ما يدور في الإقليم الخليجي والعالم العربي عموما من احداث متوترة وتداعيات سياسية وعسكرية ونفسية مؤلمة قد ألقت بظلالها على مجمل عمليات التنمية والتتطور والتغيير التي من المفترض أن تتسارع وتائرها بخطى حثيثة تسابق الزمن، فالأحداث الساخنة والمصيرية في العراق وهو (بوابة) التغيير الكبير في العالم العربي دون شك قد أدت في المحصلة إلى تباطؤ آليات العمل التغييري بعد أن نجحت الجماعات الظلامية والفاشية القومية المتحالفة معها- تكتيكيا – في عرقلة جهود البناء الوطني الجديد وفرضت إستحقاقات مهمة ومؤلمة لابد للسلطات العراقية من مواجهتها إذا أرادت كسب خيارات التقدم الإجتماعي والحضاري والسياسي وعدم الهزيمة أمام جحافل الظلام والتخلف والفاشية البعثية، وكان من المؤمل ومنذ أن سقط النظام البعثي الفاشي تحت إرادة الأحرار في ربيع العام الماضي أن تشهد المنطقة الخليجية والعربية والشرق أوسطية إنفراجا وإسترخاءا نفسيا وعصبيا بعد عقود من جولات الدماء والآلام والحروب والدموع !، ولكن ماحصل من تطورات سلبية ودموية كانت متوقعة أكدت وبشكل لالبس فيه من ان المعركة ضد التخلف التاريخي والمستوطن والمعتمد على ركائز وإرادات إقليمية ليست سهلة ولم تكن مجرد نزهة عابرة، بل أنها حرب واسعة وشاملة ومفتوحة الإحتمالات والنهايات ولن يكون مقبولا في نتائجها سوى النصر الحاسم والمؤكد رغم كل الجراح والآلام والخسائر وحيث تشهد الساحة العراقية حاليا بداية النهاية لتحالف الفاشية القومية مع الإرهاب الأصولي مهما بدت الصورة العامة قاتمة وسلبية إلا أن حتمية التاريخ وحركة الشعوب وإرادتها لن تفرض سوى النصر، وقد أدرك الكويتيون ومنذ زمن طويل ترافق مع بدايات الإستقلال والبناء الوطني تلك المعادلة والإشرافة المستقبلية وباشروا بجهود واضحة وتحديات شرسة مهمة تحديث مجتمعهم وبناء نظامهم السياسي والإجتماعي المعتمد أساسا على مسايرة ومتابعة تجارب المجتمعات الديمقراطية الحرة المتقدمة والمنبعثة أساسا من النفسية الكويتية الحرة المتسامحة والمترافقة مع شعب ومجتمع تعود على الصلات مع العالم الخارجي ونبذ التطرف والعقلانية في مناقشة الأمور وتقبل الرأي الآخر دون أن يعني ذلك من أنهم تعرضوا لمطبات وإخفاقات لكن دون أن تلغي تلك الإخفاقات مهمة متابعة المسيرة وتشييد البناء الوطني بحكمة الأجداد وتجارب الأسلاف ووقائع الظروف والمستجدات الكونية، فالكويت مثلها مثل سائر دول العالم لاتعيش في جزيرة معزولة عن العالم بل انها تعيش في عمق العالم وأحداثه وكانت خلال النصف قرن الأخير أحد العناصر الفاعلة في التكوين الإقليمي سياسيا وإقتصاديا وواقعيا وهي اليوم ومع بدايات العقد الأول للقرن الحادي والعشرين أشد تصميما على متابعة المسيرة وتطويرها من الماضي وحيث باتت عملية التحديث والعصرنة واللحاق بالعالم بعد إنتهاء الهم والهاجس الإستراتيجي أكثر من ضرورية لابل أنها مسألة حياة أو موت لاتقبل الجدل ولا التردد، ولعل في المتغيرات الداخلية الأخيرة في الكويت وتصميم حكومة الشيخ صباح الأحمد على تفعيل الحياة السياسية والإقتصادية وإتاحة المجال لحركات المجتمع المدني والتنظيمات وجمعيات النفع العام بحرية العمل مثلما حدث بترخيص إقامة المنظمة الكويتية لحقوق الإنسان، خير دليل على نضوج التجربة الكويتية وإيمان صانع القرار الكويتي (وهو قرار شعبي وتوافقي أساسا) بأن ملفات التطوير والحداثة قائمة ومستمرة ولن تعرف التوقف، فقدر الكويت أن تكون شعلة تنويرية في المنطقة كما حصل في الستينيات والسبعينيات قبل أن تعيش الإنكفاء والتراجع في الثمانينيات وصولا لمرحلة الغزو الغاشم الذي حطم أوهاما كبيرة! وفرض متغيرات عظمى وأزاح الغشاوة عن رؤى وتصورات وأوهام عديدة!