العلاقات الفرنسية الاميركية تمر، خصوصا منذ الحرب الاميركية على العراق، بمرحلة من التدهور المريع. والعلاقات الفرنسية الإسرائيلية تشهد، خصوصا بعد وصول الرئيس الفرنسي، جاك شيراك، إلى سدة الحكم، بمرحلة هي من السوء، بحيث أن السلطات الفرنسية أعلنت قبل مدة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي، أرئيل شارون، سيكون شخصا غير مرحب به إذا أراد زيارة فرنسا.

أحد الأسباب الرئيسية وراء تدهور العلاقات الفرنسية/ الاميركية يكمن في رفض فرنسا للحرب الأخيرة التي شنتها الولايات المتحدة في العراق، ومطالبتها اللاحقة بإنهاء الاحتلال الاميركي هناك. وتدهور العلاقات الفرنسية الاسرائلية، سببه انحياز فرنسا للعرب وللفلسطينيين، وكذلك في شيوع معاداة السامية داخل فرنسا، كما يرى الجانب الإسرائيلي.

جماعات المقاومة العراقية، (بما في ذلك ما يسمى بالجيش الإسلامي في العراق)، الذي أعلن مسؤوليته عن احتجاز الرهينتين الفرنسيتين، تقول أنها تنشط لتحقيق هدفين هما، إنهاء الاحتلال الاميركي، وكذلك نصرة القضية الفلسطينية. إذن، الموقف الفرنسي الرسمي، والشعبي في غالبيته، إزاء هاتين القضيتين بالذات يجب أن يحظيا بشكر وبمباركة من جماعات المقاومة العراقية، سواء بشقها البعثي العروبوي، أو بشقها الأصولي الاسلاموي. لكن، الذي حدث هو العكس تماما. إذ قام فصيل من فصائل المقاومة العراقية (الجيش الإسلامي) بمعاقبة فرنسا، عندما خطف الصحفيين الفرنسيين، حورج ماليبرنو من صحيفة لوفيغارو، وزميله كرسيتين شينو، مراسل إذاعة فرنسا الدولية. "الفدية" التي يطالب بها الخاطفون، لقاء إطلاق سراح الصحفيين الفرنسيين هي، أن تعدل السلطات الفرنسية عن قرارها القاضي بمنع ارتداء الحجاب داخل المدارس الرسمية الفرنسية، والمزمع تطبيقه، رسميا، مع بداية الموسم الدراسي الحالي.

قرار منع الحجاب لم يفرضه (وهذا أمر يعرفه الجميع، بما في ذلك الخاطفون) الرئيس جاك شيراك، ولا رئيس وزرائه، ولا رئيس البرلمان، ولا زعيم هذا الحزب السياسي الفرنسي، أو ذاك. القرار، الذي ستطبقه الحكومة في اليوم الثالث من أيلول/ سبتمبر، شرعه البرلمان الفرنسي، أي الشعب الفرنسي بأكمله، عن طريق ممثليه في البرلمان. ولا يهمنا أن نعرف، هنا، فيما إذا كان قرار منع الحجاب صائبا، أو لا. المهم هو، أن قرار منع الحجاب، أجراء أو تصرف أو موقف يتعلق بجوهر فلسفة وتفكير المجتمع الفرنسي بأسره، وهو قرار حظي بموافقة أكثرية الفرنسيين. بالطبع، قد يوجد، وسيوجد دائما بين الفرنسيين، من عارض وسيعارض تطبيق القرار، لكن القوانين في فرنسا، وغيرها من الديمقراطيات الغربية، تشرعها الأكثرية المؤيدة، وتلتزم بتطبيقها الأقلية المعارضة.

بالإضافة لذلك، فأن قرار منع ارتداء الحجاب، مر بمرحلة تخللتها مناقشات مستفيضة، واستعانة بأهل الشأن وأصحاب الاختصاص، بما في ذلك ممثلي الجالية المسلمة في فرنسا. وحتى بعد تبني القرار، رسميا، فان المشرع حرص على صياغته بطريقة مرنة، لا تجعل المسلمين في فرنسا يشعرون وكأنهم وحدهم المستهدفين، دون أتباع الديانات الأخرى. فقد نص القرار على عدم حمل أو ارتداء "أي شارة" "بارزة للعيان"، تشير إلى ديانة حاملها. والقرار يطبق، فقط، داخل المدارس الحكومية. أي أن المسلمين في فرنسا، وغيرهم من أتباع الديانات الأخرى، أحرار في اختيار الزي الذي يرغبون، وممارسة طقوسهم الدينية بالكيفية التي يريدون. وفي واقع الحال، فأن جميع أتباع الديانات في فرنسا، وغيرها من الدول الاوربية، يملكون، بفضل النظام العلماني المطبق، حرية واسعة في ممارسة طقوسهم الدينية، ربما بحرية أكثر بكثير مما لو كانوا في بلدانهم الأصلية. وأعداد المساجد المنتشرة في جميع المدن الفرنسية، دليل واضح على ذلك، مثلما هو دليل واضح، أن يرى المرء نساء مسلمات يتجولن في الأماكن العامة الفرنسية، ويراجعن المؤسسات الحكومية العامة، والخاصة، وهن يرتدين، ليس الحجاب، فحسب، وإنما النقاب، الذي لا تظهر منه إلا العينان. أضف لذلك وجود الكثير من الجمعيات الإسلامية التي تنشط، بصورة رسمية في فرنسا.

