيضاً، قضايا حياتية برزت في السنوات القليلة الماضية وما زالت بيننا كالحجاب، والختان، ووضع بعض الفقهاء للمرأة في مكان متدنٍ من مكانة الرجل.. الخ.
فالإسلام يُعرفُ بالحق، ولا يُعرفُ الحقُ بالإسلام وحده.

حقائق لا بُدَّ من إظهارها
هناك الكثير من الحقائق التي يجب أن تنجلي بوضوح شديد، منها:
أولاً: صحيح أن هناك بعض الفتاوى الدينية (ومعظمها تصدر من مصر)، التي تُغضب المسلمين وغير المسلمين في العالم العربي في شتى شؤون الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ولكن السؤال هو : ما هي نسبة الأفراد المتضررين من هذه الأحكام.
هناك من يقول مثلاً بـ quot;دار السلامquot;، و quot;دار الحربquot;.
فأي من الدول العربية والإسلامية تُطبّق هذا النظام الآن؟
وما هي نسبة الناس التي تؤمن وتُطبّق هذه المقولة؟
فهذه مقولة من عصور ظلام سابقة، يرددها ظلاميون، ويستفيد منها ظلاميون آخرون، يلبسون مسوح الليبرالية، ويدّعون أنهم يدافعون عن الحريات.

ثانياً: صحيح أن هناك فقهاء متشددين ومتطرفين، يعتبرون أن الدين جنسية والدين وطن.
ولكن أين هي الآن الدولة العربية أو الإسلامية، أو المجتمع العربي الذي يعتبر أن الدين جنسية، والدين وطن ويُطّبق هذه المقولة على أرض الواقع؟
هذه مقولة غبارية، تراثية، صحراوية، عفا عليها الزمن. والحاكم في الدولة الإسلامية لم يكن يُدعى بـ quot;أمير المسلمينquot;، ولكنه كان يُدعى بـ quot;أمير المؤمنينquot;.. كل المؤمنين بالله من مسلمين، وغير مسلمين. فالعبرة هنا بالأفعال وليست بالأقوال. والعبرة في الحقيقة التي على الأرض وليست في حبر صحاف الإسلام السياسي الصفراء المتآكلة. ومثل هذه الأقوال المجانية سياسية أكثر منها دينية، موجودة في كل عقيدة، وفي كل أيديولوجية. وإحضار مثل الأقوال كلما quot;دقَّ الكوز بالجرّةquot;، وعجزنا عن اجتراح الحقيقة، هي كمن يحاول اليوم أن يستعمل الأدوات المعروضة في المتاحف منذ قرون طويلة في مأكله، ومشربه، وملبسة.

