أما الإخوان فقد بدأوا في احتلال مصر، وأما حزب التحرير فقد بعثوا من الرماد مثل طائر الفينيق، فبعد أن اندثروا في الشرق الأوسط بعثوا من القبور في الشرق الأقصى؟ ففي 12 أوجست 2007م كانوا يحتلون استادا رياضيا في جاكرتا، يحتشد فيه مائة ألف من الأتباع أو يزيدون، وترجف أمريكا ومعها الحكومة الأندنوسية من امتدادهم لاحتلال ثلاثة آلاف جزيرة؟
ويبدو من تاريخ الحركات كما روت لي داعية السلام سعدية سعيد أن كل فكرة مهما بلغ من سخفها التف حولها عدد من الناس يزيدون أو ينقصون، ويوم القيامة يأتي النبي وليس معه أحد؟؟
وتبدأ قصة جماعة الإخوان المسلمين تأسيسا عام 1928 م، على يد شاب لم يتجاوز العشرين من العمر، من مواليد المحمودية، عام 1907 وتم الاحتفال في الأردن في عام 2007م بمناسبة مرور مائة عام على مولده، ومن يقرأ كتاب (مذكرات الدعوة والداعية)، وهو كتاب خطه البنا بيده يصل إلى تفصيلات مذهلة، في تلافيف دماغ هذا الرجل العجيب الكارزمائي، الذي أطلق اسمه على شارع في طهران، في الوقت الذي تمت ملاحقته وجماعته في غاية الشراسة في البلد الذي نشأ فيه، وتصفيته جسديا بإطلاق الرصاص عليه في وضح النهار، وشنق جماعته في طوابير على وجبات، مثل دفعة عبد القادر عودة عام 1954م ثم في الستينات مجموعة سيد قطب.
وأهم ما ميز الحركة تنظيم محكم، يذكر بحركات الفاشيين والنازيين، التي تزامنت معها في الظهور، وكان البنا بالتأكيد يلاحظها ويستفيد منها، وأهم ما تميز به البنا تطوره الفكري، ولو عاش للثمانينات لكُتب لمصر والحركة مصير مختلف.
كان البنا يستفيد من جو التاريخ فيرمم حركته، وكان يمشط القطر المصري من أقصاه لأقصاه، وهو يجند الأتباع وينظم الجماهير، ولو كان جسم الحركة وقلبها له، ودماغها لأخيه المجدد الأصغر منه (جمال البنا) لكان للحركة شأن، ولغادرت كهوف التقليد إلى العصر، ولكنها مهمة صعبة تقترب من الاستحالة.. في ثقافة مصابة بالكساح منذ أيام كافور الأخشيدي..
وفي لقائي مع (مالك بن نبي) المفكر الجزائري في دمشق قبل موته بقليل، حكى لي رغبته في لقاء الرجل، أي البنا، ولكن حال الموت بين لقاء الرجلين، ولربما تلقحت الحركة بفكر مالك فتغير مسارها لاندري؟؟
ووصف بن نبي زعيم الحركة أنه:
quot;إذا كان قد أتيح لذلك الزعيم أن يؤثر تأثيرا عميقا في سامعيه، فما ذلك إلا لأنه لم يكن يفسر القرآن، بل كان يوحيه إلى الضمائر التي يزلزل كيانها، فالقرآن لم يكن على شفتيه وثيقة باردة، أو قانونا محررا، بل كان يتفجر كلاما حيا، وضوء آخذا يتنزل من السماء فيضيء ويهدي، ومنبعا للطاقة يكهرب إرادة الجموع.
لم يكن الرجل يتحدث عن ذات الله، كما صورها علم الكلام، أي عن الله العقلي، بل كان يتحدث عن الله الفعّال لما يريد، المتجلي على عباده بالرحمة والقهر، تماما كما كان المسمون الأوائل يستشعرون حضوره فيما بينهم، ونفحته المادية في بدر وحنين؛ فالحقيقة القرآنية تتجلى بأثرها المباشر على الضمير، وبتأثيرها في الأناسي والأشياءquot; اهـ
هذه الكلام جاء في كتاب (وجهة العالم الإسلامي) لمالك بن نبي في معرض حديثه عن فوضى العالم الإسلامي.
