يهدف هذا المقال الى التعرض لمشكلة حقيقية كثر الجدل حولها وهي مشكلة مستشاري المالكي، وقد اطلعت على بعض المقالات المفيدة، ولكني سأحاول اليوم معالجة الموضوع ضمن البيئة العامة له، وتحليله عملياً أي بالاستفادة من المعرفة النظرية المتوفرة في تحليل المعطيات بعد تدقيقها (وقد عشت بعضاً منها بنفسي) وفي تشخيص الظاهرة بشكل عملي، أي بشخوصها وظروفها المحددة. وأتمنى أن يُنظر لهذا المقال كمحاولة تشخيص خاضعة للنقاش الموضوعي بعيداً عن الميول السياسية والشخصية.
أذكّر بداية أن أفضل ما يدلل على مهنة المستشارين في ثقافتنا العربية الاسلامية هي الحكمة القائلة: quot;إذا شاورت العاقل صار عقله لكquot;، لأن المستشارين هم منابع معرفة وتفكير في خدمة أصحاب القرار. ويهتم المستشارون في نسختهم المعاصرة بتشخيص الظواهر وتحليلها وتقديم الحلول والاقتراحات المناسبة. علماً بأن العديد من الدول العربية ودول العالم الثالث تعاني من صعوبة الاستشارة كمهنة حديثة بأشكال ودرجات مختلفة، وفي العراق يعاني غالبية القيادات السياسية العراقية من هذه الصعوبة، وذلك بحسب عوامل عديدة من أهمها نوعية ثقافة المسؤول ودرجة انحداره من قيادة زعامية (شخصنة القيادة) أو قيادة جماعية (تنظيمية) كما تعرضت لذلك في المقال السابق.
البيئة: ضعف القدرة على الاستماع
قامت الثقافة السياسية المعاصرة في العالم العربي أساساً على الصراعات الآيديولوجية المتسمة بعدم الاعتراف بالرأي الآخر وتبني ضرورة إقناع الطرف المقابل وإلا فهو مرتبط أو مشبوه، إلخ. إن سوء إدارة قيادات الأحزاب السياسية العلمانية للصراع بين الأفكار المختلفة يفسر الى حد كبير الانشقاقات والانسحابات التي أدت إلى تراجع هذه الأحزاب أمام الأحزاب الاسلامية التي تبنت نفس الممارسات ولكن عقيدتها الدينية خفّفت (ولم تمنع) من استفحال الصراعات على سطح المشهد السياسي. وفي العراق، تنقسم القيادات السياسية الحالية الى حالتين فيما يخص الموضوع: 1- قيادات ناشئة بعد 2003، أي تربت على الثقافة السياسية القائمة على إلغاء الآخر ndash;حتى بدنياً- 2- وقيادات تاريخية للمعارضة متعودة على التكتم وقلة الثقة بالآخر، بسبب ظروف القمع السابقة، ومتأثرة طبعاً بالثقافة السياسية المعاصرة التي ذكرتها فهي في غالبيتها quot;غير مجبرةquot; على الاستماع الجدي والاستفادة من الآخر، لأنها متأكدة من quot;تفوقهاquot; وعادة ما تحيط نفسها بمن يستمعون quot;ويصفقونquot; لها. وبعد وصولها الى السلطة، عام 2003، حاولت هذه القيادات التأقلم مع الوضع الجديد تماماً والمتميز بممارسة الحريات الفكرية والاعلامية وبوجود الرأي العام الذي يجب العمل باستمرار على كسبه.