ثالثاًً: الأديان السماوية والأرضية كأي عقائد أخرى تتعصرن الآن وحدها، وبفعل قوتها الذاتية، وبفعل كور نار الحداثة من حولها، وإن كان تعصرنها بطيئاً، نتيجة لثقل الموروث الفقهي الإسلامي والمسيحي واليهودي المحمول على كتف هذه الأديان منذ آلاف السنين. وهذه العصرنة البطيئة وغير الملحوظة، تتم رغماً عن إرادة كثير من فقهاء وقساوسة ورابيي هذه الأديان، الذين يرفضون التغيير، ويرفضون التطوير، ويعتبرونهما ضد مصالحهم الاجتماعية والسياسية والمالية، ومساساً بهيبتهم وسلطتهم الكهنوتية، التي اكتسبوها في العصور المنحطة والأزمنة الرديئة كهذا الزمن الذي نعيش فيه الآن، والذي أصبح فيه الفقيه والقسيس والرابي هو البحّار والدليل والمرشد في الطريق السياسي والاقتصادي والاجتماعي في غياب الأدلاء والمرشدين النُصحاء.
فالدولة التي فيها فقهاء يرمون الآخر بالكفر والحرابة، هي الدولة الأشد وثاقاً وتعاوناً مع هذا الآخر. والدولة التي فيها فقهاء، يقولون بقرابة المسلم الهندي إلى المسلم المصري أكثر من القبطي، هي الدولة التي تبنّت المشروع القومي العربي، والتي نادى زعيمها ومثقفوها بوحدة الوطن العربي من المحيط إلى الخليج. وأن مقولة quot;القرابةquot; التي يرفعها بعضهم كأعلام حمراء مُنذرة، ما هي إلا من اللغو الديني، وسقط الكلام السياسي. والعبرة هو ما يجري على أرض الواقع ليس على المستوى الفردي فقط، ولكن على المستوى الجمعي العام، وليس بين فئات دينية معينة متشددة، تحترق رويداً رويداً لتصبح غداً رماداً تذروه الرياح.
فهؤلاء ليسوا هم الشعب.
وهؤلاء ليسوا هم الوطن.
وهؤلاء ليسوا هم صُناع القرار والمستقبل.
وهناك الآن في هذا العالم الجديد، ضمانات عالمية ضد هذه المخاوف غير المبررة من قبل البعض. ومن هذه الضمانات جمعيات حقوق الإنسان، والغرب العَلْماني والشرق الآسيوي العَلْماني بقيمهما السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وكذلك الجزر العَلْمانية المتناثرة هنا وهناك، في العالم العربي، وفي العالم الإسلامي. كل هؤلاء هم عبارة عن ألسنة من اللهب المذيب لصدأ الحديد في كافة الأديان، والمتمثل بأقوال بعض الفقهاء والقساوسة والرابيين. وحتى عندما قامت حكومة دينية كحكومة quot;حماسquot; وهلع من هلع، وفزع من فزع، وخلع من خلع، لم تحتَجْ مثل هذه الحكومة ذات الفيروس سريع الانتشار، إلى أكثر من حُقنة واحدة مضادة من العَلْمانية الدولية، لكي تتركها جثة هامدة دون حراك، كما هي عليه الآن. وقد تمثل ذلك بوقوف العالم كله في وجهها، عندما مُنح بالأمس العَلْمانيون الفلسطينيون (حكومة فتح) أكثر من سبعة مليارات دولار خلال السنوات الثلاث القادمة، بينما لم يطلب العَلْمانيون الفلسطينيون غير خمسة مليارات دولار فقط. وهو دليل على أن العالم لا يقف ضد إقامة quot;دولة عَلْمانية فلسطينيةquot;، ولكنه يقف ضد إقامة quot;دولة دينية فلسطينيةquot;. وكان تأييد العالم واضحاً لإقامة دولة يهودية بقيادة العَلْماني الصهيوني المؤسس بن غوريون، دفعاً من العالم لإقامة الأنظمة العَلْمانية في مهد الأديان السماوية الثلاث. وهو ما أدركه بن غوريون بذكاء ودهاء عندما استبعد تماماً قيام دولة دينية يهودية في فلسطين، وأحرق عام 1948 لعصابة quot;أتسلquot; الإرهابية سفينة quot;ألتاليناquot; المحملة بالسلاح، وحارب دون هوادة كل المنظمات اليهودية الدينية المسلحة كمنظمة quot;الارجونquot; الإرهابية، التي نسفت فندق الملك داوود في القدس عام 1946. وقلّص أثر وفعالية معظم الأحزاب الدينية اليهودية كحزب المفدال وشاس وأغودات إسرائيل وغيرها. بينما حارب quot;الإخوان المسلمونquot; في فلسطين لإقامة دولة دينية بقيادة الحاج أمين الحسيني الذي تحالف مع هتلر والنازية، فأسقط العالم العَلْماني هذا الهدف، وفازت إسرائيل العَلْمانية فقط بالدولة.
فلماذا كل هذا الهلع والفزع من فتوى طائشة هنا وقول هناك، وتأطير هذه الفتاوى الدينية المتحفية في أُطر عريضة ومذهبّة، من عصر الباروك وما قبله، ووضعها في صدر المجالس، والصحف، والمواقع، والرقص حولها، كما كان أكلة لحوم البشر يرقصون حول النار.
العَلْمانية هي قدرنا الذي لم يدركنا ولم ندركه حتى الآن، كما كانت قدر كل شعوب الأرض التي أدركتها.
ونسبة الشعوب التي تحكمها العَلْمانية، بلغت قبل سنوات معدودة، أكثر من 85 بالمائة من شعوب الأرض كما قال آخر التقارير.
فلماذا كل هذا الخوف والفزع، من قوقأة الدجاج، وكأن غداً نهاية هذا العالم على أيدٍ دينية متحفيّة خفيّة، هي أقرب إلى الخيال.
فبوصلة العالم تتجه نحو الأصلح، والبقاء دائماً للأصلح.
والغيوم السوداء تحجب ضوء الشمس إلى حين، ولكنها لا تُلغي الشمس.
وخلال تهنئة بعيد الأضحى المبارك بالأمس، وجدث مفكراً ليبرالياً كأحمد البغدادي متفائلاً بالمستقبل ndash; على عكس ما يكتب في بعض الأحيان ndash; وبأن الليبرالية العَلْمانية تتقدم، رغم أن أعداءها يملكون كل وسائل النطاح والقتال، والفتك الثقافي والديني والسياسي.

