-1-

ما هو التطبيع Naturalization؟

التطبيع في القاموس السياسي الحديث، هو قدرة الأمة على لثم جراحها المفتوحة والمتقيّحة، نتيجة لعوامل سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، واعتراف بالواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي الجديد، ومحاولة استثمار أكثر ما فيه من ايجابيات، تستطيع من خلالها الأمة أن تعيد بناء نفسها وتنهض، لا أن تجلس السنوات الطويلة والعقود المتتابعة تبكي حالها وترشّ كل يوم الملح على هذه الجروح لكي تتسع بدل أن تندمل، وتتقيأ أكثر فأكثر بدلاً من تلتئم.

التطبيع في القاموس السياسي الحديث، هو قدرة الأمة على ابتلاع النكبات، وتحويلها إلى دروس وعظات تُحلل وتُتأمل، وتُتخذ منها العظات حتى لا تتكرر النكبات.

التطبيع في القاموس السياسي الحديث يعني الاعتراف الشجاع بالهزيمة، والاعتراف الشجاع بالجهل، والاعتراف الشجاع بالتخلف، والاعتراف بالحكم القبلي والعشائري، والاعتراف بسيطرة الايديولوجيا الدينية والقومية على صناعة القرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي.

التطبيع في القاموس السياسي الحديث، يعني أن نعترف بالحقيقة الواقعة على أرض الواقع مهما كانت هذه الحقيقة مُرّة وصعبة وكبيرة وقاتلة، وأن نبلع سكاكينها الحادة. فالاعتراف بالحقيقة لا يقتلنا، بل يبعث الأمل فينا لتجديد الحياة وصياغتها من جديد، تبعاً للحقائق الماثلة أمامنا. في حين أن الذي يقتلنا ويدمرنا هو التجنّي على الحقيقة وتزويرها، وعدم الاعتراف بها، فحينها نكون نحن بأنفسنا غير حقيقيين في هذا الوجود، ولا وجود لنا مع انكارنا وجحودنا للحقائق السياسية والاجتماعية والاقتصادية القائمة، والماثلة على أرض الواقع.

فهل نحن العرب، أصحاب القول الشهير المعروف:

" الطبعُ غلبَ التطبّع" !

ما زلنا عصيين مُستعصين، لدينا المناعة الكاملة ضد التطبّع والتطبيع، لأن طبعنا المتمثل بالانكماش، وعدم الانفتاح، والخوف من الآخر والجديد والقادم والغريب، وعبادتنا للأسلاف، وارتهاننا للماضي، وخضوعنا لأحكام الموتى، هو الذي أنشأنا على أن نكون عصيين مُستعصين على التطبّع والتطبيع، ولهذا فنحن فيما نحن فيه الآن من انحطاط، وهزائم، وخيبات، ونكسات وكوارث، وفقر، وجهل؟!

-2-

لن نذهب في قراءة التاريخ بعيداً.

سوف نقرأ التاريخ العربي الحديث قراءة سريعة، لنرى إلى أي حد ومدى كانت مناعة العرب ضد التطبّع والتطبيع، وإلى أي مدى غلب طبعُ العرب على قابليتهم للتطبّع والتطبيع.

عندما جاء نابليون في العام 1798 بحملته الفرنسية التنويرية إلى الشرق فاتحاً مصر – بوابة العرب الكبرى آنذاك – أمام عصر التنوير الفرنسي والأوروبي بشكل عام، كان ردُّ العرب على هذه الحملة هو الرفض، ورفض تطبيع ظلام الشرق بنور الغرب الجديد. فلم يقاوم العرب الحملة الفرنسية في جانبها العسكري والاستعماري فقط، ولكنهم قاوموا ورفضوا جانبها الثقافي والعلمي أيضاً. واعتبروا أن الجانب الثقافي والعلمي ما هو إلا غزو ثقافي غربي استعماري يهدد الحضارة العربية والإسلامية. فقاوموا مطبعة نابليون، وهدموا الأبراج الفلكية التي نصبها نابليون، وحطموا المختبرات العلمية والمعامل الكيمائية التي بناها نابليون، وخطفوا العلماء الفرنسيين الذين أحضرهم نابليون لمسح مصر مسحاً زراعياً وثقافياً واقتصادياً تمثل في أكثر من عشرين جزءاً فيما سُمّي بعد ذلك بمجلدات "وصف مصر". وهكذا ضاعت على الأمة العربية فرصة ذهبية للدخول في عصر الأنوار التي بدأت تنشر هُداها وهدايتها في كل أنحاء أوروبا.