وهذا الكلام يذكر بكلمات (رودولف هيس) وهو يصف خطب هتلر التي كان يسحر بها الجمهورquot; وكأنها ميلوديا خالدة تنزل على الضمائر من الملك العلوي.. فترفع الناس وتحلق بهم إلى أعلى عليين، ثم لا تلبث أن تهوي بهم في قيعان الجحيم..؟quot;
وحسن البنا مؤسس جماعة (الإخوان المسلمين) كان بناء بحق، منظما للجماهير، كتلة متدفقة من الحيوية والنشاط والجاذبية، لا تكف عن كسب الأتباع، والتمدد والاتساع في كل العالم.
وأتباعه أصبحوا شجرة باسقة من حافة الأطلنطي إلى المحيط الهندي، بتعبير مجلة (در شبيجل) الألمانية في عددها 27 في مطلع يوليو 2007م، في دراسة انكب عليها رهط من الباحثين، لرصد هذه الظاهرة الاسلاموية؟
وهو دليل على الشأو الذي بلغته الجماعة، فقد احتلت 17 مقعدا في البرلمان الأردني من أصل 110، ومع أنها محظورة في مصر، فقد بلغ اقتحامها للسياسة أن قفزت بمرشحيها في مجلس الشعب من 15 إلى 88 مقعدا، فزادت قوتها أربعة أضعاف، مع أنها لم تخوض المعركة إلا في 160 دائرة انتخابية من أصل 444 دائرة، في نفس الوقت الذي تجتاح الجماعة حملة اعتقالات جماعية شرسة طالت 600 عنصر من قياديها أعضائها دفعة واحدة.
والظاهرة الإسلامية موضع قلق من الغرب، بدءً من اجتياح حركة (طيب أردوغان) في تركيا، التي نالت في انتخابات عام 2007م 46% من الأصوات، بحيث تستطيع ولوحدها أن تشكل الحكومة، بدون الاستعانة بأحزاب أخرى، وانتهاء بجماعة بنكيران والإصلاح والتجديد في المغرب التي هي في طريقها لحصد نفس النتيجة.
وقصة الصدام المسلح في سوريا غنية عن التعريف.
وهيمنة جماعة الغنوشي في تونس معروفة، وكانت قاب قوسين أو أدنى من السلطة لولا الانقلاب المضاد.
وامتداد حركة المجتمع المدني للسلم في الجزائر، أو البرلمان الكويتي وآخر تطورات البحرين فضلا عن اليمن كلها مؤشرات لطوفان التيار الإسلاموي..
وحركة (حماس) حاليا هي امتداد غير مباشر لهم، و(أبو ليلى) الصيدلي والطبيب (الرنتيسي) كانا من تأثر بفكر الأخوان في مصر، وأسسا عام 1987م سوية الجناح العسكري لحركتهم حماس.
والمهم حسب تقرير مجلة (الشبيجل) أن أي دارس للتاريخ، لا يستطيع تجاهل أثر هذا الرجل الذي يشبه المسيح من جانب، أنه اختفى مبكرا من مسرح الأحداث، قبل تمام عمله، وهو أمر لا يقر به لا أتباعه ولا أتباع المسيح؛ فالمسيح عليه السلام يبدو أنه اختفى في عمر الثلاثينات، والبنا قتل في وضح النهار في الأربعينات من عمره. في 12 فبراير 1949م بعد مصرع النقراشي رئيس الوزراء المصري على يد الأخوان بقليل..
ولو بقي عمل البنا تربويا اجتماعيا، كما روى لي (فتحي رضوان) لترك أثرا أعظم وأبرك، كما فعلت جماعة الدعوة والتبليغ في الهند، ولكن الفخ السياسي كان أعظم.
