نادت البشرية منذ نشأتها كجماعات وشعوب وقبائل إلى التسامح فيما بينها نتيجة غزو الطبيعة في البدايات، وتم استجساس حالات مشتركة في عقول وعواطف الناس وقتها مثل حرية تداول إشعال النار لتأدية بعض متطلبات الإنسان بعد اكتشافها، كذلك تعميم حالة العواطف والمشاعر المتعددة التي يتصف ويتحد بها البشر مثل الجوع والعطش والحاجة إلى عناصر الحياة الثلاثة الماء والنار والهواء.
وتطورت مراحل التصور الإنساني في ممارسة العواطف النبيلة والمثاليات مثلما تطورت مشاعرهم في الغزو والقتل والاستيلاء على السلطات بقوة الحديد وشراسة النار، وهذا التناقض هو ما أثبتته شريعة الأرض وشريعة الحياة في البقاء ضمن مفهوم ثقافة الصراع الأزلي، صراع الخير مع الشر وصراع الماء مع النار.
والعالم اليوم يكتظ بالمؤسسات والنوادي والمراكز العلمية والثقافية والإنسانية التي تنادي بالمثاليات وتعمل من أجل ترسيخ مباديء وقيم حقوق الإنسان ضمن منظومة عمل دولية موحدة تم وضعها في منظمة الأمم المتحدة الدولية، وبالرغم من هذا الاكتظاظ المتزايد الذي يشهده العالم من مؤسسات لدعم العمل الإنساني والخيري والتطوعي إلا أن اجتراع مرارة الحروب والنزوات السياسية ونزعة الإنسان القديم المعتاد على قتل الحيوانات الضخمة الكبيرة لتأمين قوت عيشه لا زال موجوداً حتى مع تطور الفكر الإنساني للوصول إلى منظومة توحد جهوده في العيش الآمن والمستقر الذي يحترم البشر ويدعهم يعيشون على الأرض حياة أرقى وأفضل من تلك التي يعيشونها الآن.
وبمعنى آخر فإن الكيانات الإنسانية لم تعتمد في بداياتها العلمية والثقافية على الثقافة والفكر الوضعي في تنظيم أمور معيشتها وقتذاك بقدر ما اعتمدت على فطرتها الطبيعية في الوجود، وربما كان ذلك الوقت هو بدايات ظهور المثاليات الكونية على الأرض حيث افترضت نظرية التكاثر عندما بدأ ظهور لغات ولهجات جديدة واكتشاف أماكن أوسع للتنقل والترحل في بساط الأرض، وربما كان ذلك هو الثورة التاريخية الأولى ضمن دخول المجتمعات في نظام اجتماعي واحد أدى إلى ظهور الثورة الزراعية، أي أن الثورة الزراعية على الرغم من أهميتها لم تفرز مجتمعات ديمقراطية صالحة بقدر ما أظهرت عدة جوانب من نوازع البشر في الشر وحب السلطة والتملك.
وما قد يدلل على ذلك هو سياسة وثقافة المجتمع في تلقي وتداول أنباء الدين والشرائع الدينية السماوية الثلاث، إذ لو كانت المجتمعات وقتها من غير تنظيم أو تفاهم فيما بين الأفراد يدفع على التواصل واستمرار الحياة وتطوير ظروف المعيشة، لما كان ذاك التفاعل الذي ظهر بين المجتمعات عند ظهور الشرائع السماوية الثلاث، وخصوصاً في عهد رسول الإسلام محمد الذي استطاع من تمكين زمانه ومكانه في بناء التحول الذي تم قبل ما يزيد عن 1400 عاماً، مما يؤكد على أن ذاك التحول هو أول الثورات الإنسانية الفعلية لأنه ملتصق حتى وقتنا الحاضر بمختلف نظم ومكونات القوانين وسياسات الدول القوية والفقيرة والمنكوبة.
وبهذا المجال لم يتفاعل الفكر المنطقي بحقيقة ترابط الثورات وقوتها على خلق ثورات أخرى جديدة قادمة، حيث كانت مؤسسات العقيدة ومؤسسات القانون إضافة إلى المؤسسات الدولية الكبرى على مدار عصرنا الحديث متفاعلة مع أزمة المناخ الأمني والسلمي بين الشعوب، في الوقت الذي توضع فيه قوانين الدول بما يتناسب مع موقعها الجغرافي وعلاقاتها مع دول العالم الأخرى، وليس بعلاقتها بالمرجع التاريخي لشعوبها وإحداثيات التحولات التي ظهرت في العصر القديم، وهذا الأمر ما عملت عليه العولمة وضغطها المتزايد في إنهاء تأثيرات ثقافة العصور القديمة عبر التاريخ التي عاشتها الشعوب وتواصلت معها تواصلاً طبيعياً منطقياً غير مشوب بثقافة أو سياسة غير ثقافة وسياسة الوقت والزمن، ذلك من أجل وضع أرضية جديدة تنظم حياة الشعوب تحت شعار ما هو أفضل.
ولو تم الرجوع إلى ما تخلص به المؤسسات الثقافية والعلمية والسياسية والإعلامية من دراسات واستقصاءات وأبحاث على أسلوب وسلوك المجتمعات في التفكير والتعاطي مع ظروف الحاضر وأحداثه، لوجدنا بلا أدنى مبرر أو شك وجود الهوة أو الفجوة بين مجتمع التطوير والتحديث الذي ينادي بفك قيود القانون الوضعي وفصل الدين عن الحياة والعيش بظروف إنسانية آمنة، وبين مجتمع متجه نحو تأكيد هويته وثقافته وتراثه الخاص على أرض وطنه ومعيشته التي استحق العيش عليها نتيجة ميراث التاريخ ومنطقة الزمن لا من نتيجة القوانين الوضعية والأعراف التي لم يتفق الشر عليها اتفاقاً ديمقراطياً بل اتفاقاً عشوائياً رجوعاً إلى إحداثيات التاريخ.
وينفسخ الرجوع إلى قاعدة التاريخ بما تؤكده الآن سلوكيات البشر نتيجة انصياعها إلى أمر الحضارة الذي يعيد لها البدء بتأسيس المجتمع، إلا أن على أي مبدأ سيكون هذا التأسيس وعلى أي حضارة قادمة سيؤسس؟!.
[email protected]
التعليقات