قال صديقي نصف العاقل: منذ قرابة تسعين سنة كانت المخابرات البريطانية (MI6) منقسمة على نفسها بين مدرستين في التفكير: مدرسة يقودها مكتب هذه المخابرات في الهند ومدرسة ثانية يقودها مكتب هذه المخابرات في مصر. أما المدرسة الأولى (المخابرات البريطانية في الهند) فكانت ترى ضرورة مساندة عبد العزيز بن سعود الذي كان يوسع رقعة سلطانه في الجزيرة العربية من الشرق إلى الغرب بعد أن إستولى على الرياض في مستهل سنة 1901. وكان أبرز رجال هذه المدرسة جون فيلبي الذي أصبح إسمه بعد ذلك عبد الله فيلبي وهو والد كيم فيلبي الجاسوس البريطاني المشهور الذي كان يعمل من داخل المخابرات البريطانية لصالح الإتحاد السوفيتي. وأما المدرسة الثانية، فكانت ترى ضرورة مساندة الشريف حسين حاكم الحجاز من مكة في مواجهة عبد العزيز بن سعود ليكون هو رأس "مملكة العرب" وليس عبد العزيز. وكان أبرز رجال هذه المدرسة "لورانس" الذي كتبت عنه الكتب وأخرجت عنه الأفـلام السينمائية (Lawrence of Arabia). وبوسع المرء أن يقول اليوم: لو كان النصـر قـد تحقق للشريف حسين وللجانب المساند له لكان الملك عبد الله ملك المملكة الأردنية الهاشمية اليوم هو عاهل مملكة العرب والتي كانت ستضم ما يعرف اليوم بالمملكة العربية السعودية والمملكة الأردنية الهاشمية. لو كان ذلك قد حدث، لما كان للمذهب الوهابيهذا الحضورولكانت الحياة في الجزيرة العربية اليوم مختلفة تماماً. إلا أن حدوث العكس (أي إنتصار عبد العزيز بن سعود) وصيرورته هو على رأس معظم الجزيرة العربية (وأهم بقاعها: نجد والحجاز) فقد كان ذلك مدخل الدعوة الوهابية والتي تستند على فقه بن تيمية (المتشدد إلى أبعد الحدود) للشيوع ليس فقط في جزيرة العربية وإنما (بفضل البترودولار) في سائر أرجاء المعمورة. فالسواد الأعظم من المراكز والمدارس الإسلامية في شتى بقاع العالم قد شيدت خلال الأربعين سنة الماضية بالبترودولار النفطي المتزاوج مع الدعوة الوهابية - لذلك فإن الدارس بتعمق للفقه الإسلامي لا يجد أثراً للمذهب الحنفي أو الشافعي أو المالكي أو فقه الإمامية الشيعي في جل هذه المراكز والمدارس.
فرغ صديقي نصف العاقل من كلامه وسألني: أ فلا يحق لي بعد هذا أن أدعو المخابرات البريطانية لإعلان الحداد على ذكائها الذي ضاع في هذه المسألة فجلب ذلك على الدنيا ما جلب؟!!!
قبل أن ألتقط أنفاسي للتعليق على ما قاله صديقي نصف العاقل بادرني بسؤال بالغ الغرابة:
قال صديقي نصف العاقل: كنت أمس أطالع صحيفة عربية فوجدت في صفحة واحدة منها هذه الأسماء: ضاري (أي من الوحوش الضارية) وحرب وصعب ومتعب ومصعب وعدي (أي تصعب معاداته) ومهند (أي حامل السيف) والجهيمان (أي شديد العبوس والتجهم) كما كان هناك إسم لسيدة هو "العنود" (أي شديدة المعاندة)... وإسترسل صديقي نصف العاقل قائلاً: إن التحليل السوسيولوجي (الإجتماعي) الذي يأخذ في الإعتبار عوامل الجغرافيا السياسية (الجيوبوليتيكا) يستطيع أن يرصد بوضوح الخلفية الثقافية للبيئة التي أنتجت تلك الأسماء... فالقاسم المشترك في تلك الأسماء هو الموقف العنيد والمعادي والمحارب للآخر أو للآخرين. صمت محدثي لثوان مما أتاح لي أن أسأله: أ تعني أن الخلفية الإسلامية هي القاسم المشترك بين تلك الأسماء؟ رد صديقي نصف العاقل بثقة مطلقة: "لا"… فسيرة بن هشام تقول لنا أن نبي الإسلام رفض أن يسمي حفيده الأول بإسم "حرب" وبدل الإسم إلى الحسن. إن التفسير الوحيد لهذه الأسماء هو أنها منتج طبيعي لثقافة وعقل البداوة في صحراء وكثبان رمال الجزيرة العربية حيث الآخر دائماً عدو ينبغي أن يفتك به (فاتك) أو يضرب بضراوة (ضاري) وأن يحارب (حرب) وأن يعامل معاملة صعبة تتعبه (صعب ومصعب ومتعب) وأن نعامله ونحن نحمل السيف (مهند) وأن نتعامل معه بوجه عابس متجهم (الجهيمان) وحتى المرأة في هذا المجتمع تكون رائعة عندما تكون عنيدة (العنود). لا يوجد شيء إسلامي في هذه الأسماء والدليل على ذلك أن المجتمعات المصرية والمغربية والسورية والتونسية واللبنانية خالية تماماً من هذه الأسماء. إنها أوراق شجرة البداوة الثقافية. إن الفلاح المصري لا يعرف إسماً واحداً من تلك الأسماء، ولكنه يعرف إسم "صابر" (أنظر إلى الدلالة) وإذا جاءه إبن بعد طول إنتظار سماه "شحاته" أو "شحته" (لأن الله أعطاه إياه كصدقةٍ) وإذا إختار من مجموعة معينة من الأسماء، إختار (عبد الله) و(عبد اللطيف) و(عبد الحفيظ) و(عبد الغني) وما أرق المعنى.. ونادراً ما يختار (عبد الجبار) لأسباب دفينة في خامة الشخصية المصرية. وكاتب هذه السطور الذي أمضى سنوات عديدة في شمال إفريقيا كما زار سوريا ولبنان مراراً يستطيع أن يجزم بأن ما ذكره آنفاً عن مصر ينطبق على كل هذه المجتمعات التي لا تعرف تلك "السلة الدامية من الأسماء"!!.. وأكتب الآن هذه السطور من منطقة تكاد تكون مصرية/ليبية في آن واحد (ثقافياً) وليس بها أيضاً إسم واحد من تلك الأسماء الناضحة بالتحفز وتسكين "الآخرين" تحت بند الأعداء. في هذه المنطقة (التي أَنا بها الآن) في شمال غرب مصر يكثر إسم (سالم) والدلالة واضحة… فهذا هو المرجو لصاحب الإسم في هذه البيئة الصعبة (جغرافياً). وفي السودان ما أكثر من يحملون إسم (بشير) وهو إسم ينضح بالجمال (فما أجمل الإسم المستقى من البشرى أو البشارة).
وأنهى صديقي حديثه قائلاً: تصورت نفسي أحادث رجلاً من تلك المجتمعات… وتصورته يقول لي: "إسمي فاتك بن ضاري الجهيمي"… ثم تصورت نفسي وأنا أجيبه قائلاً: "أعوذ بالله من فتكك الضاري… وليعينني الله على جهامتك!".
انقر على ما يهمك:
عالم الأدب
الفن السابع
المسرح
شعر
قص
ملف قصيدة النثر
مكتبة إيلاف
التعليقات