وأخطر شيء دفع الجماعة إلى حافة الانتحار كانت خطوة تبني (العنف) وسيلة للتغيير الاجتماعي، فقضت على الجماعة ومؤسسها.
وظهر هذا واضحا في كتابات سيد قطب عن المواجهة المادية، فالجاهلية حسب وجهة نظره، لها جناحان من فكر وقوة مادية، فيكون غباءً وقلة حنكة، أن تواجه القاعدة الإسلامية الجاهلية بالفكر بدون القوة المادية من سلاح وعتاد.. حتى تكون المواجهة صحيحة، والنتيجة مضمونة، ولذا طرح (قطب) مفهوم القاعدة الصلبة الواعية التي نسمعها في كل العالم اليوم (القاعدة)!
ومن أجل سد هذه الثغرة المادية؛ فقد أسس البنا (التنظيم الخاص) وهو تنظيم مسلح سري، بقيادة شاب متهور (السندي)، ولكن الحصان العسكري جموح، وقصة الترابي في السودان شبيهة بهذا، بعد أن رماه الحصان العسكري الجموح من ظهره فوقع وترضرض، ولولا الجو القبلي العائلي في السودان لطار رأسه؛ فهو محظوظ..
انخرطت الجماعة في أعمال مسلحة ضد الإنجليز، ثم في الحملة إلى فلسطين، والنتيجة معروفة؛ فمن أخذ السيف بالسيف يهلك، وهكذا بدأ الصدام مع عبد الناصر في مسرحية اغتياله في حادثة المنشية.
وعن هذه الظروف كتب العشماوي (الإخوان والثورة) يحكي الفصول الخفية للصراع، وأشار إلى مسألة العصيان المدني، التي كان يمكن أن تقوض النظام الديكتاتوري الوليد، ولكن عقدة العنف أضاعت كل شيء. كما أضاعت ثمارا يانعة في أمكنة شتى، ومكنت للحكم العسكري أكثر، وكانت خلف الارتطام ببرجي نيويورك في النهاية.
وحاليا تطور الإخوان، ويتحدثون عن الديموقراطية والتعددية، ولكن مالم تصلح بنية الفكر عندهم على نحو جذري؛ فلن تزيد الأمور إلى سوءً، ولو صار الأمر إليهم فيجب على المرء حزم حقائبه، فكلا من البعث والإخوان وجهان لعملة واحدة.
وهذه البنية يشترك فيها الأخوان وحزب التحرير والفكر الإسلامي والقومي والبعثي والشيوعي والناصري والعلماني عموما، وهي ظاهرة (حزبية) وضعتها أنا تحت منظار السبر والتشريح النقدي في كتابي (في النقد الذاتي) لمن أحب الاطلاع.
ومن وصف هذه الظاهرة بالصحوة فهو واهم، لأننا مقبلون على فترة لن تكون صحوة بل غيبوبة، والفكر الإسلامي حتى اليوم مفصول عن المعاصرة، وما زال يعيش في رحم الآباء.
والقرآن نصحنا أن نتخلى عن فكر الآباء؛ فقال وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا إنا وجدنا آباءنا على امة؟؟
أولو كان آباؤهم لايعقلون شيئاً ولا يهتدون..
وهذا هو سبب تعضل ولادة الجنين الإسلامي، فهو مثل السيدة التي تعاني من الإجهاضات المتكررة، فتطرح كل حين بعد كل حمل، ولم يولد جنين مكتمل حتى هذه الأيام..
ومن يزور مدينة المحمودية حيث ولد البنا قبل 101 عاما، يصادف بقايا بيوت مهدمة قديمة، وفي مقبرة (البساتين) يطالع قبرا لا يختلف كثيرا عن القبور المجاورة باستثناء عبارة كتب عليها: هنا مثوى الشهيد حسن البنا! فسبحان الذي قهر عباده بالموت..
وكل من عليها فان القاتل والمقتول ...
ويبقى وجه ربك ذي الجلال والإكرام...

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية