(3 من 3)


1

جغرافيات التحكّم في عراق اليوم:
أكثر من جغرافية تتحكم بالعراق في ظل الظروف الحالية، الاولى هي الجغرافية البترولية، وهي ذاتها جغرافية واشنطن، نابعة من المصالح الأمريكية بدرجة قاطعة، إنها الجغرافية التي تختصر العراق بهذه المحافظات البترولية. الجغرافية الثانية التي تتحكّم بالعراق هي الجغرافية الطائفية، فكل طائفة تمارس سيطرة (ما) على (محافظتها، مدينتها، قريتها !)، وقد شاء القدر أن تنفرز مساحة العراق بشكل عام إلى مناطق مذهبية تكاد تكون في بعض االاحيان مقفلة، وهذا مما يساعد بشكل فاعل على نشوء مثل هذه الجغرافية. جغرافية ثالثة تتحكم بالعراق، تتداخل فيها الطائفية والقومية، فإن تقسيم العراق أو الحديث عن عراق ذي ثلاث اقاليم (سني، شيعي، كردي) نوع من جغرافية التحكّم على أسس عرقية ومذهبية. جغرافية رابعة وإن كانت تأتي على هامش السابقات، تلك هي جغرافية العشائر، فلم تعد العشيرة في العراق كما مهملا، بل هو كم فاعل، له حضوره المؤثر، وليس من شك أن مشروع الصحوات يعتمد بدرجة كبيرة على هذه الجغرافية.
المشكلة الأخرى هنا، إن هذه (الجغرافيات) ليست مستقلة بعضها عن بعض، بل هي متداخلة، بمقدار ما هي مستقلة، وهذا التداخل يزيد من إضطراب المعادلة في العراق، ويصعب معها الفرز الواضح لكل مكون من هذه المكونات، كي يتم التعامل معها بوضوح.
هذه الجغرافيات المتعددة المتناثرة المتداخلة المتصارعة تثير مشاكل كثيرة أمام وحدة العراق، تنبئ بخطر التقسيم والتشظي والتجزئة، إن كل جغرافية من هذه الجغرافيات قوة، وممكنات، وتاريخ، ومصالح، وزعامات، وأعراف، وعلاقات بدول أقليمية، ومّما يزيد خطورة ذلك، إن أنظمة الحكم الأقليمي تمتاز بنكهة طائفية ليست خفية، كذلك نهوض الاقليات، وحضور مطالبها العادلة بأن يكون لها دور في صناعة القرار السياسي للبلد، فضلا عن الاقتصادي والاجتماعي.
هذا التحكم ليس عفويا، بل هو مخطّط له، ويجري وفق حسابا ت القوة والأقتصاد والنفوذ السياسي والاجتماعي. فهو ليس تحكما عرَضيا، بل يجري في بنية الدولة، بنية الوطن، وفي سياق من صراعات علنية في كثير من الأحيان، بل هو المسؤول عن مشهد الواقع العراقي اليوم، فإن هذه التحكمات الجغرافية أفرزت المحاصصة في الوظائف المهمة والحساسة، وفي مقدمتها التشكيلات الوزارية، والمواقع في أنظمة القوات العسكرية، وهناك صراع حول ما يسمى بالوزارات السيادية مثل النفط والمالية والدفاع والداخلية، فهو تحكّم يتجاوز المنطقة إلى الوطن، ويتجاوز العشيرة إلى الأمة، ويتجاوز المصلحة الآنية إلى المصلحة الاستراتيجية، ويتجاوز المناورة السياسية إلى القتال أحيانا.
العراق بصورته الحالية نتاج هذه التحكمات الجغرافية القائمة على الانتماءات العرقية والمذهبية،وقبل ذلك عن جغرافية الا حتلال ذا ت الاهتمام المتركز بمناطق النفط قبل غيرها.
هذه الجغرافيات لم ترتبط بمركز الدولة إرتباطاً عضويا، إرتباطا مسؤولا، إرتباط المواطن العادي بالدولة،، بل مركز الدولة على هامشها، يتقرر بقرارها، ومواقفها، يتخذ صبغته النهائية من مكوناتها ومضامينها وطموحاتها، وبالنتيجة النهائية من حصيلة الصراع القائم بينها.
العلاقات بين هذه الجغرافيات يغلب عليها الشك والصرا ع عادة، وإذا ما أستبدلت بغيرها فهي علاقة توافق لا مشاركة، والمشاركة مفهوم أعمق بكثير من مفهوم التوافق.
