إلي متى تنتهك سوريا حقوق الإنسان في الداخل والقانون الدولي في الخارج؟

السيد رئيس الجمهورية العربية السورية د. بشار الأسد
غداة تنصيبك خليفة لوالدك، الرئيس حافظ الأسد، تساءل كاتب هذه السطور في "الحياة" عما إذا كنت قادراً على نقل سوريا من جيل الأيديولوجيا إلى جيل التكنولوجيا في شتي المجالات :من الاقتصاد إلى القيم.
سأقول لك، كعادتي، ما أعتقد أنه الحقيقة. والحقيقة دائماً جارحة، خاصة لأذن الحاكم الشرقي الذي مازال لم يتعود على سماعها. ولا أبالي أن يكلفني ذلك بقية حياتي الموشكة على الانطفاء... فالجهاد كلمة حق تقال في وجه نظام مخابراتي جائر !.
بعد خمس سنوات من حكمك إتضح أن الحرس القديم مازال النواة الصلبة للنظام السوري ومازال يفعل، في ظل حكم جيل التكنولوجيا، ما كان يفعله تحت حكم جيل الأيديولوجيا البعثية. ويتصرف بمنطقها العبثي مع شعب سوريا ولبنان وفلسطين وأيضاً مع الأعراف والقيم والقانون الدولي كما كان يفعل جيل الأديولوجيا في سنوات الرصاص والحرب الباردة ... عندما كانت سطوته تمتد إلى حيث تصل مخابراته ...
بصفتك، نظرياً على الأقل، صاحب القرار، كان عليك أن تحيط نفسك بصناع قرار ذوي اختصاص وكفاءة، بفضلهم –وبفضلهم فقط- تتعود على سماع الأسئلة المحرجة، وأفضل من ذلك، على الإصغاء إلى الأحداث لفهم مداليلها العميقة. هذا الفهم هو الذي كان سيقيك من المزالق والأخطاء القاتلة. لأن صدام لم يفعل، فقد فقد كل شيء: الذرية والحكم.
تخلف صناعة القرار السوري اليوم، التي لا يضاهيها إلا تخلف صناعة القرار العراقي بالأمس، هو جذر الداء. السياسة السورية الداخلية والخارجية هي غالباً محصلة لقرارات ارتجالية وعبثية، وهي كذلك لأن الذي يصنعها شخص وليس مؤسسات، خاصة المؤسسات العلمية كما في الدول المتقدمة، أو تصنعها مؤسسات الحكم الفردي فتفصلها على مقاس رغبات الحاكم، لا على مقاس المصالح العليا للبلد الذي يحكمه، وانطلاقاً من معطيات موضوعية لا من تخييلات وهلاوس. هذا القرار العبثي يأتي دائماً بنتائج مخالفة للغاية المبتغاة منه. مثلاً: قتل الحرس القديم كثيراً من الشخصيات اللبنانية لغاية تأبيد الاحتلال السوري، لكن ذلك لم يزد اللبنانيين إلا كراهية لهذا الاحتلال. قتل هذا الحرس،أكبر الظن الرئيس رفيق الحريري لتخويف اللبنانيين، شعباً ومعارضة، لكن الذي وقع هو العكس تماماً، فقد وحد اغتياله اللبنانيين، مسلمين ومسيحيين،الذين نزلوا إلى الشارع، في انتفاضة سلمية وديمقراطية غير مسبوقة، يطالبون برحيل الاحتلال السوري، وهو، بالنسبة للمسلمين على الأقل، يحدث لأول مرة كانتهاك لمحرم ما كان يرقى إليه الهمس. أما المعارضة، فلم يخفها وحسب بل وأيضاً أعطاها شجاعة جسدية وسياسية نادرة. وهكذا تحول اغتيال الحريري، كما يقول سمير فرنجية،إلى:"فعل مؤسس، فلأول مرة يقرر الناس ليس التعايش، بل العيش معاً". ربما قال التاريخ أن الاحتلال السوري زرع، على الرغم منه، نواة المجتمع اللبناني المنصهر والدولة - الأمة اللبنانية .من يعتمد في سياسته على القرار العبثي هو كمن يرفع حجراً ثقيلاً ليقع في النهاية على قدميه. لن تستطيع السياسة السورية الداخلية والخارجية أن تعيد تعريف نفسها إلا إذا أعادت تعريف طريقة صنع قرارها.
السيد الرئيس
تخلّف صناعة القرار السوري هو المسؤول عن إفلاس السياسة السورية في الداخل والخارج . لو لم يمارس الحرس القديم الطغيان في سوريا وإرهاب الدولة في لبنان لما كان اليوم معزولا في البلدين؛ ولو لم يمارس الحرس القديم القتل ضد النخبة السياسية اللبنانية، من اغتيال كمال حنبلاط إلى اغتيال الحريري، بدلا من البحث عن تسويات معها ، لما عزل نفسه في لبنان حيث بات الناس ، المسلمون قبل المسيحيين، ينظرون إليه كاحتلال بغيض، ولو طبق اتفاق الطائف سنة 1992، بالإنسحاب إلى البقاع ، كما ينص هذا الإتفاق، لكانت لسوريا اليوم أفضل العلاقات السياسية والإقتصادية المستقرة مع لبنان. ولو لم يلعب الحرس القديم ورقة حزب الله الخاسرة في جنوب لبنان ـ لاسترداد الجولان ـ ثم ورقة عملائه في حماس والجهاد الإسلامي الأكثر خسرانا، لكان العلم السوري يرفرف على هضبة الجولان؛ بالمثل، لو لم يكن الحرس القديم أعمى سياسيا لقبل مقترحات كلينتون في قمة جنيف الأمريكية ـ السورية سنة 2000 بالتخلي عن 300 متر من الجولان لاستعادته، لما كنت اليوم لا تسمع إلا عروضا ، أقلها سوء استرداد الجولان بدء من الحدود الدولية لا من حدود حزيران ـ يونيو 1967 ! من يفوت فرصة السلام لا يبقى له إلا الإستسلام . لو أخذت الدرس من سقوط صدام وأغلقت حدود سوريا أمام الأفغان العرب المتدفقين إلى العراق ، لتحويلها إلى أفغانستان أخرى، لما أصدر الكونغرس قانون معاقبة سوريا، ولو لم تفتح حدود سوريا لبقايا مخابرات صدام لقيادة الإرهاب ضد العراق، أو ـ على الأقل ـ لو منحتهم اللجوء السياسي بشرط عدم ممارسة أي نشاط سياسي ضد بلادهم طبق قانون اللجوء السياسي المطبق في البلدان المتمدنة، لكنت اليوم في غنى عن تسليم أخ صدام غير الشقيق ، سبعاوي ، ورفاقه إلى الجيش الأمريكي دون أدنى مقابل فضلا عن احتقار العراقيين ونقمة الصداميين ؛ لو لم تمدد ولاية الجنرال إميل لحود ثلاث سنوات أخرى انتهاكا استفزازيا ـ وغبيا ـ للدستور اللبناني ، ولو لم تضيق الخناق على الرئيس الشهيد رفيق الحريري ، ليخلي رئاسة الحكومة لعمر كرامي، لكنت اليوم في غنى عن هذه المخاطر الجدية بل الكارثية التي يواجهها نظامك ؛ ولو لم يقتل نظامك ـ أو إحدى أجهزته ـ الرئيس رفيق الحريري ، لما وجدت نفسك اليوم معزولا في سوريا، ولبنان، والعالم العربي والعالم وترى كل يوم السيف مسلطا على رقبة نظامك الذي طالما دق الرقاب، والأمم المتحدة، على لسان أمينها العام ، تطالبك بسحب ال14000 عسكري وال5000 شخص من المخابرات قبل نيسان ـ أبريل القادم . كانت القيادات الفلسطينية ـ قبل قيادة أبو مازن ـ لا تفوّت فرصة لتفويت فرصة لاسترداد حقوقها المشروعة. لكن القيادة السورية مازالت، وا أسفاه ، سيدة تفويت الفرص! ماذا أقول؟ بل مازالت تتصرف ـ في غياب القرار المدروس والواقعي ـ تحت تأثير عُصاب الفشل: لا تنتقل من قرار سيء إلا إلى قرار أسوأ!

السيد الرئيس
قلت للرئيس الحريري، مهددا، : "إذا كان شيراك يريد إخراجي فسأكسر لبنان". أولا هذا التهديد الوقح لا يصدر إلا عن قاطع طريق أو عن رئيس لا يستشير إلا نفسه ، أي غير مسؤول عن مصير أمة ! وثانيا ، إذا كنت تعول على حزب الله وأمل ل"تكسير لبنان" فإنك واهم ، لأنهما ، إن استجابا لأوامرك، سيجدان نفسيهما معزولين حتى داخل الطائفة الشيعية فضلا عن باقي الطوائف الأخرى التي أخذت الدرس من ويلات الحرب الأهلية ... "الإنتفاصة السلمية والديمقراطية" هي أعمق تعبير عن الوعي اللبناني لما بعد المذبحة التي دامت ربع قرن : لا جهاد ولا استشهاد بل نضال غير عنيف وهي أيضا إتعاظ بهزيمة الإنتفاضة الفلسطينية المسلحة . تحالفك مع ملالي طهران ، المعزولين داخل إيران حيث أمريكا محبوبة من شباب الجمهورية الإسلامية أكثر بكثير من هذه الجمهورية الإسلامية ، ينطبق عليه المثل القائل :"كغريق مستنجد بغريق"!
على ما يدل هذا العمى السياسي؟ على أن الفراغ الذي تركه غياب القرار السياسي الواقعي ملأته البارانويا الهاذية التي جعلت سادة النظام السوري لا يرون في الداخل والخارج إلا "المتآمرين" الذين يسارعون إلى تصفيتهم ! وهي البارانويا الهاذية ذاتها التي أودت بصدام ونظامه .

