-1-
لم يقدم السيرك السياسي اللبناني عروضه المدهشة بعد رحيل رفيق الحريري في 15 شباط/فبراير عام 2005 فقط، بل بدأت هذه العروض منذ استقلال لبنان عام 1943 والى الآن، ولكن ليس كل عام، وإنما في مواسم معينة، عندما ترتفع درجة الحرارة السياسية اللبنانية. وليس بدهشة وروعة هذا الموسم الآن، الذي يعتبر أطول وأبدع مواسم السيرك السياسي اللبناني المدهش في جمهورية التفّاح.

-2-
وإذا كان لبنان يمتاز بروعة طبيعته، وجمال نسائه، وحلو غنائه، وطيب هوائه، ولذة طعامه، وراحة العيش فيه، نتيجة شعورك فيه بأنك لست عربياً ولا غربياً، ولست مسلماً أو مسيحياً أو يهودياً، ولا هوية لك غير هوية الإنسان المسالم المُتصالح مع نفسه ومع الآخرين، فهناك ميزة أعظم من هذا كله، ومتعة أكبر من تلك، وهي مشاهدة ومتابعة السيرك السياسي اللبناني المدهش، خاصة في هذه الأيام، التي بدأت عروضه بعد 15 شباط، 2005، وما زالت هذه العروض مستمرة حتى الآن منذ أكثر من سنتين وبشكل متواصل، نظراً لإقبال العرب والعجم الشديد على مشاهدتها. فكانت هذه العروض من أطول عروض هذا السيرك السياسي الشهير، ومن أكثرها إثارة.

-3-
ميزة السيرك السياسي اللبناني، أنه الأطول، والأجدّ، والأمتع، والأخفُّ دماً، من أي سيرك سياسي عربي آخر، حيث أن عروض السيرك السياسية العربية الأخرى المُملة والمُقرفة والمُضطجرة من ملكيّة وجمهورية تحكمها قوانين التوريث المعروفة نتائجها مسبقاً، كما تحكمها الأعراف القبلية. فمنذ أن يدخل الحاكم القصر، لا يخرج منه إلا إلى القبر. كما يحكمها الجيش في بعض الأحيان، الذي يقوم بانقلابات عسكرية بلهاء على الشرعية من حين لآخر، ويسرق السلطة بستين ألف حِجَّة وحِجَّة. أما السيرك السياسي اللبناني فيظل هو الأشهر، وهو الأمهر، والأغزر، وذلك لأسباب عدة، منها تنوّع طوائف لاعبيه، وتغيير المناظر والمواقف يومياً، لكي لا يشعر الجمهور المشاهد بالضيق، وبالضجر، وبتكرار المشاهد والحوار.
كذلك، فإن هذا السيرك السياسي اللبناني، يتميز بدخول لاعبين جُدد فيه، كل يوم، وكل أسبوع، وكل شهر.

-4-
ومن أهم ميزات هذا السيرك السياسي اللبناني المدهش، أن فيه الكثير من اللاعبين، من المثقفين، والمحامين، والسياسيين، ومن رجال الدين، من سُنَّة وشيعة، ومن مسلمين، ومسيحيين، ودروز، ومن علمانيين، ومتدينين، ومن شيوعيين، وقوميين، ومن غربيين، وشرقيين، ومن معارضة، وموالاة.. الخ.
كذلك، يتميز هذا السيرك السياسي اللبناني، أن فيه من الأبطال الدراميين المتميزين، الذين لم يسبق لنا أن شاهدناهم على أية خشبة من خشبات المسارح، منذ العصر الإغريقي حتى اليوم!
فمنهم من يُغلق مفتاح مجلس النواب، ويضع مفتاحه في جيبه، وكأن المجلس دكانه، أو دكان أبيه، ويعطِّل الحياة النيابية لأكثر من سنة، دون أن يجرؤ أحدٌ من السياسيين على اتهامه بسرقة المجلس، ودون أن يجرؤ أحدٌ من النواب على اقتحام مجلس النواب عنوةً، باعتبار أن مجلس النواب هو للشعب اللبناني كله وليس لفئة دينية، أو سياسية معينة.