كل ذلك يجعل من أمن العراق القومي على سكة خطرة، يهدد الامن القومي بالتصدع، بل لا يوفر قاعدة رصينة لتشييد نظرية أمن قومي متكاملة. هنا تصدق المقولة التي ترى أ ن تشييد نظرية أمن قومي خاصة بالعراق تصطدم بمعقوق كبير، أي التصدع من الداخل، تصدع البنية الإجتماعية بتوزعها إلى منظومة من جغرافيات التحكم المغلقة إلى حد ملموس.
التعدد العرقي والديني والمذهبي دليل قوة، ولكن ليس في كل الحالات، ففي حالا ت قد يكون سبب تفجر صراع، بل حرب أهلية، ثم تقسيم وتشظي ونشوء دول أو دويلات أو كانتونات، من شأنه الإبقاء على فورة العلاقات السلبية والمتشككة، بل قد يزيدها ضراوة وخطورة.
جغرافيات التحكم بالعراق كما نراها اليوم لا تنسجم مع فكرة المشروع الوطني، والمشروع الوطني جزء صميمي من الأمن القومي.
الحدود الجغرافية للعراق / هوية خاصّة!
يفهم كثير من الناس الحدود الجغرافية مجرد خطوط فاصلة بين بلد وآخر، فحدود العراق ـ مثلا ـ هي إيران وسوريا وتركيا والسعودية والكويت والاردن، قد تكون هذه الخطوط الفاصلة بحارا، أو أنهارا، أو محيطات، أو سهولا، أو جبالا، أو صحراء، وقد تكون خليطا من هذا وذك بشكل وآخر.
هذا فهم قاصر بطبيعة الحال، ويعكس قراءة مدرسية تقليدية ً للحدود الجغرافية، ذلك إن هذه الحدود تاريخ، وأفكار، وتصورات، يكمن وراء هذه الحدود صراع ربما علني، وربما خفي، هناك مراقبة وحذر، هناك نزاع على مناطق حدودية، هناك خيرات على الحدود ربما قادت إلى حروب طاحنة، هناك تداخل أثني أو ديني أو مذهبي عبر هذه الحدود...
ليست الحدود الجغرافية لأي بلد عبارة عن هويات ساذجة، مجرّد علامات فصل وتمييز وتعيين وتحديد.
ترى ما هي (هوية) الحدود الجغرافية للعراق ؟
إن بعض حدود العراق هي حدود حرب إذا صح التعبير، الحدود العراقية / الإيرانية، كانت وما زالت مستعرة، مشتعلة، ولا أعتقد إن المعنى ليس واضحا، لقد كانت إيران في حرب مع العراق على مرّ التاريخ، بصورة وأخرى، إن ذاكرة العلاقة بين البلدين مشبعة بنكهة ورائحة الحرب، منذ أن أحتل كورش بابل وحتى هذه اللحظة، لا أقصد أن الحرب قائمة طول هذا الزمن العتيد، بل أقصد أن طبيعة العلاقة بين البلدين تتسم بهذه السمة. هناك الحدود الطويلة جد ا بين العراق وإيران، وهذه الحدود كانت وما زالت معبر حرب، قتال، عزو، تنافس...
إن الحدود التي تحد العراق من الشمال، أي الحدود التركية ذاكرة مشبعة بنكهة ورائحة الإحتلال والغزو والإجتياح، حدود مترعة بالذكريات الدموية، وتتقاطع الحدود العراقية / ا لايرانية، مع الحدود العراقية / التركية بنقطة جوهرية، تلك هي الصراع على العراق، إ نها مذكرات الإمبراطورتين العثمانية والصفوية.
إن قراءة سريعة للعلاقات بين العراق وسوريا في بحر التاريخ المعاصر تدلنا على نقطة مهمة، فنادرا ما يحصل إنقلاب عسكري في سوريا دون مشاركة عراقية بطريقة ما، والعكس أيضا صحيح بنسبة معينة، حتى أثناء خضوع كل من البلدين لحكم أديولوجي واحد، لقد حكم حزب البعث كلا من سوريا والعراق معا، وفي ظروف عداء سافر لجمال عبد الناصر، ولكن كانت العلاقة بين النظامين علاقة (تآمر) مستمرة!
الحدود العراقية / السعودية صحراوية، رمال، ولكن مشبعة بنكهة ورائحة الهجومات المباغتة لاسباب مذهبية طاغية، إنها حدود تتسم بالحساسية المذهبية الصارخة، الشديدة التنافر.
