تقول الحكمة: "نعمتان مجهولتان، الصحة والأمان". فالإنسان لا يشعر بقيمة هاتين النعمتين إلا بعد أن يفقدهما. لا شك أن العراقيين فقدوا النعمتين معاً في هذا الزمن الرديء وهذا جزء من تركة النظام الفاشي الذي حكم العراق بالنار والحديد لخمسة وثلاثين عاماً. فمقتدى الصدر وأنصاره الثمرة الخبيثة لذلك الحكم الفاشي وعبارة عن طفح مليء بالقيح العفن راح يتفجر بعد زوال القبضة الحديدية، لأن هؤلاء فقدوا قدرتهم على التمتع بالحرية. لقد صار العراقيون ينشدون السلام الذي حرموا منه لعقود ومهما كان وبأي ثمن ولا يهمهم أن يأتي عن طريق آية الله السيستاني أو الحكومة أو الأمريكان. ولكن بعد هدوء العاصفة وتقدير الخسائر البشرية والمادية، سيعرفون أن وقف القتال هذا ما كان سلاماً الذي حلموا به، بل إجهاض للسلام الحقيقي وتحضير لحرب أشد وأنكى، إن لم تكن في النجف، ففي أماكن أخرى من العراق الجريح.

هناك عدة أسئلة تنتظر الجواب. لماذا اختار أنصار الصدر الاقتتال وتدمير الممتلكات في مدينة النجف بالذات رغم قدسيتها ليس عند الشيعة فحسب بل وعند كافة المسلمين؟ ومن هو المنتصر ومن الخاسر في هذا السلام المر؟ و لنضع السؤال بصيغة أخرى، هل ما جرى من وقف القتال يوم الخميس هو سلام أم إجهاض لسلام حقيقي ودائم؟ وهل مقتدى الصدر فعلاً يحارب ل"تحرير" العراق من الاحتلال الأجنبي كما يدعي؟ وهل حقيقة يمثل تياراً سياسياً له برنامجه وأجندته السياسية ويريد المشاركة في مستقبل العراق الديمقراطي؟

