في ملابسات الثقافة العراقية

شهد تاريخ العراق الحديث منذ تشكيل الدولة العراقية ولحد الآن الكثير من اللحظات الماساوية، وغابت عنه لحظات الفرح التي كانت نادرة. ولم يشهد العراق فرحا حقيقيا إلا في لحظتين: الأولى كتب عنها الكثيرون، وشهدتُ أصداءها وانا صغير، الا وهي لحظة إنتصار ثورة تموز، والثانية نعيش وهجها لحد الآن، الا وهي سقوط الصنم الأكبر لطاغية العراق صدام حسين ونظامه الدموي الهمجي.

وإذا ما تم غدر اللحظة التاريخية الأولى لأسباب عديدة لا مجال للحديث عنها هنا، فإن الشعب العراقي المضطهد من عماله الى فلاحيه الى طبقاته الفقيرة ، الى موظفيه وشرائحه البسيطة التي على حافة الفقر، الى طبقته الوسطى التي دمرتها الثورة( وربما هنا يمكن التوقف عند أحد الخطاء التاريخية للثورة المجيدة)، والتي تحاول ترتيب نفسها وإعادة رص صفوفها، الى مثقفيه التقدميين، وجموع النساء العراقيات الشجاعات، الى شبيبته وطلابه، لن يسمحوا لأية محاولة لغدر اللحظة الثانية، التاريخية الجبارة، تحت ضغط أي حجة سياسية أو مؤامرة نفعية، أو شعارات ترفع كمصاحف عمر بن العاص، رغم ان مصاحف أبن العاص قد رفعت بمختلف الحجج السياسية التافهة والساذجة والمكشوفة
الأهداف، والمفضوحة النوايا.

المشهد العراقي المعاصر مرتبك، وغامض، وكأنه يسير في طريق مليء بالألغام، فوجود قوات الإحتلال، وبالتحديد وجود الأميركان، يجعل الحديث عن اي قرار عراقي مجرد نكتة سوداء، وربما يمكن القول، أن مجريات الأمور منذ إستلام العراقيين للسلطة، تؤكد بأن الأحزاب العراقية ليست مؤهلة بالكامل لقيادة البلاد بشكل ديموقراطي، وطني، حقيقي. فما ان اعلن الأميركان قرارهم بتسليم واجهة السلطة للعراقيين، حتى سارع هؤلاء للهجوم على المائدة بنهم كشف عن كل ملامحهم الحقيقية، وطبائعهم.

لستُ هنا بصدد الحديث عن السلطة السياسية وأنما أود التوقف عند السلطة الثقافية، فهذه الأخيرة لها هيمنتها الكبيرة لكن غير المنظورة، وإذا ما كانت الأصنام السياسية في العراق قد سقطت بسقوط الصنم الأكبر، فلم يعد هناك مقدس في السياسيبة في العراق، فإن الأصنام الثقافية لا زالت قائمة كالأشباح، تهدد أرواحنا وعقولنا، وتلقي بظلالها على إبداعنا وطرائق تفكيرنا.

لا زال المقدس الثقافي وأصنامه مهيمنة، بل هناك محاولات محمومة، ومنظمة، لتجديد بريقهاالمنطفيء.، كي يواصل الكابوس هيمنته على حياتنا. إحدى الفضائيات العراقية التي إسبشرنا بها خيرا حين إنطلاقتها تحاول محمومة إعادة الحياة في بعض الطواطم الكريهة، والمومياءات المتيبسة، في الثقافة العراقية، وكأننا في معرض تاريخي للمومياءات العراقية.

التجربة التاريخية في الثقافة العالمية، لا زالت تقدم لنا الأدلة عن كيفية بناء الأنسان بعد سقوط الدكتاتوريات، وعن كيفية التعامل مع المثقفيين الذين ساندوا الفاشية وروجوا لها، مهما علا شأنهم الإبداعي، وأمامنا الشاعر الأميركي عزرا باوند مثالا بارزا. فليس هناك من يشك في شاعرية عزرا باوند، اوليس هو الذي صحح، بل وحذف الكثير من ابيات أشهر قصيدة لأشهر شاعر في القرن العشرين، واقصد قصيدة ( الأرض اليباب) للشاعر ت.إس. إليوت.

ورغم إن عزرا باوند لم يكتب قصيدة واحدة في مديح هتلر، ولكونه عمل في إذاعات النازية، ورغم كل عظمته الأدبية وشاعريته الفذة، حكم الأميركان عليه بالسجن المؤبد، ليس إحتكاما لمهبته وشاعريته، وإنما إحتكاما لفعله في مجال الإعلام النازي الذي لا يقل جريمة عن الفعل في المجالات الأخرى.

بين المثقفين والأدباء العراقيين الكثير من المجرمين والقتلة، بالمعنى الفعلي والمجازي، ونحن هنا لا ندعو للإنتقام، فهذه قضية متروكة للقضاء وللمحاكم العراقية النزيهة، لكننا على الأقل ندعو إلى إحترام ذاكرتنا العراقية الجريحة والمدمية والمليئة بالدم ودخان الحروب، وأن لا تثقلوا علينا بإعادة تقديم هؤلاء في وكأنهم آلهة طردهم إبليس من جنته.

الوضع الحقيقي والصحيح أن يحاسب هؤلاء بغض النظر عن مكانتهم الأدبية ومواهبهم، رغم التشكيك بموهبة بعضهم أصلا. فمشكلة الثقافة في العراق، انها ثقافة إعلام، وليس ذنب احد ان تكون الثقافة العراقية ثقافة إعلامية، صحافية، انتجتها صحف الأحزاب اليسارية والقومية، أي أن ثقافتنا الأدبية والفنية في معظمها هي نتاج للفعل السياسي، والإعلامي.

أتحدى أي مثقف عراقي، مهما علا شأنه وإطلاعه، وتشعب إهتماماته أن يعد لنا خمسة من مؤلفات المرجع الأعلى آية اللله السيستاني مثلا، علما ان له عشرات الكتب والمؤلفات، أو أن يعد لنا بعض مؤلفات الشهيد محمد باقر الحكيم، الذي فقده العراق الجديد مبكرا، أو ان يكون بين المثقفين العراقيين، حتى اليساريين منهم، من قرأ كتب الشهيد محمد باقر الصدر في الفلسفة والإقتصاد والتي هي في الأساس سجال فكري واضح الجهد مع الفكر الماركسي الذي هيمن على كل الأفق الفكري في القرن العشرين، ( ولو كان قد تمت تلك القراءة والسجال الفكري معه، لكنا قد بنينا الكثير من الجسور بين الحركة اليسارية العراقية العلمانية والحركة الفكرية الدينية، وتخليصها من الشعار الذي روجت له السلطات: الشيوعية كفر وإلحاد)، كما أتحدى أن يرسم لنا أي مثقف عراقي رسمي بعض ملامح المشهد الفكري في النجف خلال العقود الثلاثة الأخيرة، أو حتى ان يعدد لنا بعض أعلامه وأقطابه. لماذا؟ الجواب بسيط جدا جدا، هو ان الثقافة العراقية والفكر العراقي غير الرسمي، والذي لم يروج لهما إعلاميا صارا مجهولين، بينما يعرف القاصي والداني، بالشاعر الذي كان برامج التلفزيون تقطع من أجل ان يظهر وهو يلقي قصيدته في مديح الطاغية.

وإذا ما ذهبنا أبعد، نجد مصيبة الثقافة في العراق أكبروأكبر، فالثقافة العراقية، ومنذ تأسيس الدولة العراقية هي ثقافة عنصرية، ومتطرفة قوميا، بالمعنى، إن اي أنتولوجيا عن الأدب العراقي، بكل مراحله، لا تضم سوى النتاجات المكتوبة بالعربية، وللكتاب والشعراء العراقيين العرب فقط، فهل صادفتكم أنتولوجيا، أو دراسات، أو بحوث، أو اطاريح جامعية تتحدث عن الأدب العراقي، وتقصد بذلك ما يكتب بالكوردية أو التركمانية أو الأشورية في العراق، الى جانب ما يكتب بالعربية؟

بل وصل الأمر في الثقافة العراقية الى تنكر بعض المثقفين العراقيين الذين يكتبون بالعربية لأصولهم غير العربية، لكنها أصول عراقية حقيقة وقحة، وحينما تثار هذه القضية يأتيك الجواب سريعا: ياأخي لماذا إثارت هذه النعرات القومية، كلنا عراقيون، على طريقة تفسير الآية الكريمة، فمن جهتم غفور رحيم ومن جهة الآخرين شديد العقاب.
الكثير من شعراء جماعة كركوك من التركمان والاشوريين لكنهم يتجنبون إثارة هذا الأمر، رغم إن مشاعرهم الحقيقة تنبض وتتوهج مستمدة هذا الأرث القومي العظيم. وإذا كان مثال جماعة كركوك رخوا لكونهم كتبوا بالعربية، وان نتاجاتهم الإبداعية هي جزء من الفيض الإبداعي العرابي في العراق، فأن هناك شعراء وكتاب يكتبون بلغاتهم القومية غير العربية، ويمكن التوقف عند إبداعاتهم من خلال مجلاتهم ومواقعهم الألكترونية التي إستطاعوا إصدارها في المنافي.

ليس هذا فحسب، فحتى الثقافة العراقية ، الأدبية والفنية، لا زالت أسيرة الرؤى النقدية المرتبطة بالماكنة الإعلامية الآيديولوجية الحزبية، يسارا ويمينا، فلم تأت اللحظة الثقافية العراقية الحقيقية، التي ستنزل الكثير من الأسماء ( العالية) من عليائها، إحتكاما لمنجزها الأبداعي الحقيقي، وليس إحتكاما لعلاقتها بهذا الحزب أو ذاك، عندها فقط سنرى الأصنام الثقافية تتهاوى ، مثلما سقطت الأصنام السياسية بسقوط الصنم الأكبر.

وإذا ما كان الأميركان قد اسقطوا الصنم الأكبر، فهل سننتظر أن يأت من يسقط الأصنام الثقافية العراقية، أم إنها مهمة عراقية، وعراقية جدا؟


انقر على ما يهمك:
عالم الأدب
الفن السابع
المسرح
شعر
قص

ملف قصيدة النثر
مكتبة إيلاف