-5-
ومن بين مميزات هذا السيرك، أن الصحافيين، والسياسيين، والمثقفين، والعسكريين المشهورين فيه، يُقتلون في رابعة النهار، بسيارات مفخخة، أو بقنابل موقوتة، أو بهجوم إرهابي مسلح، دون أن تستطيع الدولة وأجهزتها الأمنية اكتشاف أية جريمة من هذه الجرائم. ويصوّر لنا هذا السيرك من خلال هذا كله، أن لا دولة حقيقية في لبنان، وهو وضع فريد في العالم كله. وأن الكثير من رجال السياسة والحكم في لبنان ليسوا إلا موظفين بالقوة، لدى دولة ديكتاتورية جارة، تعتبر لبنان quot;حاكورةquot; أو محافظة من محافظاتها، بيدها مفتاحها، تقفلها متى شاءت، وتفتحها متى شاءت، حيث لا مخرج برياً للبنان إلا من سوريا فقط. لذا، فإن لبنان أحوج ما يكون إلى معاهدة سلام مع إسرائيل أسوة بمصر والأردن، لكي تصبح له مخرجاً برياً بدلاً عن سوريا. أما إعلان رئيس الوزراء السنيورة، قبل مدة، (وتحت ضغط وتهديد من حزب الله)، بأن لبنان سيكون آخر من يوقِّع معاهدة سلام مع إسرائيل، فهذا إعلان أبله وعبيط، يعود إلى خوف السنيورة على حياته من أن يُقتل كما قُتل مَنْ هُمْ قبله. فلبنان كان أحوج من مصر والأردن لتوقيع معاهدة سلام مع إسرائيل، نتيجة لطبيعة موقعه الجغرافي مع نظام سوريا الديكتاتوري منذ الاستقلال عام 1945، ونتيجة لأن النظام السوري لا يفتأ في كل مناسبة أن يُغلق الحدود مع لبنان محاولاً خنق العصفور الأخضر، وتدمير اقتصاده.

-6-

كافة عروض السيرك في العالم تقام من أجل التسلية، وليس من أجل المعرفة أو الفائدة الثقافية. كذلك الحال مع السيرك السياسي اللبناني المدهش. فكافة المشاركين في هذا السيرك لا يضيفون لنا أية معرفة سياسية جديدة، بل هم يسيئون فهم المعارف السياسية.
فالديمقراطية بالنسبة لهم هو وجود معارضة وموالاة، وارتهان المعارضة والموالاة لأطراف خارج لبنان عربية وغير عربية.
والتوافق على اسم رئيس الجمهورية لا يعني بالنسبة لهم انتخاب رئيس الجمهورية من ضمن ثلاثة أو أربعة مرشحين، ولكنة الإجماع على اسم واحد، والذهاب إلى مجلس النواب، لختم هذا الاختيار بختم الشرعية الشعبية. وتلك قمة المهازل السياسية.
والمقاومة في مفهوم هذا السيرك، هي أن تقوم فئة واحدة فقط، ذات طائفة دينية معينة، بتشكيل جيش من عشرات الآلاف، وامتلاك أسلحة أشد مضاءً من أسلحة الجيش، والتمركز في منطقة معينة، وبناء نظامه السياسي والاجتماعي والمالي الخاص، وإقامة شبكة مواصلاته واتصالاته الخاصة، وله ميزانيته السنوية الخاصة، بحيث يصبح دولة كبرى داخل دولة صغرى!
ورئاسة الجمهورية في مفهوم هذا السيرك، أن تكون وقيادة الجيش لطائفة ما بعينها فقط، ورئاسة مجلس النواب لطائفة أخرى بعينها فقط، ورئاسة الوزراء لطائفة ثالثة بعينها فقط. وكأن في الجمهورية الواحدة عدة جمهوريات ليست أشبه بجمهوريات الموز، ولكنها أشبه بجمهوريات التفّاح!

-7-
من خلال هذه البانوراما، نرى كيف تدخل السيرك السياسي اللبناني المدهش كل يوم عناصر جديدة، ومناظر جديدة، وألعاب جديدة، وشعوذات جديدة، من شأنها أن تطيل عروض هذا السيرك الذي نتمتّع بمشاهدته كل يوم، والذي يزيح عن صدورنا ثقل حجارة السياسة العربية التقليدية ذات النتائج المعروفة والمحسومة سلفاًٍ، ويتيح لنا التنفس تحت الماء.
وعاشت جمهورية التفّاح.
السلام عليكم.

اية اعادة نشر من دون ذكر المصدر تسبب ملاحقه قانونيه