الحدود العراقية / الاردنية مشبّعة بنكهة ورائحة الذكريات المؤلمة، لقد كان العراق هاشميا، أبيدت العائلة الهاشمية في ا لعراق عن بكرة أبيها في إنقلاب خاطف، ولم تمح سنون قليلة صدى هذه المأساة لدى حكام الاردن، وأهلها من الاردنيين.
الحدود العراقية / الكويتية مشبعة برائحة الشك، الشك من قبل الكويتيين على أ قل تقدير، إنها حدود من طين، هشة، قابلة للاجتياح، مثيرة للاعصاب، مقلقة للكويتيين، مثيرة لأمنهم وثروتهم وحياتهم الخاصة، ولم ينفع في ذلك إعتراف حكومة عراقية حتى ولو تم التوقيع على مراسيم الحدود بالاصابع العشرة.
هذه هي (هوية) الحدود الجغرافية للعراق، ملحمة، شك، تاريخ دموي، أطماع، تآمر متبادل، عداء مذهبي...
هذه الجغرافية الملحمية الهائجة زا د من لهيبها ومشاكلها توزع أثني ومذهبي داعم، ومشجع، وممهد ! لقد تحول العراق إلى مكونات من الاجندة للخارج، لست أحكم بذلك بشكل مطلق، ولكن بشكل نسبي، وهي حقيقة ليست خفية على كل من يهتم بالشان العراقي. ومما زاد في الطين بلة، هو الصراع الامريكي / الإيراني، الخوف السعودي من حكومة عراقية ترى أنها شيعية، او للشيعة فيها موقع قوي، كذلك ا لقلق التركي من الوضع الكردي الجديد في شمال العراق، وسوريا تجد في الوضع العراقي الجديد تهديد لنظامها شبه الأحادي...
جغرافية عراقية داخلية مضطربة، وجغرافية عراقية خارجية ملتهبة، قلقة، وبين الجغرافيتين مشاكل الاقتصاد الهش، والتعليم المتدني، والبطالة المستشرية، والإعلام المتخبط، والمستوى الصحي الهابط، وبوادر شحة مياه!
نتائج سريعة
المقتربات التي مرّت تؤكد أن وضع نظرية خاصة للامن القومي العراقي ينبغي أن تركز على نقطة جوهرية، بل هي النقطة التي يجب أن تستجلب كل الجهود الرامية إلى صياغة نظرية أمن قومي عراقي، هذه النقطة هي كما قلت: وحدة العراق، فإن العراق مهدد عمليا بالتقسيم، فعليا أو صوريا، وهناك من يرىإن العراق فعلا في حالة تقسيم، غاية الامر إنه تقسيم بلا تسميات صريحة!
هذه المهمة المصيرية تستوجب أربعة مشاريع عاجلة، الأول: مشروع دفاع عراقي متمكن،عددا وعدة، يتولى معالجة ا لجغرافية الخارجية، مشروع دفاع بعيد عن المحاصصة، مستقل، مهني، متمرس، قوامه أبناء العراق بصرف النظر عن أ ي إنتماء مذهبي أو ديني أو قومي،غير مسيّس، وليس من شك أن مشروع تشكيل نظام دفاع عراقي من الميليشيات والصحوات وأبناء العشائر على أسس المحاصصة يفسد رسالة القوات المسلحلة، وتنأى بالجيش عن مهمته الجوهرية. الثاني: مشروع مواز، أي مشروع نطام أمن داخلي، يتمتع بذات الصفات أعلاه، والثالث: مشروع وطني يتعالى على كل هذه الجغرافيات، جماع الوطنية العراقية، ينطلق من أولوية العراق، يؤمن بالتعددية، والمشاركة العادلة، ويستند إلى قيم وطنية بحتة، بعيدا عن المقاييس الطائفية والاثنية والعنصرية، الرابع: مشروع إداري متطور يحكم العلاقة بين الاقاليم والمركز في سياق من المرونة الحية، يحول دون تراخي الجغرافية العراقية الداخلية، وتمزقها وتهلهلها.
جيش قوي...
قوات أمنية داخلية متمكنة...
مشروع سياسي وطني تعددي تتفق عليه أكثر الاطراف...
نظام إداري يعالج العلاقة بين المركز والاطراف على أساس من تبادل القوة والدعم، يتسم بالعملية والمرونة.
تلك هي مقومات نظرية أمن قومي عراقي خاص في ظل الظروف التي يمر بها العراق اليوم، وبغير ذلك، سيكون الطوفان، عاجلا أم آجلا، والمعطيات لا تشجع أن هناك أملا في إنجاز أيّا من هذه المشاريع الثلاثة على المدى القريب على أقل التقادير.
[email protected]