فتخيّلوا لو أننا صبرنا قليلاً وتمثلنا الحكمة والواقعية السياسية، كما تمثلها اليابانيون في 1945، ونظرنا إلى الايجابيات وليس إلى السلبيات فقط لحملة نابليون، ماذا سيكون عليه حالنا الآن نحن العرب؟

ولكن طبعنا غلب.

طبعنا في كراهية الآخر، وعداوة الآخر، واحتقار الآخر، وتكفير الآخر، إلى درجة أننا نردد الآن: أن ديكتاتوراً عربياً اسلامياً ظالماً، خيرٌ من ألف حاكم غربي عادل!

هذا الطبع هو الذي غلب قدرتنا على التطبّع والتطبيع مع الآخرين.

-3-

في 14 مايو 1948 تم الاعلان عن قيام دولة اسرائيل، واعترفت بها دولتان عظميان في ذلك الوقت، هما امريكا والاتحاد السوفياتي الذي اعترف بها قبل امريكا. ثم تتابعت الاعترافات من معظم دول العالم ما عدا الدول العربية، التي كان لها الحق في ذلك الوقت ألا تعترف، حيث كان الجرح الدموي الفلسطيني ما زال كبيراً وعميقاً، والدماء ما زالت حارة وفائرة. وقامت دولة اسرائيل على نمط الدول الأوروبية الديمقراطية (حزب يحكم، وحزب في المعارضة) واجريت فيها عدة دورات انتخابية شعبية وديمقراطية، وأصبح لها برلمانها. وكنا نُعجب نحن العرب بالحرية السياسية المتاحة للصحافيين والكتاب والسياسيين الاسرائيليين وهم على مرمى حجر منا، بينما يُقتل في العالم العربي الصحافيون (كامل مروة، سليم اللوزي، رياض طه، ناجي العلي، وغيرهم) وبينما يُقتل الكتاب والمفكرون العرب (حسين مروة، مهدي عامل، سيد قطب، محمود طه، فرج فودة، شهدي عطية، وغيرهم) وبينما يُقتل مئات السياسيين العرب في المهاجر والسجون والزنازين العربية، ويذابون في الأسيد (فرج الله الحلو).

وتقدمت اسرائيل في اقتصادها وفي ثقافتها. وأصبح دخل الفرد الاسرائيلي في السنوات الأخيرة – حسب تقرير مجلة الايكونومست السنوي لعام 2003 – حوالي 17 ألف دولار سنوياً، في حين أن دخل الفرد في أغنى دولة عربية نفطية لا يزيد على ثمانية آلاف دولار. وأصبح الدخل القومي الإسرائيلي في الفترة نفسها يساوي دخل مصر القومي وسوريا والأردن ولبنان والضفة الغربية مجتمعين. وتقدمت الصناعة الاسرائيلية والسياحة الاسرائيلية وأصبح عدد السياح الذين يفدون إلى اسرائيل سنوياً أكثر من عدد السياح الذين يفدون إلى كافة أنحاء العالم العربي، وتطورت الزراعة، وتطورت الثقافة اليهودية. وأصبح عدد ما يُترجم من الأعمال الأدبية والفنية اليهودية الاسرائيلية إلى اللغات الحية يفوق ما يترجم من أعمال العرب كلهم.

وكل هذه الانجازات القائمة – سواء اعترفنا بها أم لم نعترف - لم نحاول أن نفتح أعيننا عليها، ونقرأها قراءة المُستبصر، ونتأملها تأمل العاقل المفكر العميق، ونحاول الاستفادة منها، والاقتراب منها، وتقليدها. وشُغلنا بالصراع العسكري، وبسباق التسلح مع اسرائيل الذي كان سباقاً بين الجِمال (الهجن) العربية وسيارات "الفيراري" الرياضية. بين الحداثة والقدامة. بين شعب قدم أفراده من أوروبا التنوير والصناعة والعلم والحرية والديمقراطية، وشعب ما زال أفراده يسكنون الصحراء الخالية المقفرة الموحشة الظالمة. بين شعب ينادي الغد، وشعب يبكي على الأمس المتمثل بالأندلس، وبسقوط الخلافة الإسلامية عام 1924.

