اجتمع رجال الحزب وقرروا، ثم أوعزوا إلى رجال المخابرات أن يرتدوا عباءات القضاة بلون أسود يذكر بالموت، ثم أصدروا حكمهم على الدكتور كمال اللبواني وميشيل كيلو وعبد الستار قطان ومحمود عيسى وسليمان الشمر وخليل حسين، بسجنهم ما بين ثلاث سنوات وخمس عشرة سنة بتهم واهية، ليلحقوا بمن سبقهم كالدكتور عارف دليلة والمعتقلين الأكراد وآخر من شكله أزواج..
وقصة القضاء الثوري، لا تختلف عن فتح فرع جديد للمخابرات، الأول للجلد والتعذيب، والأخير لإصدار الأحكام بلون قانوني.
وهو يذكر بكتاب (الفافوش في أحكام قراقوش)..
وبالطبع لا بد من مباركة الأحكام بفتوى من رجال دين بعمائم مختلف ألوانها وغرابيب سود..
وفي يوم كان مفتي الديار العثمانية يفتي بخنق كل أخوة السلطان، حين يعتلي العرش سلطان...
وحين أسمع الاحتجاجات؛ أتذكر موقف الدول العربية من جمعية الأمم المتحدة، في الاعتداءات الإسرائيلية، من الشجب والتنديد، مطالبين بإصدار قرار لاتزيد قيمته عن الحبر والورق الذي خرج به؟
وهو يذكر بقصص (العقروق) الضفدع حسب لهجتنا المحلية؛ فقد بصق قوم في وجهه فضحك وقال: كل مياه المحيطات لم تبلل وجهي فماذا سيفعل بصاقكم أيها الرفاق؟؟..
وأتذكر من المرحلة الثانوية عندما بدأ سرطان الحزب الواحد ينخر عظامنا، وكما تفعل الطواعين فتحصد الأمم فقد حصد الحزب القائد عقول جيل بأكمله.
وكان على الطلبة أن يرددوا شعار الحزب مع كل صباح تحت مراقبة مخابرات الحزب، بعد أن تحول الحزب كله إلى فرقة مخابرات.
وكان الطلبة يحركون شفاههم مثل قراءة التمائم لدفع مس الجان، وإذ وجدوني مطبق الشفاه بعناد، كانت عقوبتي أن أزحف على الأرض مثل الزواحف زحفاً.
فكان إنجاز الحزب القائد ثلاثاً: تحويل المواطن إلى زاحف صحراوي أو نبات بري. ومصادرة كل الآراء لرأي واحد لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب. وحراسة الأفكار بالإرهاب.
ولكن الإنسان يتمرد. ومن يقتل الأمة ينقل القتل إلى بيته. وآية الفشل على أي نظام أنه لا يقوم إلا على أعمدة الإرهاب. وقد يجلس الإنسان مستريحا في أي مكان إلا على رأس الحربة ما لم يوضع على الخازوق؟
وبعد أن حصد الطاعون الحزبي كل العقول لم يبق في المدينة إلا منافق أو متهم بالنفاق، ومن لم ينتسب للحزب طرد من جنة الرفاق مذؤوما مدحورا، ولكن تحويل الأمة إلى حزب لا يبق حزبا ولا أمة!!
وفي يوم زارني صديق كنت أرى فيه رشدا وبرفقته ابنه قلت له هل انتسبت للحزب؟
رد بفرح نعم لقد انتسبت للحزب القائد ووالدي أمرني بذلك؟
وهذا الصديق ينتقد الأوضاع، ويناضل بين أربع جدران، ولكنه يصفق للحزب في كل مناسبة؟
فهذا هو الإنسان المسخ الذي أنجبته الأحزاب العقائدية؟
وزارني في يوم طبيب استشاري لا تنقصه الحكمة، فحدثني أكثر من ساعة في التاريخ والفلسفة والجغرافيا.
وعندما سألته عن انتخابات التزوير التي يشرف عليها الحزب القائد؟ قال بدون تردد سأكتب نعم؟
قلت له فإن طلب منك السير في المظاهرات والهتاف إلى الأبد بحياة القائد: قال بدون تلعثم سأكون أول المصفقين؟
ونحن نقرأ في القرآن أن عبد الطاغوت هم بين القردة والخنازير.
وزرت سيدة فاضلة فاستقبلتني بفرح، وقالت: عندي خبر سار لك، وكانت الانتخابات المزورة حامية، وهو ما سنواجهه قريبا، فقالت يمكن أن ترسل بالفاكس موافقتك إن أحببت؟
قلت لها وهل فعلت أنت؟
قالت نعم؟
قلت هل يمكن أن أطلع على ما أرسلتم فأستفيد منكم؟
فوضعت بين يدي ورقة بخط يدها: في مثل هذا اليوم الأغر، والشمس تشرق، والطيور تغرد، والربيع يزهر، أوافق بالدم على بيعة السلطان إلى الأبد؟
قلت لها: طبعاً أنت وزوجك تكذبان؟
قالت ببقية من حياء: نعم .
قلت ولكنكم في قلوبكم تلعنون؟
بلعت ريقها وقالت: نعم؟
قلت لها هل يمكن أن لا تلعنوا ولا تكذبوا؟ سكتت فلم تحر جوابا؟
فهذا هو نموذج الإنسان المشوه المريض الذي تفرزه جمهوريات الخوف والبطالة.
وفي يوم الانتخابات المزورة تقدم شاب مجنون فكتب (لا) على ورقة الانتخابات وكان مشرف الصندوق يراقب الأوضاع بأفضل من عيني ثعلب في الظلام قد أقسم على الله أن يقدم صندوقه بدون ورقة (لا) واحدة فعمد إلى ورقة الشاب المجنون فغيرها بخفة يد لص إلى (نعم) فانتبه له الشاب فشتمه فألقي القبض عليه بتهمة سب موظف نزيه يؤدي عمله على أفضل وجه وليس لأن الديموقراطية غائبة عن البلد فالبلد يسبح في الرفاهية والديموقراطية؟ ولكن الفروع الأمنية في كل البلد ارتجت. فالزلزال قد يبدأ من نقطة صدع في الأرض. وحرائق الغابات تبدأ من شرارة.
وفي يوم كنت عند رجل وصل إلى رتبة عسكرية عظمى ولا ينقصه عقل فقلت ما أنت فاعل بانتخابات الحزب القائد؟ قال ليس لنا إلا حزب واحد وقائد واحد وليس عندنا غيره. قلت له هب أن القائد مات؟ قال سنصبح أيتاما؟
وفي يوم دخل (رفيق) حزبي إلى الصف فقال هل من أحد لم ينتسب للحزب بعد؟ رفعت طالبة إصبعها. قال لها حسنا فلسوف نعطيك استمارة الانتساب للحزب. قالت هل الانتساب للحزب إجباري؟ صعق الرفيق من الجواب فلم يعتاد إلا هز الرؤوس في جو الشخير العام. اضطرب وهمس بصوت كفحيح الأفاعي وقال: طبعا ليس إجباريا ولكن الحزب يعطيك مزايا أسطورية: فتحتلي أفضل وظيفة بدون سهر الليالي. وتدخلي الجامعة بعلامات قليلة بالانتساب لفرقة المظليات. وترسلي في بعثات خارجية بدون تعب ونصب. فترجعي أستاذة جامعة معتبرة. ولا تنس الدخل الإضافي من كتابة التقارير السرية؟ قالت الطالبة بإصرار: طالما كان الانتساب للحزب ليس إلزامياً فلن انتسب للحزب. ارتعب (الرفيق) فهذه إهانة في حقه أن تعبه في سنوات ضاع سدى وعقول الشبيبة لم تتطهر بعد من فيروس (لا) فالمواطن قد اعتاد قول (لا) دوما ولولا التشهد لكانت لاؤه نعم؟ أحال الرفيق الموضوع إلى المدير ثم إلى اللجنة الحزبية في المنطقة قبل أن ينتشر فيروس (لا) فيهلك الطلبة بوباء الاعتراض. واجتمع رجالات الحزب لدراسة حالة الاستعصاء ورصدها وتجهيز اللقاحات والمصول الواقية من فيروس (لا) قبل أن تحترق الغابة الحزبية كلها.
