إذا كان الحبُّ الكلامَ الذي لا يسمع، وبالتالي لا يقال، فهو بالتأكيد ما يدخلُ في أبوابِ الحواسِ: الحواسُ التي تتشعبُ لتحتضنَ انفعالاتِ الإنسانِ وعلاقاتِه في استمراريته على هذهِ الأرض. ينبغي أن نلمسَ ولو بالقليلِ مما تبقى من إنسانيتنا المجتاحة بالخوفِ والقلقِ والآلةِ، أن نؤكدَ أن ما من شيءٍ يبقى سوى هذين الحرفين : الحاء والباء... لنتابعَ بعدئذٍ، مشواراً لا شكَّ أنّهُ مليءٌ بالشوكِ والحفرِ والبرد.

في عيدِ الحبِّ، نحددُ الوقتَ والزمنَ، وبهذا نكونُ من دون أن ندري أو نقصد، نحددُ الإطارَ، وبالتالي نُسقِطُ القيمة الجمالية لما يدعى الحب، لنستغلَ هذا الشعورَ الحميم جداً والخاص جداً والفاضحَ جداً، وندخله في قيمٍ تجاريةٍ، وهدايا مادية، تذبلُ في اليومِ التالي عند الفجر، معلنة نهاية اليوم الخاص بالحب. هذا الكلامُ، على يومِ الحب، يدفعنا بشكلٍ طبيعي للكلامِ على الأعيادِ الأخرى، التي يتوهمُ البعضُ أنّها تزينُ أيامنا الرتيبة والروتينية والمملة في معظمها. وبذلك نكون قد جعلنا هذا الوهمَ هو المعيار الذي نقيسُ به مساحات وجودنا، والوقوف خلفَ خيالاتنا التي ترسمُ قشرتنا الخارجية، ونحن في الداخلِ نرتجفُ من الصقيعِ والقرفِ والأسئلةِ التي نخافُ طرحها، لأننا، ببساطةِ الساذج، نعرفُ أجوبتنا.
سقطَ كلُّ شيءٍ، ولم يبقَ فينا شيءٌ يحجبُ هذا العري الذي يلبسنا، ويحيطُ شرايين قلوبنا البعيدة كلّ البعدِ عمّا يجري حقيقة.
الثوبُ أمسى أغلى من الجسدِ، والوهمُ أمسى بشكله المتقن على يدِ البعض، حقيقة، وها نحن نراقبُ وجوهنا المستعارة، التي تخفي عيوناً متحجرة من كثرةِ الملح.
هل ثمة حلم ينضجُ فينا ؟ هل ثمة حافز يجرّنا خلفه كضبعٍ مسحورٍ نحو كهوفِ العشقِ والولهِ والموتِ حباً ؟ هل ثمة طرق واضحة لرغبةٍ تتفاعلُ فينا ونريدُ بوحِها بصدق !
أسئلةٌ تبدأ ولا تنتهي، وكأنّها تبدأ لتبدأ،
وتضيعُ الإجابة في صمتِ اللامبالاة عند شعوبٍ سقطت وصنعت أشكالَ موتِها المفتعل لتنتصرَ على موتٍ أصبحَ بلوحتِه النهائية أجمل لوناً وأبهى بعداً وأدق تفاصيل.
الحبُّ والموتُ، ما هما سوى بدايات الحركةِ على هذا الترابِ، الذي زرعناه أشجاراً لا تثمرُ إلاّ الجفاف في سلالٍ مكسورةِ الخاطر، وفراغ حروفنا من جملٍ اقتصادية تختصرُ نبضنا بمدى شطارتنا في تكديس الخزائن بالأوراقِ والذهب، والجوع ينهشُ ريقنا الجاف كصحراءٍ لا تنتهي إلاّ لتفتحَ أفقها على صحراءٍ أخرى.
قيل الكثير عن الحبّ، ومن منّا، في قرارته لا يبحثُ عنه أو يختزنه. ومن منّا مجرّد من هذا الإحساس الذي به يأخذ الكون رونقه واشراقاته ولمسته السحرية! لكن لماذا ندلقُ أيامنا بالركضِ وراء جدرانٍ تهشّمُ وجودنا لتضعَ بصمة على نورٍ يبهت وينطفئ رويداً رويداً!
القصةُ تثرثرُ صمتها المائل نحو الرماد. والأبطالُ ينزحون نحو زوايا تشتهي عتمة الصقيع.