والعامل الآخر الذي قلل لجوء القادة السياسيين إلى الاستشارة فهو أننا عموماً لا نريد quot;إظهار جهلناquot; لأن العقلية التقليدية المُتوارًثة تفرض على الشرقيين بشكل عام تجنب السؤال (أو إظهار الجهل؟) أمام نظرائهم أو quot;الأقلquot; منهم. لذلك نجد الواحد من سياسيينا ومثقفينا يتكلم مع رفاقه وكأنه جمع العلم من أطرافه، وقد نسينا الحديث الشريف رغم ترديدنا له quot;يظل الإنسان عالماً ما تعلم فإن قال علمت فقد جهلquot;. وهنا يكمن أحد أهم أسرار نجاح الغرب الذي تبنى الاستمرار في التعلم لدى المثقفين وحتى المتخصصين الكبار الذين يبدون عادة تشككهم فيما يقدموه من تحليلات للمحافظة على الفسحة الضرورية لحرية المقابل في النقاش ولتطوير الفكر الإنساني والحضاري. لذلك يحتاج سياسيونا، كما مجتمعنا بشكل عام، الى اجتياز هوة كبيرة لتحقيق شروط النجاح في عملية البناء الحضاري في المجالات المختلفة. وإضافة الى الظروف الصعبة بعد 2003، يمكن القول بأن ضعف الاستشارة هذا أثر على أداء غالبية سياسيينا وساهم في تراجع المكاسب التي تحمل الناس الكثير من أجل الحفاظ عليها وتطويرها.
مثال المالكي
وفي هذا السياق، لا يشكل رئيس الوزراء، نوري المالكي، أسوأ الأمثلة بل على العكس يقع في شريحة القيادات العراقية (حزب الدعوة والحزب الشيوعي وكذلك الحزب الاسلامي) التي تعودت أكثر من غيرها على القرار شبه الجماعي أو على الأقل على حاجة سكرتير عام الحزب الى إرضاء القيادات المحيطة به لاستحصال القرار الذي يريده. ثم إن المالكي ضمن هذه الشريحة كان أقل ابتلاء بشخصنة القيادة من الجعفري مثلاً لأنه لم يكن على رأس التنظيم أو quot;زعيمهquot;، بل ضمن كبار قادة حزب الدعوة ولم يكن أحد يتصور حتى سنة 2005 بامكانية صعوده الى رئاسة الوزراء. ولم يكن ذلك ليحصل أصلاً لولا اعتراض القيادة الكردية وقوى أخرى على ترشح الجعفري لرئاسة ثانية للحكومة بعد انتخابات كانون أول (ديسمبر) 2005. وعندما وافق الائتلاف الموحد على ترشيح شخصية أخرى صار الخيار بينه ومرشح المجلس الأعلى عادل عبد المهدي، وكان المالكي قد صعد كقيادي في حزب الدعوة وسياسياً بعد رئاسته لجنة مهمة في الجمعية الوطنية السابقة، ولولا معاداة التيار الصدري للمجلس الأعلى ومرشحه لما أصبح المالكي رئيساً للوزراء.
أما في الممارسة، فقد أبدى المالكي ndash;نسبة الى الوضع العام- اهتماماً بالاستماع الى المحيطين به واختار المستشارين من ألأساتذة الجامعيين وأصحاب الخبرة من مختلف الاختصاصات وشكل منهم هيئة المستشارين يرئاسة ثامر غضبان وزير النفط السابق (حكومة د. علاوي)، وهم من أفضل أصحاب الاختصاص في العراق. تقدم المالكي إذن بخطوات حقيقية في هذا المجال، واتخذ قرارات جيدة وخطيرة رفعت من شعبيه كثيراً، بينما تُظهر بعض القرارات أن هناك ضعفاُ في عملية اتخاذ القرار. فلنحاول إذن تحديد عوامل الضعف بما يمكن من الدقة.
عوامل ضعف المستشارين
تنطبق هذه العوامل على غالبية القادة السياسيين بسبب ارتباطها بالسياق الاجتماعي/السياسي للبلد:
1- كغيره من السياسيين أختار المالكي حراسه من بين أنصاره ومعارفه لخوفه من تسلل المخربين في ظروف العراق الحالية، أما بالنسبة للمستشارين والخبراء فقد اعتمد في الغالب على معارف رفاقه والمحيطين بهم في اختيار المرشحين، بينما تفرض ظروف المجتمع المنفتح سياسياً وإعلامياً الخروج من الحلقات المغلقة التي فرضتها أوضاع النظام السابق والاستفادة بطريقة عقلانية ومنفتحة من الطاقات الهائلة (عراقية كانت أم عربية أم دولية) الموجودة في عالم اليوم.
