الجوار مع إيران حرة من هيمنة الرهابرة بمنزلة جوار الجنة


لا يسمح العراق الحر من الاستبداد، والمتتوق إلى جيرة هادئة عبر نهايات تمتد مع إيران من السليمانية حتى البصرة، بتبني مثل هذه المادة التحريضية مع ما فيها من نصرة الشعب الأحوازي. لكن صحافة إيران وقنواتها الفضائية مثل "العالم" وتوابعها مثل "المنار"، وكل وسائل اعلامها الرسمية، تصبح وتمسي على التحريض المبطن والمكشوف. وتساهم سلطة إيران المستبدة بنشر أسلحة ثقيلة في الحضرة الحيدرية، وبتحايل على الإعلام المسموع والمرئي يطالب مرشد الدولة بحماية العتبات المقدسة من خطر مزعوم، ويتقدم إلى المساهمة بصيانتها ليضع نفسه ولي أمر المسلمين بالعراق مثلما هو وليهم بإيران.
أكتب هذه الكلمة لا متحدثاً باسم الأحوازيين بقدر ما هي كلمة تذكير لأوجاع قادمة إلى إيران، مثلما توجع أسلحتها وتصريحاتها واطلاعاتها العراق والعراقيين اليوم. فماذا لو تقدمت الحكومة العراقية بتسهيلات للأحوازيين والكرد وأربعة مليون منفي إيراني أو يزيد! تسهيلات أقل من تسهيلاتهم للإرهاب في بلادنا، فما هم قائلون؟ رغم ذلك لن يطبق عيني إيذاء رهابرة إيران وأظن في تلك البلاد الظنون الخاطئة، وأنكر لها فضلاً، أو امتنع من محبة للبشر والبيئة، وشغف بتاريخ، مثلما تحاول الحجج والآيات شطب العراق من الخارطة، وافزاع أمهاتنا وأطفالنا، بتصدير أفاعيهم وعقاربهم إلينا. فالجوار مع إيران حرة من هيمنة الآيديولوجية الشمولية بمنزلة جوار الجنة، فليس أجمل من إيران وليس أضخم حضارة من حضارتها.
يكفي البلاد الإيرانية فخراً أنها أظهرت شخصية تاريخية وروحية مثل زرادشت، ويكفيها جمالاً أنها أخرجت إنساناً استحوذت كلماته على ألباب الغرب والشرق مثل عمر الخيام، ويكفيها علماً أنها محل ولادة الفيلسوف ملا صدر الشيرازي، وربما من هذه البلاد كانت أول امرأة شرقية تحكم وتجيد السياسة وهي بوران بنت كسرى، فخلاف ما ورد في الحديث النبوي برواية ابن أبي بكرة الأعمى"لن يفلح قومٌ ولوا أمرهم امرأة"(سنن الترمذي، الكتب الستة، وابن قتيبة، عيون الأخبار) قال ابن واضح اليعقوبي: "لما قتلت الفرس شهربراز طلبوا رجلاً من أهل الملك، فلم يجدوه، فملكوا بوران بنت كسرى، فأحسنت السيرة، وبسطت العدل والإحسان، وكتبت إلى آفاقها كتاباً تعد فيه بالعدل والإحسان، وتأمرهم بجميل المذهب والقصد والسداد، ووادعت ملك الروم"(تاريخ اليعقوبي، وكذلك تاريخ الطبري)، فعلت الشاهة بوران كل هذا خلال العام والأربعة أشهر فقط، وهي مدة سلطانها!
ولولا مساهمة الفرس والشعوب الإيرانية الأخرى ما كان في الحضارة الإسلامية مدارس فنون وإبداع مذاهب ومشارب فكرية، ونريد أو ما نريد غلب عدد مفكريهم وفقهائهم بالعربية ومفسريهم ورواة الحديث على العرب، ولولاها وذوق أهلها الراقي ما اهتدينا إلى رائحة الورد الجوري، وأصله من حدائق منطقة جور. لكن تعاقب الأزمنة والدول على تلك البلاد، بين فاتح ومستظل تحت مظلة الدين والمذهب أفسد الروح الذي ولد العظائم، وسفه الدين وجار باسمه وباسم الديمقراطية. فأعاد بخراسان إلى ناسجة ومصدرة للرايات السود، يخفق بها جيب بلبنان، وموكب بمكة، وعصابات ببغداد والنجف. لكن حكام أو آيات إيران يجدون بتصدير الأكفان والمتفجرات ويهملون أو يتهاملون أمراً جليلاً قادماً آجلاً أم عاجلاً، وهو على حد عبارة الإمام علي بن أبي طالب "إن غداً من اليوم قريب".
فالأحواز هنا وحقوق الكرد هناك، ناهيك عن صراع حامي الوطيس بين ذكورة تمتلك الدين والسلطة وبين أنوثة لن يعطل الحجاب حريتها، بين شباب ومشايخ، بين إصلاحيين ومحافظين، بين خمينيين ومنتظريين، وأول الخارجين عليهم كان حفيد إمامهم ابن أحمد الخميني. انتهى عرس ثورتهم، مثلما انتهى عرس الثورات القومية، حتى بات صراخهم ضد الشيطان الأكبر لا يهز ضمير مصل أوناسك.
إن بلاداً مثل بلاد إيران غنية التاريخ والجغرافيا تشرأب إلى نظام سياسي يرقى بها إلى منافسة يونان ورومان في عصرهما الفلسفي والسياسي الغابر، يوم كان الجنوب ساساني والشمال روماني أو يوناني. لا أن تهيمن عليها جماعة ترحلها من أزمة إلى أخرى، وترحل بها من أزمنة إلى أخرى أكثر تخلفاً، ولا همَّ لها غير الدجل السياسي، والجمع بين الدين والعنف، وتسفيه أحلام الناس بالجنة الموعودة، وبفضلهم أخذ الإيرانيون يشيرون إلى أصحاب العمائم بآباء بريص أو موملك. وبلاد الأحواز واحدة من شدائد إيران الحالية وربما هي نواة خلاص كل الإيرانيين، فشعب عدته الأربعة ملايين نسمة، لا أظن يصبر أكثر مما صبر.
من عجائب بلاد الأحواز، كثرة أسمائها، فهي، حسب الحموي في "معجم البلدان": الأهواز، والأحواز، والأخواز، وخوزستان، وهرمزشهر، أوهرمزدشهر، وهو مركب من اسم الله واسم الملك الذي شيد مدينتها. أما عصرنا فأضاف إلى أسمائها: المحمرة، الحويزة، عربستان، وسبحان مَنْ له كثرة الأسماء! قال ياقوت الحموي في تبدل اسمها: هي الأحواز لكن الاستعمال الفارسي للاسم حولها إلى الأهواز "لأن ليس في كلام الفرس حاء مهملة، وإذا تكلموا بكلمة فيها حاء قلبوها هاءً فقالوا في حسن هسن، وفي محمد مهمد، ثم تلقفها منهم العرب فقلبت بحكم الكثرة في الاستعمال، وعلى هذا يكون الأهواز اسماً عربياً، سُمي به في الإسلام"(عجم البلدان).
ووفقاً للجغرافيا والتاريخ أن الأحواز مكان مستقل لا يتبع إيران ولا العراق ولا له دخل في وحدة عربية أو إتحاد، فمساحته وعدد نفوسه وهويته التاريخية والحضارية تؤكد أنه دولة. فإذا كانت قطر التي لصغرها لا تسع ضخامة أميرها لها دولة وفضائيات، تصول وتجول وتوزع الإرهاب والفتن، فلماذا الأحواز ذات المائة والخمسة والتسعين ألف والستمائة كيلو متراً مربعاً، قبل تقليصها من قبل التنظيم الإداري الإيراني، لا تحظى بدولة؟ لقد ميز المؤرخون الأحواز، مثلما ميزوا بلاد فارس والعراق، بمنطقة قائمة بذاتها تتبعها كور: جنديسابور، السوس، نهر تيرى، تستر، رام هرمز ومناذر وغيرها.
تعد الأحواز موضع الحضارة العيلامية، التي ما زال الجدل يدور حولها في أن تكون أصلاً للحضارة السومرية. إلا أن الملك البابلي حامورابي ضم عيلام أو الأحواز إلى مملكته لتكون جزءاً من بابل، وبعد حوالي ألف عام رد ملك عيلامي الغزوة بغزو أرض بابل، وقيل استولى على نصب الإله مردوخ ومسلة شريعة حامورابي، ونقلها إلى أرضه، وظلت هناك حتى عثر عليها المستكشفون الآثاريون لتحفظ في متحف اللوفر بباريس.
وتعرضت الأحواز لما تعرض له العراق وبلدان المنطقة الأخرى من أحداث حتى فتحها أبو موسى الأشعري بعد فشل محاولات المغيرة بن شعبة وعتبة بن غزوان أمام دهقانها البيروان، ليبدأ عصرها الإسلامي السنة 17 من الهجرة، وتربط بإدارة البصرة. ومن بين بيوتها ظهر أبو المغيث الحسين بن منصور الحلاج (قتل 309هـ). ومنها أتت العراق طلائع القرامطة، لتنتشر على يد مكري الثيران حمدان بن الأشعث القرمطي. ومن أسماء قرى الأحواز الحاضرة في التاريخ جبى أو جبا، منها شيوخ المعتزلة مثل أبي علي الجبائي وولده أبي هشام الجبائي.
ما يتعلق في العصور الحديثة، وفي غمرة الصراع بين الدولة العثمانية والصفوية، قسمت الأحواز بموجب معاهدة أرضروم (1821) إلى صفوية وعثمانية، لكن لم تمضِ فترة قصيرة حتى خرق العثمانيون المعاهدة، وبسطوا سيطرتهم على الأحواز كاملة. ثم عادت مقسمة بموجب معاهدة أرضروم الثانية. ومن جانبه اعترف شاه إيران العام 1857 بإمارة أحوازية مستقلة. بعدها حاول الأمير خزعل بن جابر الكعبي، وهو أبرز وأشهر وآخر أمراء الأحواز، الميل إلى بريطانيا من أجل استقلال إمارته عن العثمانيين والصفويين. وقيل تعدت مطامح خزعل إلى عرش العراق، فضمن احتلال بريطانيا للعراق ربط أمر الأحواز بأمر العراق، وسعى إلى عرشه قبل قدوم فيصل بن الحسين. وبعد سنوات من سيطرة رضا خان على الأحواز أُسدل الستار على زعامة المنطقة التاريخية بقتل الشيخ خزعل بمنفاه بطهران 1936.
كان أسوأ الأيام في تاريخ الأحواز الحديث، عصر الشاهات والآيات، يوم اجتياحها من قبل الشاه رضا خان أبريل 1925، ويوم المجزرة التي أقامها أحد عساكر الثورة الإيرانية الأدميرال حاكم الأحواز أحمد مدني في الثلاثين من أيار 1979، أي بعد الثورة بثلاثة أشهر فقط. وقد عُرف هذا اليوم بيوم المجزرة. وبعد ثمانين سنةً من الاحتلال الفارسي ما زالت الأحواز، وهي الغنية بنفطها وأهوارها وثروتها النباتية والحيوانية، تتطلع إلى استقلالها، فقبل أغلب ديار الدنيا اكتشف النفط في أرضها العام 1908، ومنذ القِدم تملكت نافذة بحرية ونهرية ممتازة، تضيق بهيمنة ابن حجة الإسلام والمسلمين هاشمي رفسنجاني، الذي يسمونه بعدي إيران. وثروتها المائية تجري في أنهار وأهوار، من أنهارها: الكارون، الكرخة، الجراحي، ومن أهوارها: العظيم، الحويزة، مزرعة.
بيد أن مطالب الأحواز، أيام رفعة الناصرية والقومية العربية، اقتصرت على المطالب القومية، فأسست حركات عروبية دعمها النظام العراقي السابق بشروطه الحزبية، لكن سرعان ما أغلق مكاتبها جميعاً السنة 1975، حال التوقيع على اتفاقية الجزائر. مع أنه اتخذ شعاراتها ذريعة في حربه على إيران، ثم تنازل عن كل شيء في الاتفاقية المذكورة، ثم عاد متنصلاً منها خلال فترة الحرب ثم عاد إليها بعد غزو الكويت، بعد ثمان سنوات من حرون أمام البوابة الشرقية، وهكذا تفعل الحرابي.
بعد كل هذا وذاك ساير الأحوازيون تغيرات الدنيا، فلم يحصروا همهم في محراب القومية، رغم مناجاتهم الأخيرة (كانون الأول 2003) لعمرو بن موسى بالاعتراض على محاولة قبول إيران عضواً مراقباً في جامعة الدول العربية. فشكلوا تنظيماتهم الوطنية إصرارا على الخلاص من مرشد ولجنة تشخيص مصلحة النظام، ومن أحزابهم: الجبهة العربية لتحرير الأحواز، المجلس الوطني الأحوازي، حركة التحرير الوطني الأحوازية، تأسيس الحركة الديمقراطية الأحوازية، الحزب الوطني العربستاني، حزب التضامن الأحوازي، الحزب التضامن الديمقراطي الأحوازي.
الأحوازيون يطالبون بالاستقلال عن إيران، ويسمونهم بالشوفنيين الفرس، لكنهم لا يفكرون بالعودة إلى العراق، فكيانهم له مواصفات الدولة رغم أنها عراقية الهوى والمعتقد والطباع، ذلك منذ نشر ماني دعوته بالأحواز عبر دست ميسان (العمارة) وأعدم بالمدائن، وكل ما اختص به جنوب العراق من أدب الدارمي والأبوذية إلى وجود الصابئة المندائيين حيث ضفاف نهر الكارون، وعلائقهم مع بيوتات مندائيي العراق، والقسم برأس العباس ابن علي.
قلت لا يخفى الشبه بينهم وبين أهل البصرة خاصة أو الجنوب العراقي عامة، حتى تكاد لا تميز بينهما في اللهجة والطباع والسَحْنة. فقد تعرفت إلى طالب يدرس العلوم، جذبتني إليه لهجته، التي لا يجيدها غير البصريين وأهل الهور، فالجا (الجيم الفارسية) لا تفارق لسانه، قدم نفسه أنه من إيران- إقليم الأحواز. تجنبته في البداية فقد ظننت به ما يظنه الخائفون من شرار أنظمتهم. ألح عليَّ إلى لقاء بمقهى الجامعة، عندها قلت له: لماذا تكذب عليَّ وأنت عراقي؟ قال: أنا أحوازي، واسمع مني هذا الدارمي، وأكل المسموط (للذي لا يعرفه السمك اليابس وعلى عهد الجاحظ كان أهل البصرة يعرفونه بالسمك المشنوق)، فلماذا تهرب مني؟ لا أدري ما حل بالصديق الأحوازي، فقد تركته ببلاد قصية، وهو عليل القلب.
وقبل فترة دعا البيت الأحوازي بلندن إلى أمسية أحياها الفنان فؤاد سالم، لما لهذا الفنان البصري من شعبية وحضور بينهم. قدمه عريف الحفل إلى الجمهور بالفنان الملتزم، وأخذ يكررها كلما سنحت الفرصة، فعرفت أنني بين جماعة صاحبي عليل القلب، فكلمة الملتزم لا تخطر على بال إلا مَنْ ألتزم بقضية فعلاً، وقضيته هي تحرير الأحواز. أخذت أقلب ناظري بين الأحوازيين وأسأل عنه لعلي أجد طريقاً إليه، ومَنْ يدري فما يجتمع بلندن قد لا يجتمع إلا في يوم الحشر!

[email protected]