فمن الواضح أن أتباع مقتدى الصدر هذا دشنوا جرائمهم بعد يوم واحد فقط من سقوط النظام الفاشي عندما قاموا بقتل رجل الدين الإصلاحي السيد عبدالمجيد الخوئي واثنين من مرافقيه بصورة بشعة ومثلوا بجثثهم وسحلوها أمام الناس في منتهى الوحشية مخالفين بذلك الحديث الشريف (إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور). وواصل هؤلاء جرائمهم فيما بعد، مستغلين الانفلات الأمني والفراغ السياسي، فشكلوا عصابات القتل بتشكيل مليشيات (جيش المهدي) المدعم من إيران وكل أعداء الشعب العراقي وراحوا يبدلون أسماء الأحياء والشوارع والساحات كما يريدون وعلى طريقة صدام حسين. والمصيبة أنهم أضفوا على جرائمهم الصبغة الدينية والتفويض إلهي بمباركة بعض آيات الله من أمثال السيد علي خامنئي، مرشد الدولة الإسلامية في إيران وكاظم الحائري ومشكيني ورفسنجاني. والأخير يلقب بالكوسج وهو لقب يطلقه الإيرانيون على النصاب أو النشال. وكذلك تلقى الصدر الدعم من حسن نصرالله وفضل الله في لبنان وغيرهم كثيرون من خارج الحدود إضافة إلى الإعلام العربي المضلل من الذين يحرضون على تدمير العراق. وهكذا نرى أن مقتدى الصدر هذا لم يحظ بأي تأييد من أي رجل دين محترم في العراق، بل العكس هو الصحيح، فقد "صرح أربعة من كبار رجال الدين الشيعة بأن المقاومة المسلحة ليست هي السبيل للاحتجاج على التواجد الأمريكي في العراق. وكان الرجال الأربعة قد التقوا في مقر آية الله علي السيستاني في النجف يوم السبت 28/8/2004 " .
إن حجة الذين يدعمون الإرهاب الصدري وغيره هي أن الحكومة الحالية غير شرعية لأنها غير منتخبة ويطالبون بإجراء انتخابات عامة. ولكنهم في ذات الوقت لن يعطوا لهذه الحكومة المؤقتة أية فرصة لتوفير الشروط اللازمة لإجراء هذه الانتخابات. ومن المؤكد أنهم لا يريدون لهذه الانتخابات أن تجرى لذلك يشجعون الإرهاب ويمجدون أعمال المخربين من أجل شل الدول العراقية وبالتالي إلغاء الانتخابات وعدم السماح لتشكيل حكومة منتخبة لكي يواصلوا تحريضهم وتخريبهم للعراق.
لقد ارتكب أنصار الصدر أبشع الجرائم بحق الشعب العراقي من قتل الأبرياء وتدمير الركائز الاقتصادية وإعاقة إعمار العراق. وكلنا نعرف أن مجلس الحكم المنحل والحكومة العراقية الانتقالية الحالية حاولوا بشتى الوسائل إقناع مقتدى الصدر وأنصاره أن يتخلوا عن العنف المسلح. وجربوا معهم كل الحلول السياسية لأكثر من عام ونصف العام ودعوهم للمشاركة في العملية السياسية بمنتهى الحرية كمعارضة سلمية للحكومة. ولكنهم رفضوا كل هذه العروض والمبادرات وضربوها عرض الحائط وفسروها علامات ضعف الحكومة وأصروا على مواصلة القتل والتخريب.
لذلك لم يبق أمام الحكومة سوى اللجوء إلى الحل العسكري لفرض حكم القانون من أجل حماية أرواح المواطنين وممتلكاتهم. لذا عجبي من بعض السياسيين وهم في قيادة السلطة أو خارجها، ينتقدون الحكومة، كما تفيد الأنباء، على لجوئها للحل العسكري ويطالبونها بالاستمرار على الحل السياسي؟ فإلى متى يترك هؤلاء يقتلون الشرطة والمدنيين ويعبثون بأمن الناس ويفجرون مراكز الشرطة ودوائر الدولة ومؤسساتها؟ لماذا لا نكون واقعيين ونضع ضمائرنا أمامنا ونحتكم؟
إن أنصار الصدر اختاروا النجف لأنهم لا يحترمون المقدسات الدينية فانتهكوا حرمة الضريح الحيدري وتحصنوا به وحولوه إلى قاعدة حربية ليلحقوا الأضرار به من أجل إلقاء اللوم على القوات الحكومية وقوات متعددة الجنسيات التي خيبت بدورها آمالهم بالتزامها باحترام قدسية المكان طيلة فترة الاقتتال. ولكن بدلاً من إلقاء اللوم على جيش المهدي، أنحى الإيرانيون وعملاؤهم في العراق باللائمة على الحكومة العراقية بهتك المقدسات وراح رفسنجاني يصف النجف، تارة بهيروشيما وناكازاكي وتارة بستالين غراد.

وكان صحيحاً وذكياً موقف الحكومة العراقية عندما قررت عدم اقتحام صحن الإمام واكتفت بفرض الحصار على المتحصنين به بدلاً من الهجوم عليهم على أمل أن يبلغ بهم الإعياء والإنهاك حد الاستسلام بدلاً من قتلهم. وقد قاد هذه العملية السيد وزير الدفاع بنفسه بشجاعة وكان قد اقترب من ساعة الحسم يوم الخميس وتحقيق النجاح. وكان المتحصنون يتهيئون لتسليم أسلحتهم وحل جيشهم وتهيأت الشرطة لإلقاء القبض على الذين ارتكبوا الجرائم وبالتالي وضع حد لهذه الأعمال الإجرامية وهتك الحرمات.