والقصة تحكي ثلاث أمور:
1 ـ أن المرض العربي ليس من أمريكا بل صناعة محلية.
2 ـ وأن فكرة الحزب الواحد أصلها ديني، بافتراض أن المخالف هرطيق يجب التخلص منه، ما لم يتوب حسب شروط التوبة النصوح ثلاثاً.
3 ـ وأن التخلص من المرض ليس بقتل الطاغوت والترتيب لانقلاب على الانقلاب؛ فالانقلاب لا يأتي إلا بحزب (قائد) جديد وأحيانا بعباءة إسلامية مثل استبدال السل بالإيدز.
وأن وصفة الخلاص هي كلمة (لا) فهي أقوى من كل سلاح.
وهو المبدأ الذي قررته أول سورة نزلت من القرآن، بأن فك سحر الطغيان هو بالسجود مع رفض الطاعة..
ويجب فك إشكالية (الحزبية) فلا يمكن للإنسان إلا أن يتحزب. وكلنا مركب على التحيز. وقد يكون أقلنا تعصبا من انتبه إلى قانون التحيز. ووطن نفسه على النقد الذاتي. ومراجعة النفس من أشق الأمور. وليس أبغض على النفس من الانتقاد. ولا تسكر النفس بخمر كالثناء. وإذا شعر الحزبي أنه وصل إلى سدرة المنتهى ووضع يده على الحقيقة الأخيرة فقد هلك. ولا يهلك المجتمع بشيء مثل لباس الشيع فيذيق بعضهم بأس بعض. كما فعل الرفاق بعضهم ببعض. ويرى المؤرخ توينبي أن quot;المؤرخين في العادة أميل إلى توضيح آراء الجماعات التي يكدحون في محيطها منهم إلى تصحيح تلك الآراءquot;
وينجو المجتمع بالتعددية ويهلك بالرؤية الأحادية. وفرعون أخطأ مرتين فقال: ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشادquot; وآمن بالقتل فقال:quot;ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفسادquot; وهذا يحمل تقريرا وخبرا: أن الحزب القائد وعقيدته يتحول إلى دين وإله. وأن كل من اعترض يصبح من المفسدين في الأرض. ونحن نظن أن فرعون هو بيبي الثاني الذي عاش في الألف الثانية قبل الميلاد ولا يخطر في بالنا أنه الرفيق القائد بين ظهرانينا بدون حية كوبرا على تاجه بل نسرا على كتفه؟
وعندما يدعي حزب أنه حزب الله فيجب أن يسارع الناس بالانضمام إليه وإلا كانوا من حزب الشيطان. وقديما أعلنت الكنيسة أن المسيح ابن الله بدون دليل من الإنجيل فتورطت في عقيدة يعجز البابا عن شرحها.
والاختلاف أساسي في الكون ويجب المحافظة عليه. ومن كل شيء خلق زوجين. ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود. وفي الأرض قطع متجاورات تسقى بماء واحد ويفضل بعضها على بعض في الأكل. وكذلك البشر والأحزاب والمجتمعات. فهذا قانون وجودي. من الذرة والجبال والفاكهة وجميع الكائنات.
وعندما يدعي حزب أنه الأول والآخر والظاهر والباطن وأنه بكل شيء عليم وأنه قائد المجتمع فهو ضد الحياة وشرك بالله وإفساد لقانون التنوع وقتل للطبيعة وتدمير للمجتمع ودخول إلى الوثنية. وفي النهاية يقع الحزب في نفس العلة فكما حرم المجتمع من التلون والتعددية فإنه يصاب بنفس العلة فيصادر الحياة لحساب الحزب والحزب لحساب عصابة والعصابة ينتهي أمرها بيد القرصان الأعظم.