نجردُ حسابات عمرنا لنقفَ بعض الوقتِ الى شموعٍ جعلتنا نرى بعمقٍ ما يحيط الروح، وعدا ذلك عتمة مزدانة بصوتِ ابن آوى الذي يضجُّ في أعماقِنا ويخرّب بوصلتنا ليدفعَنا نحو قتلِ الضوء لنركنَ إلى كهوفٍ من الدوران نحو الأشياءِ الراحلة، وما هي بالأصلِ إلاّ راية رفعناها لحربٍ هُزمنا بها.
في عيدِ الحبِّ - على الرغم من قناعتي الشخصية بلا جدواه في عمرٍ من الحقدِ والصراعِ والبقاءِ في التشيؤ - أبوحُ فيه بصمتِ الشاعرِ القابع في بلادٍ تائهةٍ في الحكايات، في شاعرٍ نسيَ القصيدة ليتكلم على الاقتصاد!.
ماذا أقدّمُ لأيامي المكدسة على رفِّ البال؟ وبماذا يمكنني أن أرى يوماً آخرَ من النهار الأصفر الذي يلامسُ خريف الإنسان؟!
لنقل بجرأةِ أبطال الأساطير، والوردة على الفواح نحو اللامكان : الحبُّ هو ما يدعُ دولاب الأرض يدور. هل نتوهمُ ذلك، أم أن ما نرغبُ فيه عكس ما نحمله؟
قال طاغور مرة : آمن بالحبِّ حتى لو حمل لك الألم.
وأقول لطاغور: آمن بالحبِّ لأنّه يحملُ لك الألم.
ماذا يعني أن الحياةَ تتجهُ نحو القضاءِ على الألم، وتبسيط كلّ شيء، والوصول إلى راحةِ الإنسان !! كذبٌ هذا. كيف استطاعوا سجننا
مات الحمار، وعاشت السيارة. من هنا تبدأ معادلات العلماء، ومن هنا بدأت السماء تبكي، وبدأ الإنسان بالانحدار نحو الغوص في الحديد.
نحن نعيش في حضارة الحديد، نعيش ضمن ثقافة جاهزة تقودنا بمفاهيمها التي توحي بالغول الذي التهم قطيع الغنم، وفي النهاية التهم نفسه، لأن الغنم انتهى. هل نحن الغول، أم نحن الغنم ؟ الخيارات ضيقة، والنوافذ مشرّعة على الفراغ.
أقود الأشياء لأقترب من يوم الحب، وكأنه يذكرنا لنستيقظ مما اقترفت أيدينا، ومع ذلك، وعند أفول النهار نقترن بالأشياء ونصبحها.
ما هذا القديس العاشق الذي يهلّ ليوم واحد ثم يغيب ؟‍!
الحقّ، بالتأكيد ليس عليه، بل معه، إنما بشارته كانت لأناسٍٍ عرفوا وذاقوا وذابوا واستمروا في الحب.
ربما هذا الكلام من زمن سحيق، وقد ينظر إليه الآن نظرة الغريب والمضحك والسخيف!!
قدني إليك أيها السحيق، وفي عيدك أيها القديس أتكور في صمتي لأبكي كطفل فقد دهشته الأولى، وجعل أنينه يضجّ في أعماقه، ليتأتىء بحروفه العرجاء والواضحة في آن: أحبكِ.. أحبكِ.. أحبكِ...
على الرغم من كل هذه الحضارة التي تقتلني، وهي تدري.
لعل كلامنا على الحب يقتل الحب، كما قال الشاعر، لكن الصمت الذي نحياه أصبح لا يطاق.
ألملم وجعي، أهرب قليلاً من مدينتي الزائفة، أنسج ما تبقى من لحظات، علّني أعيشها بحب، وأقدمها لك في عيد العشّاق الذي حدوده على اسم قديس كانت شموس أيامه كلها حب، وفي نهار موته، توّجوه عيداً، وكأن في الموت صورة مشوّهة لعمر هذا العاشق الذي ما تعمد ذلك إنما الحضارة شاءت أن تجعله كذلك لتصرّ على العتمة بدلاً من الضوء …..
أقدم لك حبّي، الذي معكِ وبكِ يكون.
وأقول دائماً:
كل عيد وأنت حبيبتي...

لكي أستطيع عبور هذا العمر بقليل من الفرح وبكثير من القهر

شاعر وصحفي من لبنان
[email protected]