غياب التخطيط والمؤسساتية هو العلة


ثمة ما يمكن ان يقال في البداية وقبل الدخول في تفاصيل القضية، ألا وهو : أن كرة القدم لم تعد شأناً رياضياً خالصاً، ولكنها أصبحت ممارسة أكثر شمولية بعد أن اكتسبت أبعاداً جديدة لم يكن لها من قبل. وذلك بعد أن تدخلت هي في السياسة، أو تدخلت السياسة فيها ( ولا فرق )، ولعل القارئ يذكر (دبلوماسية البينج بونج)، حينما أرادت الصين الشيوعية ان تكسر طوق العزلة السياسية والاقتصادية الذي ضربه حولها الغرب الرأسمالي، فأخذت تبعث بفرقها الوطنية في لعبة تنس الطاولة التي يجيدها الصينيون أكثر من غيرهم وقد ترسخ مفهوم دبلوماسية "البينج بونج" منذ دلك الوقت حيث استطاعت هذه السفارات الدبلوماسية المتنقلة أن تنجح في كسر هذا الطوق، الشيء الذي عجز عنه وعن تحقيقه جيش الدبلوماسية الاحترافية بكل خبراءه.
وقد لعبت هذه الفرق الرياضية دور طلائع الدبلوماسية التي مهدت الطريق لتطبيع العلاقات بين بكين وواشنطن، حيث مثلت دور الممهد لزيارة نكسون التاريخية إلى بكين.
ألا أن كرة القدم ذهبت أبعد من جميع المناشط الرياضية الأخرى، إذ لم تكتف بأن تلعب دور " المساعد " لأي نشاط اقتصادي او سياسي آخر بل اكتفت بنفسها، خالقة دوائر اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية ترتبط بها، حتى أصبحت هي الظاهرة العالمية الأكبر والأكثر تفرداً واستقلالاً.
وإلا فأي مشكلة أخرى - غير كرة القدم ومنافساتها – تستطيع ان تخرج إمبراطور اليابان من سياج عزلته التاريخية ليشارك في مهرجان عام؟ وما الذي يجعل رؤساء كبرى ينفضون أيدينهم عن المشاكل والأزمات الداخلية والعالمية التي تشكل للبعض منهم وللبعض من دولهم قضايا مصيرية، سواء تعلقت بوجودها، أو بمصائرها الاقتصادية والسياسية، ليأتي الواحد منهم ليقف إلى جانب فريق كرة القدم الذي يمثل بلده في المونديال؟.


التعامل مع الهزيمة
المسالة إذن أكبر من مجرد احدى عشر لاعباً يتراكضون خلف كرة مطاطية. إذ في جانب منها أصبحت المسألة تتعلق بمكانة الدولة في المجتمع الدولي، وبمعنى ما، فإنها ترتبط بالكرامة والكبرياء الوطني، وسواء وافقت على هذا او رفضته فأن هذا هو الواقع العالمي الآن، وعلينا أن تتعامل معه.
واعتقد ان هذا هو الذي جعل كثير من الذين تناولوا نتائج فريقنا الوطني، المخيبة للآمال بالفعل، ان يبدوا كل هذا الغضب والخنق على اللاعبين الذين يمثلون المملكة، والجهاز الفني والإداري الذي يقف وراءهم، إذ أن الشعور بالمرارة لم يكن بسبب ماصرفت الدولة من خزينتها على هذا الفريق، بل الشعور بالمرارة كان بسبب الجرح النرجسي الذي تسببوا فيه.
كان ثمة إحساس عند الغالبية بأن هؤلاء الشباب وجهازهم الفني قد تعاملوا باستهانة مع هيبة الوطن ومكانته في العالم.
وسواء – أيضاً – صح هذا الشعور والإحساس أو لم يصح – إلا انه كان حقيقياً ومفهوماً ومبرراً، في ظل ما اكتسبته كرة القدم ونتائج منافساتها الخارجية من أهمية في العالم.
إلا أن الشيء المؤسف في هذه المسألة برمتها، كان هو انتقال الهزيمة وامتدادها إلى " الداخل "، وهذا نهج، او رد فعل غير صحي، أو منطقي.
إذ أن الهزيمة في كرة القدم، مثلما الهزيمة في أي مجال آخر يجب أن لا تفقدنا الصواب، وأن ل تجردنا من التعامل الموضوعي والعقلاني مع حقائق ووقائع حياتنا.
وانما يجب أن تكون حافزاً لتصحيح المسار، وإعادة النظر في الممارسة الرياضية عندنا.. ومناسبة نقف فيها مع أنفسنا بكل هدوء وموضوعية وصدق مع النفس لنطرح على أنفسنا الاسئلة بشجاعة : أين نحن في خارطة كرة القدم العالمية؟ في أي نقطة نقف؟ وما الذي كنا نتوقعه من هذه المشاركة؟ وهل خططنا لما نريد تحقيقه من أهداف بشكل علمي وعملي؟ ثم أين الخطأ أو الأخطاء الذي تسببت في هذا الإخفاق عن تحقيق الهدف الذي خططنا له؟ والآن كيف سننطلق مرة أخرى نحو هذه الأهداف؟.
هذه الأسئلة – وأنا هنا أضعها على طاولة صاحب السمو الملكي الأمير عبد المجيد ومن يراهم من معاونين لإنجاز المهمة التي كلف بها وهو بها الأجدر – هذه الأسئلة هي التي تضع أقدامنا على الطريق الصحيح.

أين العقلانية

ولو أمعنا النظر حول الواقع الكروي، أو الرياضي بشكل عام، فإن أول ما سنلحظه هو غياب التخطيط الاستراتيجي طويل المدى، إذ نكتفي بوضع خطط مرحلية آنية، وهذا نمط من التفكير التاكتيكي غير المفيد على المدى البعيد، ونستطيع أن نجد العبرة في التجربة الكويتية، حيث سادت الكويت منطقة الخليج كروياً من قبل منتخب حقق نتائج جيدة وشارك في كأس العالم، ولغياب التخطيط طويل المدى، سرعان ما تراجعت الكويت كروياً في المنطقة.
وبالطبع فإن التخطيط – طويل المدى – سيجعلنا نعيد النظر في كل النظم التي تسير بها الحركة الرياضية في المملكة، ليس بدءً بالنادي الرياضي، بل بما هو قبله، بالاطفال والاشبال، وليس انتهاءً بالمنتخب الوطني، بل وبمواصفات لاعب المنتخب، ولا أعني مواصفاته الفنية فحسب، بل الذهنية والثقافية والاجتماعية.
فالعملية الرياضية وفقاً للتفكير والتخطيط العلمي هي حلقات مترابطة في نسق موحد. إلا أن المفهوم الكروي عندنا يقوم على أساس انفعالي، عاطفي بحت. إذ نكتفي بحب الشعار، شعار النادي الذي نشجعه، ونطالبه بتحقيق النتائج التي نرغب فيها مكتفين بالحب والتعصب وحدهما، وأحياناً نغالي في هذه النظرة الانفعالية العاطفية، لتصبح نظرتنا أو تقييمنا للفريق الذي نشجعه والفريق المنافس لا يقومان على أسس موضوعية، ونسقط موازين القوى بيننا وبين منافسينا، فنخلع على أنفسنا أخطر الألقاب وعظيم الصفات، ونسقط على منافسنا كل صفات الضعف، استهانةً به وتصغيراً لشأنه، لذا تنزل علينا الهزيمة نزول الصاعقة والكارثة.
إذن ما هو المخرج من هذا المأزق؟
ما هي الخطوات الواجب اتباعها في مثل هذه الحالة لترسيخ قاعدة رياضية متينة وقوية؟

الكلمة السحرية
لايختلف اثنان بأن أول خطوة ينبغي اتباعها في الشأن الرياضي، مثلها مثل الخطوة الأولى في أي مجال آخر من مجالات النشاط الانساني مهما كان نوعها، ومستواها، هي التخطيط.
والتخطيط العلمي الدقيق هو الكلمة والمفتاح، الذي يفتح في وجهنا أبواب الإنجاز، ونعني العمل على وضع تخطيط رياضي شامل، يشمل كل المناشط الرياضية بما فيها كرة القدم.
وان يشمل هذا التخطيط كل المستويات الاجتماعية على مستوى المملكة بمدنها وقراها. وأن يبدأ هذا التخطيط بالاهتمام بأندية الحارات والمناطق السكنية، وأن تنوع نشاطات أندية الحارات والمناطق السكنية، لتشمل النشاطات الاجتماعية والثقافية والفنية، فإلى جانب تنمية مواهب الشباب من مراحل الصبا المبكرة، فإن لهذه الأندية قيمة تربوية، أو تلعب دوراً تربوياً مهماً، لأنها تساعد على امتصاص أوقات الفراغ عند الأطفال والشباب فيما يفيد تحت إشراف البلديات أو أمانات المدن. وتستطيع هذه الأندية أن تشبع هوايات الشاب، وتصقل مواهبهم.
ان الاهتمام بعنصر الشباب صغار السن هو المدخل الملائم لإعداد خطة طويلة المدى، ولكثير من الدول تجربة رائدة في هذا المجال، فالفرق الافريقية التي نافست بقوة في المونديالات الأخيرة إنما نافست بلاعبين كانوا يلعبون في فرق الشباب بها، مثل نيجيريا والسنغال وساحل العاج.
لقد ولى زمن اللاعب " الجاهز " وحل محله اللاعب " المعد " منذ الصغر وثمة ميزة في إعداد اللاعب منذ الصغر وهي انك تغرس فيه القيم التي تريد منذ الصغر أثناء صقل موهبته وتنمية مهاراته، وفي هذا مردود تربوي واخلاقي لا يستهان به.

خصخصة الأندية
ثم تتجه النظرة بعد ذلك إلى الأندية الرياضية، هذه الأندية وبالطريقة التي تدار بها لا يمكن ان تساعد على أي نهضة رياضية ترضي الطموح. وصحيح أن من خدموا بها طوال السنوات الماضية قد بذلوا تضحيات كبيرة، سجلت أسماءهم بأحرف من نور في تاريخ الحركة الرياضية في المملكة، فقد بذلوا المال والوقت والجهد، ولا شك ان بعضهم قدم كل هذه الأشياء على حساب نفسه، أو أسرته في بعض الأحيان ولا يمكن ان ينكر دورهم إلا جاحد.
إلا أن تلك مرحلة قد انقضت وحان الوقت الآن لإرسال نظم جديدة لهذه المؤسسات الرياضية، وتلح هنا مرة أخرى، وبعد أن تحدثنا في مقالاتنا السابقة عن أهمية شيوع وسيادة المفاهيم المؤسساتية.
إذ أن هذه الأندية أبعد ما تكون عن المؤسساتية، وأنها أقرب ما تكون إلى الملكيات الخاصة. فالنادي لازال عندنا يعتمد في كل عملياته المالية على مايحود به الأقطاب والممولون المحسنون، ولا أحد يستطيع أن يغالط من يدفع في أن تكون كلمته هي العليا في شؤون النادي، حتى الفنية منها. ولكن لا يستطيع أحد أن ينكر أن لهذا الوضع أيضاً سلبياته ويستطيع أي ملم بالقضايا الرياضية ان يلحظ انعكاسات هذا الوضع على مجمل النشاط الرياضي، ونتائجه، ومستوى منافساته.
وان علاج هذه المشكلة، وهي تكاد تكون رأس البلاء، وأم القضايا، انما يكمن في خصخصة هذه الأندية، لتكون مؤسسات قائمة بذاتها، تعرف كيف تستثمر اقتصادياً نشاطها الكروي، فتحقق اكتفاءً ذاتياً وربحية مغرية، وترتقي بنفسها. وتطور من آلياتها ونظمها بما يضمن أداء مؤسساتيئاً راقياً ومنضبطاً.
وأن خصخصة هذه الأندية ستعمل تلقائياً على تنظيم فوضى الاحتراف في هذه الأندية. إذ ان الاحتراف الذي يمارس اليوم لا علاقة له بمفهوم الاحتراف الكروي المعمول به في العالم كله. كما ينظم فوضى التسجيلات والشطب التي يجهل اللاعب والجهاز الفني والجمهور معاً أسبابها ودوافعها والأسس التي تتم بموجبها.

ضرورة إنشاء وزارة
وثمة ركن ثالث لايقل أهمية، إن لم يتفوق على الركنين السابقين لما له من خطورة بالغة في الحركة الرياضية، ألا وهو الإعلام الرياضي : إذ أن هذا الإعلام يسير الآن بعقلية عاطفية، وان كثير من الذين يكتبون ما يسمى بالنقد الرياضي في صحفنا، انما هم "مشجعون" يكتبون بوحي العاطفة الانفعالية، والانحياز الأعمى اللاموضوعي.
وان هذا الذي يكتبونه – في الغالب – لا يمت إلى النقد الموضوعي بصلة. وعليه فإن تأثيرهم السلبي، أصبح مفضوحاً وهم يواكبون مراحل إعداد المنتخب الوطني لمنافسات المونديال، إذ أخذوا يطلقون الصفات المبالغة بسخاء على اللاعبين، ويجرون اللقاءات مع أمهاتهم وزوجاتهم وأقاموا مهرجاناً، كان تهريجياً بامتياز.
ولم يكن هذا هو الدور المنوط بهم كنقاد وصحفيين، ولكنها العاطفة العمياء الحاسمة، وهو الحب الأعمى الذي يزين كل شيء ويجعل من اللاشيء كل الأشياء، وهو حب مضر في النهاية.
ويستطيع قادة الاعلام العقلاء في هذا البلد ان يقدموا ما يروه من خطط ومعالجات لهذه العقدة الاعلامية المستحكمة.
وأخيراً فإن ما هو مطلوب على مستوى الرياضة في المملكة كبير وكبير جداً، وهو عمل ضخم يتطلب تضافر جهود أكثر من جهة. لأن المسألة لا تتعلق أو تقتصر فقط على الأندية ولاعبيها، وانما تمتد لتشمل القطاع الشبابي كله في المملكة.
والحال اننا ينبغي أن نفكر في إنشاء وزارة للشباب والرياضة يخصص لها وزير في الحكومة، لها ما للوزارات من ميزانيات، ولوزيرها ما للوزراء من صلاحيات، حتى تستطيع هذه الوزارة إعداد تخطيط شامل لكل ما يخص قطاع الشباب في المملكة، وهو – لو تعاملنا مع الأرقام – يشكل القطاع الأكبر والأوسع بين القطاعات السكانية الأخرى.
والشباب هم، في النهاية، عدة المستقبل لهذا الوطن المعطاء.
والله الموفق،،،

أكاديمي وكاتب سعودي
E-mail: [email protected]

انقر على ما يهمك:
عالم الأدب
الفن السابع
المسرح
شعر
قص

ملف قصيدة النثر
مكتبة إيلاف