وأي مجتمع يحكمه حزب واحد ويحافظ على نفسه بالإرهاب فهو ضد الحياة وقوانين الطبيعة وغير قابل للاستمرار فيندثر ولو بعد حين. وينتهي كما ينتهي أي سرطان. كما انتهى السرطان البعثي في العراق. سنة الله في خلقه.
والله ركب الكون على ثلاث: التعقيد مع البساطة. والتنوع مع الوحدة. وأنه بني على الاختلاف. فمن ذرة الهيدروجين ببروتون واحد جاء اليورانيوم بنواة تضم 92 بروتونا. وبقدر تساقط تريلوينات ندف الثلج فهي لا تزيد عن أشكال سداسية. ولو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة. ولذلك خلقهم.
وهذا القانون الاجتماعي لا يخص العرب بل هو قانون إنساني واليوم دخلت الديموقراطية أكثر من مائة بلد في العالم ولم يبق إلا بعض الجيوب الستالينية مثل بوما وكوريا الشمالية وعالم العربان. ويتفرع عن هذا أن هذا المرض تصاب به الأحزاب الدينية وغير الدينية. بل قد تكون الأحزاب الدينية أشد ترويعا لأنها تصادر الحقيقة لحسابها فهي (حزب الله) شكلها بشري ولسانها إلهي. وهي الممثل الشرعي الوحيد لله على الأرض. فتخلق ديكتاتورية أدهى وأمر. وقصة الكنيسة في التاريخ غنية عن الشرح. ونحن نظن أننا بدعة عن التاريخ.
والمشكلة ليست في الأنظمة لوحدها بل بانهيار جهاز المناعة عند شعوب هزيلة فيركبها الطاغوت. وأمريكا قد تكون آخر القوى العظمى في التاريخ التي تنفخ في صنم الطغيان ومن شرعية الصنم الأمريكي يأخذ صغار الطواغيت شرعيتهم. واليوم تتعاون الأنظمة الثورية أمنيا بحماس مع أمريكا فتقدم لها معلومات تفوق توقعها على رواية سيمور هيرش الصحفي الأمريكي. والسبب هو الخوف المشترك من زلزال الشعوب.
وحل المشكلة في ثلاث: (1) إعلان النقاهة العامة من الطاعون الحزبي بفتح الباب لكل رأي ولو كان في لعن الحزب.
و(2) صرف جيوش المخابرات إلى بيوتهم والاكتفاء بفرع أمني يعمل لحساب الأمة ولا يتجسس على المواطنين فيأمن الناس ويرجع الفارون ويرفع المختبئون رؤوسهم فيشموا أنفاس الحياة.
و(3) إعلان موت الحزب القائد في جنازة عامة للتشييع، كما فعل يلتسين مع الحزب الشيوعي في روسيا الغابرة، فقد فاحت رائحة جثته، فيجب أن يدفن قبل أن تأتي ضواري الغرب لنهش الجثة.
وكما يقول مالك بن نبي إن كل قرية فيها مقبرة وكذلك عالم الأفكار فيجب دفن الأفكار الميتة.
وفكرة الحزب الواحد أصبحت ميتة في ذمة التاريخ.
ولكن هذه الخطوات الثلاث هي مثل ثلاث نقلات في شطرنج القوة تقول شاه مات.
وتبقى الأنظمة الشمولية والحزب القائد تدافع حتى الرمق الأخير؛ فتتجمد مثل جثة سليمان، مستندة على عصا، فتأتي دابة الأرض الحقيرة فتأكل المنسأة، فتسقط الجثة، فيقول الجن لو كنا نعلم الغيب، ما لبثنا في العذاب المهين.
ولكن أين دابة الأرض التي تأكل منسأة نظام الحزب الواحد الميت؟
وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي بعده يؤمنون؟