تعيش معي عشرات العادات (المتصلة كلها بالقراءة) ليس لها من مبرر إلا ما يسميه الغربيون "النوستالجيا" (الحنين للماضي). ومن هذه العادات أنني كثيراً ما أعود لأربعة مواد (طالعتها مرات عديدة) لمجرد إلقاء نظرة جديدة عليها معاً. وهذه المواد الأربعة هي: قصيدة أحمد شوقي عن أحمد لطفي السيد بمناسبة ترجمته لواحد من كتب "أرسطو"… ثم كتاب "السياسة" لأرسطو (ترجمة أحمد لطفي السيد) ثم الجزء الثالث من "حديث الأربعاء" لطه حسين (وفيه مقال عن الثلاثة: قصيدة شوقي… وكتاب أرسطو… وأحمد لطفي السيد).. وأخيراً كتاب (قصة حياتي) الذي صدر في فبراير 1962 بمناسبة بلوغ أستاذ الجيل التسعين (فهو من مواليد 15 يناير 1872).

ولعلي أفعل ذلك بدافعين (ينتمي كل منهما لتلك النوستالجيا).. الأول: شغفي الكبير بكل من أرسطو وأحمد لطفي السيد وطه حسين.. والثاني: شغفي الكبير بتلك الحقبة (عشرينيات القرن العشرين) حيث كان حلم التنوير والتحديث هو الحلم الثقافي الأول لطليعة المصريين المثقفين، كما كان الشغف بعصر النهضة وحضارة اليونان من قبل ذلك من شواغل كبار المثقفين المصريين. فكلما ترجم أحمد لطفي السيد بعض كتابات أرسطو… فعل طه حسين نفس الشيء مع أرسطو وعدد من كتاب المسرح الإغريقي العظيم. كذلك ترجم عبد العزيز فهمي مدونة جوستنيان (الرومانية) وهي أساس النظام القانوني الفرنسي الذي هو أعظم نظام قانوني رأته الدنيا.

ورغم أنني طالعت هذه "المواد" عشرات المرات، ففي كل زيارة جديدة لتلك "المتاحف العقلية الفاخرة" أعثر على كنزٍ جديدٍ يستحق التركيز عليه. ففي زيارة منذ أيام لتلك المتاحف كنت أُطالع مذكرات أحمد لطفي السيد عن فترة توليه وزارة المعارف (في يونية 1928)… وفي هذا الجزء من المذكرات المقتضبة طالعت هذه العبارة المذهلة في حكمتها وعمقها… يقول أحمد لطفي السيد: (وقد قال جوستاف لوبون: "أن الرومانيين في زمن إنحطاطهم كانوا أشد ذكاءً من أجدادهم الأشداء، ولكنهم فقدوا الخواص الأخلاقية كالصبر والعزيمة والثبات والإستعداد للتضحية بالنفس في سبيل الغاية والإحتفاظ بإحترام القانون") ويضيف "جوستاف لوبون" (نقلاً عن أحمد لطفي السيد): "تلك الخواص الأخلاقية كانت هي سر عظمة آبائهم الأولين".

وقد علمتني تجربتي في الحياة (وأقول: "تجربتي في الحياة" وليس مطالعة الكتب التي طالعتها) أن "التقدم" يحدث عندما تتوفر تلك الخواص الأخلاقية في المجتمع (وبالطبع في "قيادته")… وأن التخلف يشيع عند إختفاء وإنتفاء تلك الخواص الأخلاقية – حتى لو توفر عدد كبير جداً من الأذكياء وعدد كبير جداً من كبار المتعلمين – فالنهضة لا تتحقق – فقط – بالذكاء والعلم، وإنما بتلك الخصائص التي وصفها "جوستاف لوبون" فأحسن وصفها.

إن إنشغال البعض منّا بإصلاح "الهياكل" و"النظم" و"الآليات" و"السياسات" هو إنشغال نبيل – فمعظم تلك الأشياء – في واقعنا – مهترئة وعامرة بعناصر "الركود والفشل" لا بعناصر "الحركة والنجاح". ولكن إصلاح ذلك (رغم أهميته) لن يكون كافياً لإنجاز الغايات والأهداف المنشودة. نحن بحاجة لفريق عمل واسع على رأس الحياة التنفيذية والتشريعية (بالعشرات والمئات) تتوفر في كل أفراده تلك الخواص الأخلاقية التي صاغها – بعبقرية – جوستاف لوبون وركّز على أهميتها أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد: (الصبر والعزيمة والثبات والإستعداد للتضحية بالنفس في سبيل الغاية والإحتفاظ بإحترام القانون) فهذه الخواص الأخلاقية (حسب كلمات جوستاف لوبون) "كانت هي سر عظمة آبائهم الأولين".

يقول علي بن أبي طالب (عليه السلام): "رب همة أَحيت أمة"… ويمكن للقارئ أن يزاوج بين كلمات علي بن أبي طالب البليغة والصائبة وبين كلمات "جوستاف لوبون" وسيجد أنهما يصبان في ذات النهر. فالهمة التي تحدث عنها علي بن أبي طالب هي الحركة الإجمالية التي ذكرها جوستاف لوبون.