لنقرأ سوية هذا الخبر الذي نشرته صحيفة "الشرق الأوسط" في 6 أيلول/ سبتمبر، تحت عنوان " الشريط الأكثر مبيعا في العراق": " الأكثر مبيعا في سوق بغداد لشرائط الفيديو والأقراص المدمجة ليس هو فيلما سينمائيا أو أغنية مصورة بل هو مشهد لإعدام مواطن مصري عادي صوره خاطفوه ووزعوه بوصفه رسالة مروعة إلى أي شخص تسول له نفسه بالتعاون مع القوات الاميركية. ويظهر في الشريط الرهينة وقد تملكه الرعب راكعا أمام مسلحين يحملون كلاشنكوف ويعترف بزرعه أجساما الكترونية في المنازل ترشد القنابل التي تلقيها الطائرات الحربية الاميركية. ويجذب احد المسلحين سكينا ويطرح الرهينة أرضا ثم يقطع رقبته ويضعها فوق جسده وسط بركة دماء. ويلاقي الفيلم إقبالا كبيرا من كل أنواع الزبائن الكبار والصغار. ويبدو أن محتجزي الرهائن ينشرون تحذيرات مخيفة لأسواق ومتاجر بغداد. وقال العديد من التجار أن أشخاصا من الفلوجة معقل المسلحين وزعوا هذا القرص المدمج على الباعة الذين يبثونه على شاشات مثبتة في الشوارع ويحمل الفيلم اسم"الجاسوس".
الخاطفون الذين يشير إليهم الخبر، والذين نفذوا حكم الإعدام هم، المسلمون السلفيون أو الأصوليون، أي الذين يفترض أنهم يريدون العودة بالإسلام إلى صفاته الأولى، عندما كانت العقيدة الإسلامية في عهد الرسول وخلفائه الراشدين صافية نقية. و هم قطعوا رأس الرهينة المصري باسم الإسلام ودفاعا عن الإسلام، وسعيا منهم لبناء دولة إسلامية، يحكمها إسلام خال من ما علق به من ضلالات وبدع، كما يدعون. ورغم أن ما تدعيه هذه الجماعات، لا يقبله حتى أكثر الناس كرها للإسلام وأشدهم حقدا عليه، لأن أشد الناس كرها للإسلام يرفض أن يتخيل، حتى ولو للحظة واحدة، نبي الرحمة، جاثيا على ركبتيه ليقطع رأس إنسان، ثم يصور المشهد في فيلم سينمائي، ويدور به على المتاجر، يبيعه للناس. لكن دعونا، مع ذلك، نناقش ما يقولونه.
إن التهمة الموجهة ضد المواطن المصري هي، تهمة "التجسس"، وهي، كما نرى، تهمة سياسية خالصة، وليست تهمة دينية. فالذين أعدموه لم يقولوا إنه مرتد، أو زنديق، أو كافر، وإنما قالوا "جاسوس". و في هذه الحال، يتوجب تقديمه أمام القضاء، سواء أمام محاكم شرعية أو مدنية، ومنحه الفرصة للدفاع عن نفسه.
لكن، لنفترض أن التهمة صحيحة. ألم تكن لدى الخاطفين بعض الاعتبارات التي تدفعهم أن يعفوا عن الرهينة المصري، أو على الأقل أن يكتفوا بقطع يده التي "زرعت الأجسام الاليكترونية"، وتركه حيا ؟ إن لم يكن إكراما لما أعطته مصر الناصرية، من مالها ودماء أبنائها، للعرب وقضاياهم الكبرى، فإكراما لمصر الأزهر الشريف. وإن لم يكن، فإكراما للدم العربي المشترك، الذي يجري في عروق القتيل ومنفذي حكم الإعدام. وإن لم يكن فإكراما لشهادة ان لا اله الا الله، التي لا بد أن الرهينة المصري رددها قبل موته، فهو مسلم، على أي حال.
ثم، إذا كانت الجماعات الإسلامية الأصولية تعاقب خصومها أو أعدائها، من العرب والمسلمين، بهذه الطريقة، فلماذا، إذن، نحتج ضد الجرائم التي اقترفتها قوات الاحتلال الاميركية ضد العرب والمسلمين من سجناء أبي غريب ؟ ولماذا نرفض تلك الممارسات اللاإنسانية التي تمارسها الولايات المتحدة ضد معتقلي سجن غوانتاناما ؟. ستقول الجماعة الإسلامية التي نفذت حكم الإعدام ضد الرهينة المصري، إنها فعلت ذلك لأن تهمة التجسس ثبتت على المواطن المصري. لكن، هذا المنطق ذاته ستطبقه الولايات المتحدة، وستقول أن سجناء أبي غريب، أو معتقلي غوانتاناما، هم أيضا ضبطوا متلبسين بالجرم المشهود، عندما كانوا يقاتلون قواتها.
ونحن نسأل، لو أن إسرائيل، أو الولايات المتحدة، ألقت القبض على مواطن مصري، أو فلسطيني، أو أي مواطن عربي، ثبتت عليه تهمة التجسس، قولا وفعلا، وبطريقة لا تقبل الدحض، وقامت بذبحه بنفس الطريقة، ثم وزعت شريط إعدامه على المتاجر، وعرضته في الشوارع، فماذا سيكون رد العرب والمسلمين ؟ أسأل، ليس إلا.
هذا فيما يخص الرهينة المصري. أما فيما يتعلق بتوزيع شريط الإعدام، وبيعه في أسواق بغداد، للصغار وللكبار، فأنه الكارثة بعينها. تصوروا أن مراهقين عراقيين سيشاهدون الفيلم، في هذه الأجواء المشحونة بالعنف التي يعيشها بلدهم، فماذا نتوقع منهم أن يصبحوا ؟
قبل عام قتل مراهق فرنسي زميلته ذبحا بالسكين، ولما سأله المحققون: لماذا فعل ذلك، أجابهم انه أشترى أحد أفلام الرعب، وظل يشاهده مرات عديدة، وأرتكب عملية الذبح، بوحي من مشاهد الفيلم.
و في الدول الغربية ) وهي دول بمقدور موزعو فيلم الرهينة المصري أن ينسبوا إليها ألف نقيصة ونقيصة ( تمنع القوانين عرض أفلام رعب، أو أفلام فاضحة، إلا في ساعة متأخرة من الليل، حتى لا يكون بمقدور الصغار والمراهقين مشاهدة هذه الأفلام. فهل من المعقول أن تكون هذه الدول أكثر أكراما للطفولة، وأشد حرصا على الناشئة، من مسلمين يقولون ليلا ونهارا، بفساد هذه الدول وانحطاط مجتمعاتها ؟
إن ما يبغيه موزعو فيلم ذبح الرهينة المصري هو، كما يبدو، إدخال الرعب في قلب من يحاول أن يتجسس عليهم. لكن النتيجة المنطقية ستكون، بدون أي شك، تدريب الأجيال العراقية الواعدة على رؤية الدم، والتلذذ بذبح البشر. والإنسان، خصوصا المراهق، عندما يدمن على رؤية مشاهد ذبح البشر، فإنه لن يتورع، آنا توفرت فرصة أمامه، من سفك الدم، بل أن قتل البشر سيتحول عنده، بمرور الأيام، إلى ما يشبه الطقس الديني، الذي يجد في ممارسته له، ليس متعة وسعادة، فحسب، وإنما واجبا مقدسا.
فهل هذا ما يريده موزعو فيلم الرهينة المصري، لناشئة العراق ؟
وهل يرضى الأشقاء العرب هذا المصير لشباب العراق ؟ هل يقبل أشقائنا في مصر والأردن وتونس واليمن والجزائر وفلسطين وكل البلدان العربية، أن يباع هذا الفيلم في متاجرهم، ويعرض في شوارعهم ؟
وما هي مواقف منظمات الدفاع عن حقوق الطفولة، ورجال التربية، وعلماء النفس، ورجال الدين، وجمعيات الدفاع عن حقوق الإنسان، في كل البلدان العربية ؟ هل ستقول هذه المنظمات كلمة بشأن هذا الذي يحدث في العراق، أم ستصمت ؟
خوفي أن يردد الأشقاء العرب المعزوفة القديمة إياها: العراقيون أهل شقاق ونفاق وهم عبيد العصا والسيف، فليكن بأسهم بينهم.
