بعيدا عن رتوش المجاملات الدبلوماسية وأصولها ومايتفرع عنها، وبعيدا أيضا عن الإغراق في الأوهام وعوالم الخيال، فإن هنالك أزمة صامتة في العلاقات الكويتية / العراقية المستحدثة والناشئة حديثا بعد أكثر من عقد دموي شرس توج بالإحتلال والغزو البعثي الغاشم والمرفوض من كل الأحرار والذي لاأتصور أنه يمكن أن يتكرر في يوم ما مهما حدث من خلافات لأن ماحصل قبل أربعة عشر عاما كان عملا ميتافيزيقيا وإنتحاريا خارج عن كل السياقات المفهومة لعلم وفن إدارة الأزمات، وهو عمل أرعن ينسجم مع تطلعات وأفعال الدولة البوليسية القمعية ذات الحزب والقائد الأوحد وهي مرحلة إنتهت تاريخيا ولن تعود مطلقا مهما كانت الظروف، فاللتاريخ أحكامه، كما أن للإستراتيجية قراءاتها وضروراتها الملزمة، والزيارة الأخيرة التي قام بها رئيس الوزراء العراقي المؤقت د.أياد علاوي لدولة الكويت وفي توقيت تاريخي له أهميته الرمزية والإيحائية والتي أثيرت حولها الأقاويل والتكهنات ومن ثم أثارت بعض عواصف الغبار السياسية لاينبغي أن تفسر نتائجها بأكثر مما تحتمل الأمور والتطورات، فالعراق يعيش على حافة براكين خطرة، والقوى الفاشية المضادة للتغيير من بعثية وأصولية ودينية تتحين الفرص لتفجير العراق والمنطقة وإفشال التطورات التنموية والديمقراطية وتراهن على حروب الفوضى العشائرية والدينية والمناطقية والطائفية، وكان لابد لتلكم التطورات أن تلقي بظلالها على أجواء أية تحركات سياسية ومناقشات دبلوماسية، لاسيما وإن فشل العملية السياسية في العراق سيعني الكثير على طريق بلقنة المنطقة وزرع مصادر التوتر وبؤر الإنفجار وسيحقق أحلام الفاشية البعثية في تخريب المعبد العراقي على رؤوس الشعب العراقي ودول الجوار أيضا، ولكن بالمقابل فإن حكومة الدكتور علاوي المؤقتة قد إرتكبت أخطاءا إستراتيجية ولها مغزاها على صعيد صورة العلاقات مع الجارة الصغرى والعزيزة دولة الكويت، خصوصا خلال اللحظات الأولى لتسلم السيادة من قوات التحالف حينما شكر علاوي جميع الأطراف الدولية والإقليمية متناسيا الكويت رغم أن الكويت وهذه حقيقة إستراتيجية لامجال للقفز عليها تعتبر ( بوابة التحرير الفعلية) للشعب العراقي، وهي صاحبة الفضل الأكبر في النصر على الفاشية البعثية خصوصا وأنها ضحت بالغالي والنفيس وطنيا وقوميا وإستراتيجيا من أجل الإسراع في تحقيق حلم العراقيين بالحرية والإنعتاق من نير الظلام البعثي المتخلف كما أن مساعداتها لقوى المعارضة العراقية السابقة لاينكرها إلا جاحد غشوم... ومع ذلك فقد تم تناسي الدور الكويتي وشكرا أطراف عربية وإقليمية كانت تعارض علنا فكرة إسقاط صدام عسكريا كما كانت في حالة عداء مع الشعب العراقي وقواه الحرة..! ولاأعتقد أن هذا الموضوع مجرد إجراء روتيني ففي العمل السياسي لايوجد شيء متروك للصدفة أو للظروف!، ثم تكررت التداعيات للأسف لتحاول بعض الأطراف الإعلامية الإدعاء بوجود خلافات عراقية / كويتية حول الإعتراف الرسمي العراقي بدولة الكويت!! وهي مسألة تدخل ضمن صميم حالة التكهنات المبالغ بها أكثر من أي إحتمال واقعي آخر!