رابعاً: صحيح أن هناك بعض الفقهاء، يعتبرون أن الحجاب والختان من الإسلام الصحيح. وبأن دونية المرأة هي من طروحات الإسلام الخاصة دون غيره من الأديان. وأن المرتد في الإسلام يُقتل.. الخ. وبعضنا يلوك في فمه مثل هذه الأقوال، و quot;يُطرطقquot; بهذا العِلْك في quot;الطالعة والنازلةquot;، علّه يُسمع صوته للآخر الأطرش، فذلك هو طريقه الوحيد لذلك. في حين أن أصل الحجاب وأُسّه ليس من الإسلام، بل هو من غيره من الأديان التي لا تُنتقد ولا تهاجم كما ينتقد ويهاجم الإسلام هذه الأيام من قِبل quot;العلاّكينquot;!
فقتلُ المرتد، ليس الإسلام هو السابق له ، بل إنها اليهودية - أقدم الأديان السماوية - التي تقول: quot;إذا وُجِدَ في وسطك رجل أو امرأة، يفعل الشر في عين الربِّ، ويذهب ويعبد آلهة أخرى، فاخرج ذلك الرجل أو تلك المرأة، وارجمه بالحجارة حتى الموتquot; (سفر التثنية،2/6).
والختان، ليس من ابتداع فقهاء الإسلام، ولكنه من ابتداع الديانة اليهودية من قبل، التي تقول: quot;وقال الله لإبراهيم: هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم، يختن منكم كل ذكرquot; (سفر التكوين، الإصحـاح 17).
وأما الحطّ من قيمة المرأة، ووضع المرأة في موضع الدونية، فبدأت بها المسيحية في قول الرسول بولس إلى ثيموثاوس: quot;لست آذناً للمرأة أن تُعلَّم، ولا تتسلّط على الرجل، بل تكون في سكوت، لأن آدم جُبِل أولاً، ثم حواء. وآدم لم يُغوَ، لكن المرأة أغويتquot; (رسائل بولس إلى ثيموثاوس، 2/12). وفي رسالة بطرس الأولى (3/1) نقرأ : أيتها النساء كنَّ خاضعات لأزواجكنَّ، كما كانت سارة تُطيع إبراهيم، داعيةً إياه سيدهاquot;. ونقرأ كذلك في رسالة بولس إلى أهل أفسس (5/22) : quot;أيتها النساء اخضعن لرجالكنَّ كما للربِّ، لأن الرجل هو رأس المرأةquot;. ونقرأ في سفر التكوين ( 3/16): quot;لرجلك يكون اشتياقك، وهو يسود عليكquot;.
وكل هذه المواقف، كانت من العادات الاجتماعية للشعوب الغابرة، وأصبحت فيما بعد، أدياناً قُدسية.
نعم، لقد تحررت المرأة المسيحية من كل هذا، وذلك بفضل فلاسفة ومفكري ومثقفي التنوير في الغرب. ونحن في العالم العربي نسعى إلى تحرير المرأة المسلمة، كما تحررت المرأة المسيحية. فمهلاً علينا أيها السادة quot;العلاّكونquot; الذين تشنفون آذاننا صباح مساء بأقوالٍ ومواقفَ لسنا نحن المسلمين بمخترعيها، ولكنها من تراث الماضي الاجتماعي أكثر منه الديني.
لقد كان حظ الغربيين أحسن من حظنا، فسبقونا إلى مطالع النور. ونحن ماضون إليها بكل عزم وثبات، رغم العاصفات عصفاً.
السلام عليكم.
وعلى الأرض السلام، وفي الناس المحبة.
وشالوم عليخم שלום עלכם

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية