(طرح الليبراليين وجيه في معظمه، ولكن أرجو ألا يبالغوا فيه وأن يجدولوا المطالبة بحقوق المرأة ويعالجوها على خطوات ومراحل، خاصة وأنها مطالب لا تتعارض مع الشريعة الإسلامية) طلال بن عبد العزيز


يكتسي الحديث عن التيار الليبرالي في السعودية أهمية خاصة في الآن الراهن، لمرحلة التحولات التي تشهدها المملكة بدءا من أحداث سبتمبر 2001م في نيويورك تحديدا، حيث ارتفعت نبرة المطالبة بالإصلاح على الصعيدين الرسمي والنخبوي، لـ (تجفيف منابع الإرهاب) و (تصديا للأطماع الخارجية) و أخيرا الحاجة الماسة لمعالجة المواضيع الداخلية العالقة مثل قضية التحول الديمقراطي، وإصلاح الجهاز التعليمي، ومشاكل المرأة والشباب، وهنا إشارة إلى أن تلك القضايا كانت محل طرح شخصيات ليبرالية قبل سبتمبر، ولكن المطالبة بالحلول بدت أشد إلحاحا بعد اشتعال ظاهرة الإرهاب في السعودية، تجلى ذلك عبر مقالات صحفية ودراسات أكاديمية، أو خطابات رفعت إلى صاحب القرار.
ومع ذلك يبدو غريبا، أن الحديث عن الليبرالية والليبراليين في السعودية، يشوبه إجحاف ثقيل في غير الوسط النخبوي، بل إن ذلك الإجحاف لامس حواف النخبة، حين شن بعض الكتاب هجوما ضاريا على الليبرالية والليبراليين في السعودية تحت نصلين : أولا .. التناقض الصارخ بينها وبين الإسلام، ثانيا .. انطلاقها من حساسيات شخصية بدلا من عوامل موضوعية منطقية، ولعلنا إذا أردنا أن نضرب مثالا على ما سبق، فمقالة (مواقف من العنف في السعودية) للصحفي السعودي فارس بن حزام في جريدة (الحياة) بتاريخ 24/8/2004م، ومقالة الكاتب صالح الشيحي بعدها بيوم في جريدة (المدينة) بعنوان (وجود تيار ليبرالي .. واسعة قوي).


محاولة متواضعة لفهم الليبرالية
يقول (الشيحي) : (الليبرالية في السعودية شعارات مستوردة، لا يبالي من استوردوها باصطدامها بعقيدة المجتمع)، الكلمات الفارطة، لن نجدها ذات دلالة أو جدوى إذا ما قابلناها بتعريف أكاديمي لليبرالية، نصه : (التحررية الاقتصادية تؤكد على الحرية الفردية وتقوم على المنافسة الحرة، والتحررية السياسية نظام سياسي قائم على أساس قيام الدولة بالوظائف الضرورية في حياة المجتمع، وترك نواحي النشاط الأخرى للحافز الفردي، كما تتميز الدولة التي تتبع هذا النظام بقيامها بوظيفة الحكم – بفتح الحاء والكاف- من مختلف الفئات والمحافظة على النظام) .
ولعلي إذا تجاوزت التعقيد، إلى بساطة السؤال، أكون قد قربت المفهوم أكثر وأكثر :
-هل أنت مؤمن بالحرية الفردية وحق الملكية، وحرية العقيدة والعمل وإبداء الرأي، وإلزامية التعليم، والمساواة في المثول أمام القانون وفي الحقوق والواجبات بين المواطنين؟
-هل أنت مؤمن بأن الإنسان شقيق لأخيه الإنسان – ضربا بأي تصنيف عنصري عرض الحائط – في ظل حق الاختلاف ومعيارية الأخلاق وعدم الإضرار بالغير أو الآخر، تحت مجتمع يظل رعاياه بمبدأ (المواطنة)، وينظمه حاكم جاء بالاختيار الحر، تتم مراقبته ومحاسبته في الفترة التي يحكم فيها، حتى لا تصبح السلطة حكرا على أحد، أو تمثيلا لمصلحة شريحة بعينها؟
-هل أنت مؤمن بالدور الرئيسي لمؤسسات المجتمع المدني، واقتصاد السوق الحر المفتوح، على أساس أن المصلحة الفردية يرتبط تحقيقها بتحقيق المصلحة العامة، توازيا مع انفتاح اجتماعي معناه، أن الثقافة المحلية الخاصة جزء من ثقافة عالمية عامة، رابطهما التحاور والتفاعل والتلاقح؟
إذا كانت الإجابة هي (نعم) على الأسئلة السابقة، فهذا هو تعريف الليبرالية ومعناها، والظن (الفاسد) بأنها تتصادم مع عقيدة المجتمع، لا يبرره إلا عدم فهم الحرية/ التحررية أو الاعتقاد بأن (الليبرالية) دين وضعي ينافس الأديان السماوية، ونظرا لأن المقدمات الخاطئة ستقود حتما إلى نتائج وخيمة لزم التنويه، إلى علاقة سوء فهم تربط الذهنية العربية بمصطلح (الحرية)، ولعل هذا يتجلى في الجمل التالية التي نسمعها كثيرا : (نحن لا ندعو إلى حرية منفلتة) ، (هناك نوعان : حرية مقيدة وحرية مطلقة)، ( الحرية التي نقصدها هي الحرية الواعية والمسؤولة والمنضبطة والمقننة ... إلخ) ، هناك تلازم بين مصطلح (الحرية) ومعنى (الانفلات) و(التسيب) و(الفوضى)، لذا نجد أن (الحرية) في ثقافتنا العربية كلمة مثيرة للريبة والشك، إلا إذا أتبعت بالتقنين أو التقييد أو الانضباط، وهنا انزلاق في مأزق ثقافي ولغوي آخر: كيف نجمع بين (الحرية) و(القيد) وهما لا يجتمعان؟
المقصود بمبدأ (الحرية) الذي هو صلب الفكر الليبرالي، ليس ترجمة freedom بالإنجليزية، بل liberty التي تعني (التحررية)، ولعلي إذا أعطيت نفسي حق التبسيط، فأشرحها بأنها (الاختيار الحر ومسؤوليته)، لو حللنا هذا الشرح لعناصره الأولية فينتهي إلى : ( اختيار، حرية، مسؤولية)، وهنا نتساءل، أين التناقض بين ما سبق وعقيدة المجتمع:
-حرية الاختيار : (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)، إن التكريم الذي ناله (العقل) في الآية السابقة يصل إلى درجته القصوى، حيث له حق اختيار الصيغة الذي تربطه بالذات الإلهية، طريق الإيمان بوجود الله وتبعات ذلك، أو طريق الكفر بخالق الكون وتبعات ذلك أيضا، وهي أعلى مراتب الاختيار التي يهون ويتصاغر عندها أي مستوى أدنى، وقد نال الإنسان في كل ذلك حق القرار الحر، لا لسبب سوى (العقل) .
-المسؤولية : (لا ضرر ولا ضرار) و(إنما الأعمال بالنيات) وفقا للحديث الشريف، أو (تنتهي حريتي عند بدء حرية الآخرين) وفقا للقول الشائع، هناك حسم واضح في تقييم الأفعال الإنسانية، عدم الإضرار بالغير أو الآخر والانطلاق من النية الحسنة الصادقة، إن الاختلاف أوالاتفاق مع المعيارين السابقين، هو المحدد لشكل المسؤولية ومعناها و تبعاتها الناجمة عن الاختيار الحر أو حرية الاختيار، وما دامت الخيارات مفتوحة ومتاحة وليست مغلقة، فإن (الحرية والمسؤولية والاختيار) ستخلق التعددية المرجوة المعبرة عن طبيعة الكون والبشر (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم) .
ولعل استنادي إلى النص، في هذا السياق، سيفتح الباب لنصوص أخرى مضادة معززة بثقافة راسخة، وهنا لا يتحقق القصد، لقد قصدت ذلك الاستناد من باب الإشارة وليس الاستدلال، أن شرح (الليبرالية) في المعنى والتطبيق،في حقيقة الأمر يتناغم ويتفاعل مع الثقافات المختلفة، فليبرالي السعودية يختلف عن ليبرالي لبنان، وكلاهما يختلف عن ليبرالي فرنسا الذي لن يتفق مع ليبرالي الولايات المتحدة الأمريكية، وهنا يجدر الاستشهاد بمقولة ذكية لمثقف سعودي شهير ينتمي للتيار الليبرالي : (ليبراليتي وفقا للكتاب والسنة) ، بمعنى أنني أمتلك حق تفسير الليبيرالية وتطبيقها وفقا لمعطياتي الثقافية، وتعني أيضا أن الليبرالية ليست دينا، وليست على صدام معه، بل هي في الأصل ليست في محل مقارنة أمامه.
الدين عبارة عن صياغة لعلاقة بين عبد في الأرض ورب في السماء، وقد ارتضى هذه الصياغة إثرا لبلاغ رسول يحمل كتابا مقدسا يبشر بجنة ويحذر من نار.
الليبرالية ليست سوى (ثقافة فكرية) تبلورت عبر تجارب البشر، في أماكن مختلفة، وأزمان متعاقبة، وحضارات متفاوتة من (دولة المدينة) أولا إلى (القرية الكونية) ليس آخرا، لتشكل رزمة من المفاهيم المترابطة التي لا تنفصل عن بعضها، والتي تؤدي الموافقة على إحداها إلى التماهي مع البقية، سواء من حيث المبدأ أو التطبيق المتدرج .
الدين عبارة عن مفاهيم مطلقة محاكمة لمعايير مطلقة، أما الليبرالية فمفاهيم نسبية تحتكم إلى معايير نسبية، الدين يتحدث عن (مؤمن) و (كافر) على موعد في الآخرة، والليبرالية تتحدث عن إنسان (فقط) له حقوق و واجبات يجب أن يتمتع بها أو يؤديها كونه إنسانا يعيش في هذه الدنيا ، و ما سبق يعني أن المقارنة بين (إسلام) و (ليبرالية) مرفوض لأنه غير معقول، أو ممكن.


أكذوبة تصفية الحسابات
الليبرالية في السعودية، لم تعد تعجب (الشيحي)، و السبب : (بعدما انبرت برعونة عجيبة وشهوة انتقامية – وكأنما انطلقت من قفص – حتى لم تدع شاردة صغيرة كانت أو كبيرة، إلا وأظهرتها على أنها مثلب) . ولعل الفكرة التي يقصدها (الشيحي)، تبدو أكثر وضوحا في التحليل الذي كتبه الصحفي (الليبرالي) فارس بن حزام في مقاله بجريدة (الحياة) حيث زعم أن الليبراليين السعوديين استغلوا حدث 11 سبتمبر وظرف الإرهاب، لتصفية الحسابات مع التيار الإسلاموي أو المحافظ، بشن هجوم غير أخلاقي أو منطقي (وفق رؤية ابن حزام) لمجرد ارتداء تلك المؤسسات للعباءة الدينية، مثل : الجمعيات الخيرية وحلقات تحفيظ القرآن والمراكز الصيفية وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأضيف من طرفي : رئاسة تعليم البنات من قبل.
ولعل رؤية كل من (ابن حزام) و (الشيحي)، تغافلت عن النقاط التالية، أن الليبراليين السعوديين موقفهم ثابت من المؤسسات المذكورة، إما لعدم موافقة إحداها مع الليبرالية التي ترفض الوصاية، أو لاستغلال بعضها الآخر من قبل قلة في تفريخ الإرهابيين أو تمويل الإرهاب، أو اعتراضا على الإفراط في الاهتمام بها على حساب نشاطات أخرى، والأهم ألا تكتسب تلك المؤسسات قداسة كون القائمين عليها ينتمون للتيار المحافظ، وأخيرا.. معاملة المرأة من منظور (الإنسانية) و (المساواة)، لا من منظور الدونية والعنصرية، والفرق الذي أحدثه حدث سبتمبر أو ظرف الإرهاب، خاص بالهامش الذي يسمح بالتعبير عن الرأي، وليسم ابن حزام ذلك استغلالا ، وليصفه (الشيحي) انتقاما، فالليبراليون ليسوا من الملائكة أو الأنبياء، ولن يستحقوا سوى وصمة (الغباء) في حال أضاعوا أي فرصة لنشر رؤاهم أوبيان مواقفهم، وهذا حق مشروع لهم ولغيرهم، والعجيب أن (الشيحي) قال أن الليبراليين كانوا في (قفص) في مرحلة سابقة، ولكنه لا يوجه أي لوم للتيار الآخر الذي مارس الإقصاء لعقود طويلة، رافعا سلاح (التخوين) تارة أو (التكفير) تارة أخرى (راجع "الحداثة في ميزان الإسلام" لعوض القرني ومؤلفات سفر الحوالي وبحثي سليمان الخراشي عن تركي الحمد ومنصور النقيدان)، وهنا مفارقة : أن يقمع الليبراليون أمر مشروع، في حين أنهم لو عبروا عن أفكارهم وانتقدوا الآخرين، يصبح ذلك انتقاما وحقدا، مع أن الطروحات الليبرالية بعد سبتمبر، هي نتاج مبدأ معلن ومعروف من قبل في ظرف مختلف، مقصده في البداية والنهاية محاربة التطرف بكل أشكاله ومستوياته، وليس استهداف الدين كما يتوهم البعض.


العلاقة بين الليبرالية والإرهاب
بالفعل هناك علاقة بين الليبرالية والإرهاب، فالمجتمع الذي لا تسوده الثقافة الليبرالية، تستعبده الثقافة الأصولية، والمقصود من الأصولية هنا : جعل الإنسان عبدا للفكرة بدلا من أن تكون في خدمته، أي احتقار الإنسان رجلا أو امرأة وتسفيه حقي (الحياة) و (الاختيار)، ومن مظاهرها: تغييب العقل وما يتبع ذلك من جمود شامل وركود عام، وإقصاء الآخر والغير.
تميل المعالجة الليبرالية، عموما إلى إبقاء الوضع القائم شريطة إصلاحه وتطويره وتحديثه، بينما تأتي المعالجة الأصولية (سواء كانت أصولية دينية أو لم تكن) إلى الثورة على الوضع القائم وتغييره، لأنه لا يتفق مع الحقيقة المطلقة التي يحملونها (قارن الوضع المصري في ظل المناخ الليبرالي قبل ثورة يوليو والمناخ الأصولي بعدها)، لذا ليس مستغربا أن تجد في مجتمعنا من يتحدث عن (الوسطية) ولا يدين ابن لادن وفق تصريح سمو الأمير خالد الفيصل قبل شهر بالتقريب، أو تجد من يأتي بعد تفجير غاشم ليدين (الفعل) و لا يدين (الفكر)، وهناك للأسف من لا يدين (فعل الأخوة) اللهم إلا في (الاستعجال).
كلما اقترب المجتمع – أي مجتمع – من الليبرالية، كلما تداول الناس، فعلا لا قولا، مفاهيم (السلام) و(الإخاء)، وكلما ابتعدت المجتمعات عنها كلما ارتفعت نبرة (العنف) و(التعنصر) بداية بالخارج وانتهاءا بالداخل (انظر إلى المجاهدين في أفغانستان والإرهابيين في الرياض).
أعتقد أنه على (الشيحي) أن يكون حزينا في قوله الذي يقصد الأطروحات الليبرالية (ما لدينا لا يعدو كونه أطروحات هزيلة)، ولكن العزاء أن الليبرالية ليست خيارا، بل حاجة ضرورية، لأنها التي تمنح حق الاختيار لارتباطها بالإنسان، التعددية داخل الليبرالية ممكنة ومتاحة ولازمة، أما الاعتراض على الليبرالية، فهو اعتراض على الإنسان لتتلاشى قيمة الخيارات وتنعدم الحرية والمسؤولية.
دعني اضرب مثلا واقعيا، إذا كانت اللليبرالية معادية للدين، أليس من المفترض أن يقوم بوش الابن رئيس الولايات المتحدة (الدولة التي يعد دستورها وثيقة ليبرالية فريدة) بقصف الفاتيكان لما تمثله من ثقل ديني مسيحي، أو قصف فرنسا وألمانيا لرفضهما مبدأ تحرير العراق، أو قصف تركيا لأنها رفضت أن تتيح له استخدام اراضيها عسكريا في الحرب؟ لماذا حرر العراق بالذات من نظامها البعثي ولم يقصف من باب العقاب – على افتراض الإمكانية والقدرة- الدول التي ذكرنا؟ السبب أن تلك الدول اختلفت مع الولايات المتحدة، أما النظام العراقي فكان يمنع حق الاختلاف من الأصل.
وقد ختم (الشيحي) مقاله طالبا التعرف على الليبراليين ومريديهم، وفي مكالمة هاتفية بيني وبينه قال لي حرفا : (إنهم يختبئون خلف عرائض)، ولن أعلق على هذه الجملة - لأنني لا أعرف موقع اختباء (الشيحي) - إنما على ملاحظته التي تلت، أن التيار الإسلاموي أكثر تنظيما، هذا صحيح، ومعالجة هذه النقطة لا تتم بمقال، بل بإرادة . هل صوت الليبراليين في السعودية خافت ؟ هذا صحيح أيضا، ولكنهم بدؤوا في الانطلاق، يعرقلهم سوء فهم المجتمع لترسبات الثقافة التقليدية وضراوة تيارها وعنفه. هل بدأ الليبراليون يحققون مكاسبا؟ نعم، زيادة هامش الحرية وسائل الإعلام، والانتخابات البلدية، والحوار الوطني، وتوسيع آفاق عمل المرأة، كلها مظاهر ليبرالية وليدة تبشر بالخير وتدعو للتفاؤل بمستقبل أفضل، نتصالح فيه مع أنفسنا ومع العالم.