، فعقدة العلاقات التاريخية بين العراق والكويت والتي شابتها أزمات عنيفة وقوية منذ ثلاثينيات القرن الماضي ووصولا للستينيات منه ثم تواصلا مع الإنفجار الكبير في عدوان 1990 الغاشم ظلت هي المسيطرة على ذهنية الإعلاميين وعلى العديد من الأطراف الكارهة لأقامة أي نوع من التوافق الإقليمي والسياسي، ولاأعتقد أن عقيدة د.علاوي السابقة وهي عقيدة بعثية لها دور ما في مسلسل الشكوك المثارة أخيرا والتي غذتها بعض التصريحات المبهمة لرئيس وزارة مؤقتة يحارب على أكثر من جبهة، وهو وحكومته في حالة صراع إقليمية ووطنية حاسمة ضد الإرهاب الدولي ووكلائه المحليين وضد مخططات وأساليب دول إقليمية كبرى كإيران تعمل أجهزتها ليلا ونهارا من أجل نقل الحرب العقائدية ضد الأميركان للساحة العراقية، وأعتقد جازما أن الحكومة العراقية المؤقتة قد جافتها الحكمة والكياسة الدبلوماسية تماما وهي تتوسل لإرضاء القريب والبعيد وتلوح ببطاقة وسياسة البراميل النفطية لإرضاء وإسكات بعض الأطراف المعادية لحرية العراقيين فيما تتعامل بجفاء وغلظة وعدم كياسة مع الحليف والحضن الطبيعي للعراقيين في مرحلتهم الجديدة، ويجب أن لاننسى بأن الكويت ليست مجرد كيان صحراوي طاريء بل أنها دولة راسخة وأصيلة ولها مؤسساتها التي فشلت الدولة العراقية القديمة في محاكاتها أو تقليدها على الأقل، كما أن الإعتراف الدولي والعراقي بها قد وصل خط اللاعودة وهو مشفوع ومقترن بإرادة المنتظم الدولي وقضية الحدود قد حسمت نهائيا ولايوجد أي طرف يمكن أن يثير إشكالات في هذه الناحية المحسومة والغير خاضعة لأي نقاش، ولكنني وضمن إطار المراجعة التاريخية الشاملة لماضي وحاضر العلاقات الدولية والإقليمية في المنطقة أعجب أشد العجب من إزدواجية نظر بعض رجال السلطة العراقية وتقويماتهم للأمور فهم ( حمائم وأرانب وديعة للغاية) لبعض دول الجوار فيما نراهم في حالة إستئساد وزئير وهمية حينما يتعلق الأمر بالعلاقات مع الكويت!، فلقد سبق للنظام البعثي البائد أن تبرع لإيران بنصف شط العرب وبأراضي حدودية مهمة دون إعتراض من أحد؟ كما سبق لنفس النظام المقبور أن تبرع للأردن بحوالي 58 كيلومترا مربعا من الحدود المشتركة والمحتوية على حقول بترولية كما يقال دون همسة إعتراض؟ ونفس النظام تقدم ووافق بكل أريحية على إعطاء القوات التركية الحق في التوغل في العمق العراقي لمطاردة المعارضين دون أن يتحدث أحد عن مسألة السيادة والكرامة المفقودة..؟ فما بال بعض الذين في نفوسهم وعقولهم مرض يزأرون بالشكوى ويلوحون بالتهديدات الجوفاء كلما طالب الكويتيون بضمانات أمنية أو سياسية وهي مسألة مفهومة ولها مايبررها تاريخيا وسايكولوجيا؟.

وبعيدا عن حروب الإثارة والتصريحات الملتهبة فإن ثمة حقائقا قد أفرزتها حالة الصراع الإقليمي الأخيرة وهي أنه لاعودة على الإطلاق لسياسات الإحتلال والضم والإلحاق، ولاعودة للأساليب البعثية الفاشية في حل المسائل على طريقة ( الشقاوات والبلطجية)... وستظل العلاقات مع الكويت ثابتة وقوية ومتطورة والأمر منوط بحالة الإستقرار العراقية والتي ستجعل من كل أحاديث الخلاف مجرد غيوم صيف عابرة... فطريق الحرية والتعاون والتكامل والبناء مازال طويلا، وستشهد الأجيال القادمة حصد النتائج المثمرة للسلام الإقليمي.

[email protected]