2- رغم تميز بعض المستشارين، تظل الحقيقة واضحة بان الأكثرية غير متابعة لكل ما يجري في العالم وهذا يؤثر على قدرتها على الإحاطة بالمشاكل وتحليلها وصياغة الحلول لها، وقد قيل قديماً: فاقد الشيء لا يعطيه. إن احترامنا لهؤلاء المستشارين لا يمنع من ملاحظة قصور الكثيرين منهم بسبب ظروف البؤس العلمي والثقافي في ظل النظام السابق حيث منع الكتب وأضعف الترجمة وحرّم السفر ودمر الاهتمام بالثقافة بنشره الفقر وإضعافه الطبقة المتوسطة.
3- تشكل المجاملات ومراعاة الزعامة الفردية العقبة الثالثة أمام تطور الاستشارة الحقيقية، إذ تمنع الآداب الاجتماعية الصراحة في النقد (كيف تقول للأعور أنه أعور؟)، لا سيما في حضرة الشخصيات القيادية وبالتالي يتردد المستشار في الاجتهاد في تحليل وتصحيح القرارات التي يراد اتخاذها. وإذا قدم بعض الاستشارات فعلى استحياء مع المجاملات المعروفة مثل quot;وأنت أعرف بذلكquot;، أو quot;وأنت سيد العارفينquot;. علماً بأن الثقافة السياسية المتوارثة من النظام السابق تفرض عدم الخوض فيما يمكن أن يؤدي بالمرء الى التهلكة، وأي تهلكة أخطر على المستشار من فقدانه لوظيفته وامتيازاته المختلفة...
4- المشكلة الأكثر خطورة تكمن في المستشارين السياسيين، إذ اختارهم المالكي، كما هو شأن غالبية القيادات السياسية، من الرفاق القياديين أو المقربين منه في حزب الدعوة. وهنا يتحمل المالكي مسؤولية ما يُقال عن تحكم بعض المقربين منه بمكتبه ومنعهم لتواصل الآخرين معه وحتى عن اتخاذهم لبعض القرارات بغير وجه حق. أما شبكة المستشارين السياسيين المُفترض تشكيلها لمساعدة رئيس الوزراء على اتخاذ القرار فتتألف من المتخصصين (تأهيل أكاديمي وتمرس مهني) في مجالات التنمية السياسية والاجتماعية وبناء الدولة والمؤسسات وفن المفاوضات وآليات التأثير على الرأي العام بتياراته المختلفة والتنمية الدائمة وتخطيط الإقليم وكذلك في مجال السياسة الخارجية وغيرها. ويمكن تقدير عددهم الأولي من 15 الى 20 على الأقل، إضافة الى معاونيهم، لتعدد وتعقد المجالات السياسية وحاجة بعضها لأكثر من مستشار.
وأخيراً، يمكن للنقد الموضوعي البعيد عن المبالغات والمجاملات، أو ما يسمى بالعقل النقدي، أن يلعب دوراً أساسياً في تخليص المسيرة الحالية من قيودها الموروثة ودفعها الى الأمام. ونحتاج أحياناً كثيرة الى ترك طريقة التركيز على الشخصيات أو الأحداث المعينة وتحليلها ضمن السياق العام لنتقدم أكثر على طريق فهمها. فبالنسبة للمالكي هناك الكثير من السلبيات التي تعود لفترته وسياقه الاجتماعي والثقافي وهناك ما هو مرتبط بشخصيته وقراره. ولتكوين نظرة موضوعية يجب أيضاً مقارنة الوضع العراقي مع البلدان المماثلة في منطقة الشرق الأوسط، إذ يعيش العراق مرحلة الانتعاش والانطلاق التدريجي للطاقات في ظل حريات التعبير والتنظيم وفي إطار دولة القانون، وسيعرف العراقيون حتماً ثمارها الغنية، إن هم عملوا على استمرارها وتطويرها.