وبقينا نحن العرب سجناء أوهام الانتصارات العسكرية والحل العسكري، ورفضنا كل الحلول السياسية بدءاً من تلك التي طرحها بورقيبة علناً بإقامة دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل في عام 1965 تمشياً مع شعاره المشهور "خذ وطالب"، واستناداً إلى قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة رقم 181. وتعرض بورقيبة لهجوم شديد من الأجهزة الإعلامية العربية الغوغائية - التي كانت تسيطر عليها الدهماء، كما تسيطر اليوم على الفضائيات العربية، ويهاجمون الليبراليين الجدد المنادين بالواقعية السياسية - وخاصة الفلسطينية والمصرية في 1965 التي اتهمته بخيانة الأمة العربية والتآمر على الشعب الفلسطيني وقضيته، مما جعل تونس تجمّد عضويتها في جامعة الدول العربية، وانتهاءً بتلك التي طرحها محمود عباس أول وآخر زعيم سياسي فلسطيني حقيقي وواقعي وحداثي، أجبره ياسر عرفات على الاستقالة من رئاسة الوزراء واعتزال الحياة السياسية الفلسطينية كذلك.

وهكذا، غلب طبُعنا المُتجذّر فينا ( كل شيء أو لا شيء، ولنا الصدر دون العالمين أو القبر)، قابليتنا للتطبّع والتطبيع مع الحقائق السياسية القائمة على أرض الواقع السياسي، والتي كنا ندسُّ رؤوسنا في رمال الصحراء العربية المحرقة حتى لا نراها ولا نعيها، ونُخرج رؤوسنا بعد ذلك وقد انسلخت، ولم يبق منها إلا جماجم فارغة، تسكنها غربان كغربان العُربان الأفغان الذين يقاتلون سطوع الشمس وشروقها الهائل الآن على أرض العراق بسيوف خشبية مهترئة لا تصلح لكشّ الذباب، حيث تقرر للشمس العربية الحديثة أن تشرق من هناك أولاً، بدلاً من أن تشرق من مصر كما قرر نابليون في عام 1798.

-4-

لقد غلب طبعُ العرب على قبول التطبّع والتطبيع ليس تجاه الصراع العربي – الإسرائيلي فقط، ولكن تجاه كل رياح التغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي في المنطقة.

فقد غلب طبعُ العرب على قبول التطبّع والتطبيع في الديمقراطية، وتمسكوا بتجربة سحرية خيالية مُفتقدة في التاريخ العربي وغير موجودة، وهي "الشورى".

وغلب طبعُ العرب على قبول التطبّع والتطبيع في الحداثة ومحاربتهم لها، وتغليب القدامة على الحداثة المستوردة من الغرب الكافر المستعمر.. الخ.

وغلب طبعُ العرب على قبول التطبّع والتطبيع في اصلاح التعليم الديني الظلامي الداعي إلى الارهاب، وأن "الجنة تحت ظلال السيوف"، وليست تحت ظلال العقول والأفكار والحوار.

وغلب طبعُ العرب على قبول التطبّع والتطبيع في الإصلاح من الخارج، رغم أنهم انتظروا الإصلاح من الداخل قروناً طويلة فلم يأتِ، ولن يأتي لأن لا بذور هناك تنبته. وعندما جاءهم من الخارج رفضوه، وأطلقوا عليه: "الاستعمار الجديد".

وغلب طبعُ العرب على قبول التطبّع والتطبيع في النظم الاقتصادية الغربية، وأطلقوا عليها نظماً ربوية كافرة، واقاموا شركات الاستثمار والمصارف الدينية بدلاً منها، والتي سرقت الأموال الطائلة، وضحكت على عقول الجهلاء من الأغنياء والفقراء على السواء.

وغلب طبعُ العرب على قبول التطبّع والتطبيع في الواقع السياسي الأليم القائم ومحاولة التعايش معه. فياسر عرفات مثلاً ما زال يحلم ويقوم بانشاء المليشيات بدلاً من انشاء الوزارات، والاستمرار بـ"الثورة" التي أصبحت عورة، بدلاً من اقامة الدولة، وباستنكار الحقائق السياسية القائمة على الأرض الفلسطينية، والاعتقاد بأن الاتحاد السوفياتي الصديق والرفيق ما زال هناك، وأن حائط برلين لم يسقط، وأن اسحق رابين لم يُقتل، وأن كلينتون ما زال يحكم أمريكا. وحاله في ذلك وهو في سجنه في رام الله كحال الجنود اليابانيين في الحرب العالمية الثانية، الذين فروا إلى الجبال، وعاشوا في الكهوف سنوات طويلة، وكانوا يعتقدون بأن اليابان لم تستسلم في عام 1945، وأن الامبراطور ما زال هو الأمبراطور هيرو هيتو العظيم.

وغلب طبعُ العرب على قبول التطبّع والتطبيع في حرية المرأة، وحرية عملها، وحرية علمها. وقالوا بأن حرية المرأة دعوة غربية يراد بها "مومسة" المرأة العربية؛ أي تحويلها إلى مومس، ورددوا أقوال التراث في نساء العرب قبل 1500 سنة: ( وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب)، و( وقرنَّ في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى)، و ( لا يخلو رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان)، و( المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان )، و (إياكم والدخول على النساء)، وغيرها. وكأن التاريخ قد توقف وتجمّد عند القرن السابع الميلادي، وكأن العرب ما زالوا حتى الآن يستغرقون يوماً وليلة للوصول من مكة إلى المدينة على ظهور الجمال والبغال.

وغلب طبعُ العرب على قبول التطبّع والتطبيع في كل أشكال النظم السياسية الغربية. فرفضوا الانتخابات من الشعوب وأخذوا بالبيعات من (أهل الحل والعقد) فقط (العلماء والفقهاء من رجال الدين) ونادوا بذلك. وما زال أكبر حزب سياسي اسلاموي في العالم (جماعة الإخوان المسلمين) يأخذ بالبيعة لا بالانتخاب حتى هذه اللحظة، حيث يُنتخب المرشد العام من قبل 15 فقط من (أهل الحل والعقد) في مكتب الارشاد.

-5-

الشعوب التي تركت طبعها وطباعها القديمة والماضية، واستجابت لتحديات العصر الذي تعيش فيه وواجهتها بالعلم والعمل، ولم تهرب من هذه التحديات، ولم تدفن رؤوسها في رمال الصحراء المحرقة، وأخذت بالواقعية والاعتراف بالواقع تطبّعاً وتطبيعاً هي الشعوب التي نهضت، واستوت، واستقامت، ونجحت، وحققت مكاسب وانجازات هائلة.

الشعوب التي تمسكت بطبعها، ورفضت التطبّع والتطبيع هي الشعوب التي عاشت تحاصر نفسها قبل أن يحاصرها أعداؤها، والتي يأتي إليها التغيير كالطوفان الجارف المفاجيء، وليس كإشراق الشمس اليومي المنتظم العادي، فتصاب بالهول والذهول، وتتخبط في كيفية رد الفعل على هذا الطوفان (الحالة العراقية مثالاً لا حصراً، والتي ما زالت مذهلة وغير مُصدَّقة بالنسبة لكثيرين من العرب الذين ما زالوا يعتقدون بأن صدام ما زال يحكم العراق، أو أنه عائد لحكم العراق).

الشعوب التي تخلت عن طبعها وأخذت بالتطبّع والتطبيع مع الحقائق القائمة على أرض الواقع. هي الشعوب التي قامت من رماد الحريق الهائل الذي دمرها تدميراً، ولثمت جروحها النرجسية، وتقدمت أمم الأرض. ولنا من الشعب الياباني المثال الأكبر والأعظم، وما حصل لها في العام 1945 هو أكبر وأشنع وأفظع ما حصل للعرب عام 1948.

فكيف تعامل اليابانيون مع نكبتهم؟

وكيف تعامل العرب مع نكباتهم؟

وأين هم الآن، وأين نحن الآن؟

الفرق واحد فقط بيننا وبينهم، وهو:

أن طبعنا غلب قابليتنا للتطبّع والتطبيع، وأن قابليتهم للتطبّع والتطبيع غلبت طبعهم.

(تنشر بالتزامن مع جريدة "السياسة" الكويتية، و "المدى" العراقية، و"الأحداث المغربية")

[email protected]