ماذا يريد خاطفو الصحفيين الفرنسيين والجماعات الإسلامية التي تدعمهم، أكثر من هذا؟ إنهم يشترطون أن تعلن فرنسا تخليها عن تطبيق قرار منع الحجاب. وهذا شرط ليس تعجيزي، فقط، وإنما هو المستحيل بعينه، وذلك لأسباب كثيرة، منها ما يتعلق بالكرامة الوطنية الفرنسية، ومنها ما يخص الأوضاع، والصراعات بين الكتل السياسية داخل فرنسا.

لنتخيل، ولو للحظة واحدة، الرئيس الفرنسي، جاك شيراك، وهو يعلن من مقره الرئاسي، في قصر الأليزيه، ما يلي: بناءا على الأوامر الصادرة من الجيش الإسلامي في العراق، قررت الحكومة الفرنسية التخلي عن تطبيق قرار منع الحجاب الذي سبق وأن شرعه البرلمان الفرنسي.هل هناك فرنسي واحد، مهما كان موقفه السياسي والأيدلوجي، وسواء كان مؤيدا أو معارضا لقرار منع الحجاب، سيوافق على ذلك؟

في الواقع، أن الجواب على هذا السؤال "المتخيل" جاءت، بالفعل، من جميع الطبقة السياسية الفرنسية، وفي المقدمة منها، الخصوم الألداء للنهج السياسي للرئيس شيراك، أي من الحزب الاشتراكي المعارض، الذي أعلن زعيمه، فرانسوا هولند، أن قرار منع الحجاب يتعلق بالقيم الكبرى لفرنسا، ولا يمكن المساومة عليه، بأي حال من الأحوال. أما الجالية المسلمة في فرنسا فقد أعلنت، عن طريق كافة ممثليها، بما في ذلك المعارضين للقرار، رفضها واستهجانها الشديدين، لزج أسمها في قضية داخلية، تخص المسلمين في فرنسا وسلطات البلد الذي يعيشون فيه.

وفي ما يتعلق بالمؤسسات الصحفية التي يعمل لصالحها الصحافيان اللذان تم أختطافهما، فقد كتبت صحيفة لوفيغارو، التي يعمل لديها الصحافي جورج مالبرنو، وعلى صدر صفحتها الأولى، في عددها الصادر يوم الأثنين 30 أب، ما يلي: "تعلن صحيفة لوفيغارو عن غضبها أمام الصور المخزية للصحافيين، مالبرنو وزميله شينو، وهم في الآسر، وتعبر عن حزنها وتضامنها مع عائلتيهما. إن الصحيفة تعلن عن استيائها إزاء وقاحة هولاء المتعصبين، الذين يدعون الحديث بأسم إسلام يدافع عن المحرومين، لكنهم، مع ذلك، يستخدمون أسلحة الطغاة أنفسهم، وهي الحبس والابتزاز. (...) إن الصحافيين الفرنسيين كانا يؤديان واجبهما المهني، المتمثل في نقل الأخبار. وهما ليسا مسؤولين عن صدور قانون منع الحجاب داخل المدارس الفرنسية، والذي شرعه البرلمان الفرنسي. وهما ليسا مسؤولين ، أيضا، عن الحرب التي شنت على العراق، والتي شنها الرئيس الاميركي، وعارضها الرئيس الفرنسي. وما دام الصحافيان الفرنسيان لا يتحملان أي مسؤولية، فهما لم يقترفا أي جرم يذكر، ولا يستحقان، بالتالي، أن يحاكمهما احد، وليس من حق أي احد إدانتهما. ولكن، في حال نفذ الخاطفون تهديدهم، وأعدموهما، فأن الخاطفين وحدهم سيتحملون المسؤولية، وهم الذين سيصبحون المذنبين".

إذن، لا الصحافة الفرنسية، ولا السلطات الحكومية، ولا القوى السياسية الفرنسية، ولا الرأي العام، ولا أبناء الجالية المسلمة في فرنسا، أبدوا أي نوع من المرونة، أو التساهل، إزاء عملية الخطف فماذا يريد الخاطفون، غير أن يضيفوا أعدادا جديدة، إلى خانة أولائك الذين يكنون الكراهية للعرب وللمسلمين، في فرنسا وغيرها؟

أليس من حق أولائك الذين لاموا فرنسا، على مواقفها المعارضة للحرب الاميركية في العراق، وتعاطفها مع الفلسطينيين، أن يتهللوا فرحا وشماتة، وهم يشاهدون كيف يقطع "المدافعون عن القضايا المصيرية للعرب وللمسلمين"، الأيدي التي تمتد لنصرة هذه القضايا؟ وهل ظلت، بعد حجز الرهينيتن الفرنسيتين والتهديد بقطع رأسيهما، بقية من "منطق"، تسير الجماعات الإسلامية المتطرفة، على هداه، غير "منطق" الانتحار العبثي، الذي يبحث عن الأعداء بأي ثمن، ويرفض الأصدقاء، بأي ثمن، أيضا؟وسواء، أطلق سراح الرهينتين الفرنسيتين (وهذا ما نتوقعه)، أو تم اعدامهما، فإن هذه الأسئلة يجب أن توجه إلى عموم المسلمين والعرب، وقبل أي جهة أخرى، إلى الجالية المسلمة في فرنسا، علها تلجم من اندفاع بعض أبنائها، الذين يورطونها، ويسببون لها إحراجا كبيرا، بدفاعهم المستميت عن تنظيم القاعدة والجماعات الإسلامية المتطرفة الأخرى، بوجه "الكفار الصليبيين"، مثلما دأبوا، في السابق، على رفع صور صدام حسين، باعتباره القائد العربي الذي دمر إسرائيل، وحولها إلى هباء منثور.