، ولكنه بالمقابل قد أدى داخليا ونتيجة لحالة الحرية والحركية السياسية الداخلية في الكويت إلى نمو وتعاظم التيارات الدينية الأصولية التي شكلت حالة شاذة عن حالة التسامح الكويتية المعروفة والمشخصة شعبيا وسلطويا، فلقد نمت تلك التيارات وتضخمت نتيجة لعوامل محلية وإقليمية أساسا مستفيدة من حالات الإنكسار النفسية التي رافقت وأعقبت الغزو الكارثي ومتكئة على عصا الشعارات الدينية البراقة النظرية والمختلفة تطبيقيا!! والتي جرب الشعب الكويتي ماغيره بعضا من تطبيقاتها الهامشية التي لاتصب إلا في خانة تقييد الحريات وإشاعة الكآبة وتوريط الدولة والشعب في ملفات شائكة وحساسة لاضرورة لها ولاتخدم الأهداف الإستراتيجية للدولة والمجتمع فضلا عن بروز أنياب تلكم التيارات الظلامية والتي من شأنها أن تقضم كل مكتسبات وأطر توسيع المشاركة الشعبية وتعرقل المحاولات الحكومية ومن أعلى المستويات والهادفة لإدماج المرأة الكويتية في العملية السياسية بعد أن أبانت الأحداث عن الفاعلية الكبيرة للمرأة الكويتية وتصديها ونجاحها في كل المهمات الإدارية والوظيفية والسياسية لتأتي تلكم التيارات وتحاول إعادة العجلة لعصر الحريم!! وتحت ضجيج الشعارات الإيمانية والتي لايحتاج الشعب الكويتي لمعلمين لها لأنهم في السليقة والفطرة شعب مسلم ومؤمن وخارج عن نطاق الوصاية التي يريد سلفيو العصر الجديد فرضها على الناس بطريقة إبتزازية!، وقد برزت خلال الشهور الأخيرة من التيارات الدينية ملامح تصعيد كلامية وعملية إرتبطت ببعض العمليات والمحاولات لعرقلة وتعكير صفو الأمن الداخلي ومن خلال الملفات المتشابكة في العراق المجاور ونجاح التنظيمات السلفية والأصولية المتعصبة الظلامية في إغواء حفنة من الشباب الكويتي الغر للإنضمام لما يسموه (الجهاد في العراق)! وهو الأمر الذي لم تكن السلطات الأمنية في الكويت بغافلة عنه وخصوصا بعد أن نفذ المجرمون الظلاميون من القاعدة والعصابات المرتبطة بها بعضا من العمليات على الأراضي الكويتية ذاتها فيما تمكن البعض الآخر من التسلل للعراق وتنفيذ بعض العمليات الإنتحارية الإرهابية وبما وضع السلطات الأمنية الكويتية على المحك ولجأت لموضوع الحسم الأمني الشامل مع الإلتزام الشديد بطبيعة الحال بالضوابط القانونية والدستورية وطريقة تصريف وإدارة الأزمات الحادة من خلال الترابط والتواصل المجتمعي والوسائل التربوية وهي سمة من سمات إدارة الأزماتفي الكويت حيال المخالفين والمتورطين والمتطرفين الذين تغذيهم وتنمي طروحاتهم الطبيعة الإنفتاحية والحرة للمجتمع الكويتي والتواصل مع التنظيمات الشبيهة والأم في الإقليم المجاور، لذلك لم يكن تصريح وزير الخارجية الكويتي الشاب د. محمد صباح السالم الصباح الأخير والذي يؤكد على إستعمال الحزم ضد التيارات الدينية المتطرفة إلا تأكيدا لجدية السلطة الكويتية على الحفاظ على الديمقراطية الكويتية وحماية مكتسبات وإنجازات المجتمع المدني في الكويت واللجوء للوسائل التي تضمن أمن وراحة وإستقرار المواطن والمقيم في الكويت وبطريقة شفافة ليس الإستئصال من مفرداتها بل إعادة التوجيه والتثقيف والتربية السلوكية والتأكيد على الروح التسامحية للإسلام ولتراث الأهل والأجداد من (أهل الديرة) الذين لم يوصموا يوما بالتطرف بل على العكس كانوا ومنذ أوائل القرن الماضي عنوانا دائما للتسامح والإنفتاح ولعل معركة (الجهراء) التاريخية عام 1920 كانت الرمز الأكبر لروحية الإنفتاح والتجدد الكويتية، اليوم المتطرفون أضحوا في حالة طلاق بائن مع الشعب الكويتي الحريص على دولته ومستقبل أجياله بوجه طيور الظلام وضباعه الذين يتحينون الفرص للإجهاز على كل المنجزات الكويتية المتقدمة التي أسست لنمو الكويت الحديثة التي كانت في الستينيات بمثابة (جوهرة الخليج العربي) واليوم يتطلع أبناؤها بجد لحصد ثمار مرحلة الإستقرار الإقليمي القادمة بعد تصفية الجيوب التخريبية في العراق لتعود للكويت كل إشراقات الماضي الجميل خصوصا وأنها شعبا وحكومة تمتلك الإرادة والتجدد لخوض غمار التحديات والعصرنة بعيدا عن قيم الدجل والتخلف التي تمثلها التيارات الظلامية المنسحبة نحو كهوف التاريخ وزواياه المظلمة، فالسباق للتقدم في الكويت قد حسمت نتائجه وبجدارة صوب التقدم والتنمية وتجديد التواصل بين تراث الأجداد وبناة الدولة الذين عرفوا بالتسامح وبين خيارات المستقبل الحرة المشرقة.
- آخر تحديث :
التعليقات