ولكن في اللحظة الأخيرة جاءت مبادرة السيد السيستاني لجر البساط من تحت أقدام الحكومة وإرباكها وإجهاض النصر على المجرمين. وكما قال الأستاذ عزيز الحاج، لا نستبعد دور التيار الإيراني المتشدد بصورة غير مباشرة، في وضع هذه الخطة، مستخدمين مساعدي السيد لتمرير مخططهم ودون علمه. فنحن نعرف أن الإيرانيين قد توغلوا في جميع أركان العراق الحكومية والدينية والإجتماعية وغيرها. فمقتدى الصدر وافق على وقف القتال ليس احتراما للسيد السيستاني، لأنه بدأ تمرده المسلح في النجف قبل أكثر من ثلاثة أسابيع وعندما كان السيد السيستاني في المدينة المقدسة. ولما غادرها إلى لندن للعلاج أشاع المغرضون أن سفره كان لأسباب سياسية وذلك خوفاً على حياته تاركاً المدينة لمصيرها المجهول. فلو كان مقتدى فعلاً يكن احتراماً للسيد السيستاني ويلتزم بتعاليمه لما أعلن تمرده المسلح في النجف أصلاً. إذن لماذا استجاب الصدر الآن لنداء السيستاني؟

الجواب واضح، لقد استجاب لأنه كان على وشك الانهيار وأنصاره يستعدون للاستسلام، فأرادت إيران أن تنقذ مقتدى من الهزيمة المؤكدة وتحفظ ماء وجهه وتحرم الحكومة العراقية من النصر وبذلك تقلل من هيبتها وتحافظ على معنويات أنصار عميلها الصدر وعصاباته المسماة بجيش المهدي.

وبذلك فقد أعطت خطة السيستاني لأنصار الصدر استراحة محارب، ليستعيدوا أنفاسهم ويحصلوا على المزيد من الإمدادات من إيران والفلوجة، لمواصلة الإجرام في جولاتهم القريبة القادمة. فهم لم يسلموا أسلحتهم إلا القليل جداً منها، إذ يقول مراسل البي بي سي: " إن الكثير من أنصار الصدر رحلوا بأسلحتهم، أو أخفوا الأسلحة في مناطق مختلفة من المدينة . وقال الشيخ أحمد ال شيباني المتحدث بلسان مقتدى الصدر لوكالة الأنباء الفرنسية " سيخفون أسلحتهم غير أنهم لن يسلموها للشرطة أو الجيش ...". وتابع قائلا "سيتمكنون من مزاولة أشغالهم بينما لا يزالون جيشا ". كذلك منح مقتدى الصدر عفوا يحول دون اعتقاله ومازال يمثل قوة سياسية يعتد بها، حسبما يقول ماثيو برايس مراسل بي بي سي في بغداد. "

وبناءً على ما تقدم، فنحن إذ نسأل: أي سلام هذا الذي يتحدث عنه الناس في العراق؟ إن مقتدى الصدر وأنصاره مجرمون وخونة بكل معنى الكلمة ووفق جميع المعايير الحضارية والدينية. فقد عاث هؤلاء في الأرض فساداً وقتلوا العشرات من رجال الشرطة ومثلوا بجثثهم وحتى اقتلعوا عيون بعض الضحايا وسلقوها وتسببوا في قتل الألوف إضافة إلى حرقهم للمنشآت النفطية. كما أفادت الأنباء عن العثور يوم الجمعة على 25 جثة في المحكمة " الشرعية " التابعة ل مقتدى الصدر وسط النجف . إضافة إلى سلسلة طويلة من الجرائم البشعة بحق الشعب العرقي. فوفق أية شريعة أو قوانين، دينية أو غير دينية وفي أي دولة في العالم، يحق لمرتكبي هكذا جرائم أن يفلتوا من العقاب ويُتركوا أحراراً طلقاء يسمح لهم المشاركة في العمل السياسي لتقرير مصير البلاد والعباد؟ حقاً إنها لقسمة ضيزى وأقرأ على العدالة السلام.

لا شك أن هناك خلل فضيع في المعايير وانتهاك خطير للقيم وعلى جميع المستويات. إنه الخلل الذي يتهدد وجود العراق بجعله مرتعاً خصباً لتفريخ عصابات القتل والجريمة المنظمة والأنكى من كل ذلك أن يُكافأ المجرمون على جرائمهم بحرية العمل السياسي ليواصلوا جرائمهم وفق شريعة الغاب باسم الله والدين وبمباركة آيات الله في آخر الزمان.

http://www.sotaliraq.com/abdulkhaliq.html