لا، عمليات حز رؤوس البشر التي يشهدها العراق هذه الأيام، ليست بضاعة عراقية، إنما مستوردة. فقد عاش الأشقاء المصريون في ربوع العراق مدللين ومكرمين، وتكاثر عددهم خلال السنوات الماضية، حتى وصل إلى مليون نسمة. وقد ) أقول قد ( يكون منهم من ضبط بتهمة التجسس، لكننا لم نسمع أن مصريا قتل ومثل بجثته، وعرض مشهد قتله في شوارع بغداد. وقبل المصريين، عاش الأشقاء الفلسطينيون في العراق منذ سنة تشردهم عام 1948، ومازالوا يعيشون حتى الآن. وقيل أن بضع أنفار منهم ساهموا في قمع الانتفاضة التي نفذها العراقيون ضد صدام حسين عام 1991، لكننا لم نسمع، أيضا، أن فلسطينيا واحدا قطع رأسه العراقيون، ومثلوا بجثته. واستوطن العراق أشقاء سوريون معارضون لحكومة بلدهم، ونشطوا كثيرا لنصرة حكم صدام حسين، لكننا لم نسمع أن عراقيا ذبح واحدا منهم، من الوريد إلى الوريد، وعرض مشهد قتله في الشوارع.
وفي أشد معاركهم السياسية ضراوة، لم يقم أهل الفلوجة أو تكريت أو سامراء أو الموصل أو اللطيفية أو النجف أو أربيل أو البصرة، بجز رؤوس بعضهم البعض الآخر، أو بجز رؤوس الأجانب من غير العراقيين.
هل سمعتم يوما، وفي حياتكم كلها، أن أفراد من عشائر الجبور أو العبيد أو البوعيسى، أو الجميلات أو الجنابيين، أو الدليم، أو العيثاويين أو زوبع أو المشاهدة أو شمر ) نذكر هذه العشائر بالذات، لان قاطعي الرؤوس ينسبون إليها عمليات الذبح ( ، قطعوا رؤوس البشر، وطافوا بها على متاجر العراق، يبيعونها بثمن بخس ؟
هل سمعتم في حياتكم كلها أن مسيحيا عراقيا واحدا قطع أفراد هذه العشائر رأسه، وطافوا به في الأسواق، وقد عاش الكثير من العراقيين المسيحيين سنوات وسنوات، في مدينة الحبانية، الملاصقة للفلوجة، ونشأوا وترعرعوا في كنف هذه العشائر ؟
لو تسنى لكم، وطفتم في ربوع هذه العشائر، قبل أن يحل قاطعو الرؤوس البشرية بين ظهرانيهم، لما شاهدتم غير جز رؤوس الماشية، وهي أعز ما يملكون، يقدمونها فرحين ومستبشرين لضيوفهم.
لو طفتم في ربوع هذه العشائر، قبل أن يحل قاطعو رؤوس البشر في ظهرانيهم، لما سمعتم منهم غير السويحلي والعتابا، وأغنية أثيرة على قلوبهم، يقولون فيها، متباهين بكرمهم الباذخ:
"هلي ما قادوا ذبيحتهم من الصوف/ ولا لبسوا خادمهم من الصوف".
نعم، العراقيون ليسوا ملائكة. والمجتمع العراقي أرتوي من العنف السياسي حتى أصيب بالتخمة، ولكن كرنفالات قطع الرؤوس الجارية هذه الأيام في العراق هي، أمر لم يعرفه العراقيون.
ثم، أما حان الوقت ليضمد العراقيون جراحهم، بعدما استحموا كثيرا داخل حمامات الدم، وينعموا بالطمأنينة، وأن يعيشوا مثل كل البشر، فلماذا يراد لهم أن يتحولوا إلى مصاصي دماء؟
متى يدرك الجميع أن العراقيين إذا تحولوا إلى أكلي لحوم البشر، مثلما يراد لهم، الآن، فإنهم لن ينهشوا لحم احدهم الأخر، فحسب، إنما سيفترسون أشقائهم، أيضا.
أرأيتم حيوانا مفترسا اهتدى بوازع أو رادع ؟ فلا تجعلوا من أشقائكم العراقيين حيوانات مفترسة.
أعينوهم للخروج من كرنفالات قطع الرؤوس، وأنتم قادرون.
نعم، انتم قادرون. يكفي أن تتظاهروا في بلدانكم احتجاجا، فإن لم تستطيعوا، فابعثوا لأطفال العراق لعب مسلية بريئة، تلهيهم عن رؤية الرؤوس المقطوعة، فإن لم تستطيعوا، فكلمة طيبة، فإن لم تستطيعوا فادعوا لهم في صلواتكم، فأن لم تستطيعوا، فاصمتوا. أصمتوا، فالصمت نوع من أنواع الرفض.
التعليقات