السيد الرئيس
في الأزمات ، يتوفر النظام السياسي الجدير بهذا الإسم على إمكانيتين : حلها أو إدارتها. حلها إذا كانت شروط الحل ناضجة . إدارتها إذا كانت تلك الشروط لم تنضج بعد . النظام السوري كان منذ بدايته يدير أزماته بسوء متزايد . أما منذ فشل قمة كلينتون ـ الأسد في جنيف لحل النزاع السوري الإسرائيلي ، فقد غدا عاجزا عن إدارة أزماته التي ازدادت تسارعا وتعقيدا في الداخل والخارج . لماذا ؟ لتخلف صناعة قراره الذي جعل سياسته الداخلية استبدادية عمياء . وسياسته الإقليمية لا تفتقر إلى الواقعية وحسب بل وأيضا هاذية . ترجم النظام السوري أوهام الإديولوجيا البعثية وشعاراتها التوسعية والعنصرية : "أمة واحدة ذات رسالة خالدة" و"لاحدود ولا يهود" بهذيان سوريا الكبرى : "وحدة المسار والمصير" السوري ـ اللبناني و" شعبان [ = سوري ولبناني ] في بلد واحد [ = سوريا الكبرى ] ". لماذا ؟ لأن الحرس القديم عجز عن إقامة الحداد على سوريا الكبرى . سنة 1973، صرح والدك ، حافظ الأسد ، بأنه " لا وجود لفلسطين ، فلسطين هى جنوب سوريا " كما ولا شك يعتقد بأن لبنان هو شمال سوريا. ولأمر مّا رفض، خلافا لدول الجامعة العربية و دول العالم ، الإعتراف بالسلطة الفلسطينية ، وإلى الآن لا توجد مفوضية فلسطينية في دمشق ولا في بيروت المحتلة ! وبالمقابل توجد " سفارة " فلسطينية في باريس ! بالمثل رفض النظام السوري دائما الإعتراف باستقلال لبنان، بإقامة سفارة، سورية في عاصمته! ولست أدري إذا ما كانت سوريا البعثية قد أقامت الآن الحداد على لواء الأسكندرون الذي شاهدت سنة 1966 مظاهرات صاخبة في دمشق تطالب باسترداده! إديولوجيا سوريا الكبرى، مع اعتبارات أخرى لا تقل عنها عبثية، وضعت سوريا الصغرى على قائمة الإرهاب وأغرتها بالخروج على القانون الدولي في العراق، وفلسطين ولبنان بكل العواقب الوخيمة الواقعة والمتوقعة.

السيد الرئيس
الحرس القديم لا يعارض الإنسحاب من لبنان بدوافع أديولوجية بعثية بالية وحسب ، بل وأيضا ـ وخصوصا ـ بدوافع مافيوزية : نهب المال اللبناني العام ، التهريب وتجارة المخدرات ... هذه المصالح الوضيعة هي التي دفعت رئيس المخابرات السورية في لبنان رستم غزالة لإنذار الشهيد رفيق الحريري : " سأخرج مصارينك من بطنك " ... وربما يكون قد مر من القول إلى الفعل ، فقطع الأرزاق من قطع الأعناق كما يقال ... والغريب أنك لم تسلط عليه حتى مجرد عقوبة رمزية كنقله من منصبه كمؤشر على عدم رضاك عن تصرفاته الآثمة !

السيد الرئيس
من المستبعد أن يكون نفض الغبار عن اتفاق الطائف حيلة للإفلات من تطبيق القرار الدولي 1559 . نعرف من تاريخ الدبلوماسية البعثية السرية،- سرية لأن الشجاعة السياسية تعوزها – أنها تتظاهر علناً برفض الانصياع للضغوط الدولية، لكنها تنصاع لها سراً. يخفي النظام السوري تنازلاته للقوى الخارجية حتى لا تطالبه القوى الاجتماعية الداخلية بتنازلات مماثلة. الدبلوماسية السرية، في عصر ثورة الاتصالات التي حولت العالم إلى بيت من زجاج، خطأ قاتل: القوى الحية السورية ستعرف أن نظامها الحديدي تنازل للولايات المتحدة، وستطالبه، كما تفعل الآن، بتنازلات لها هي أيضاً. دبلوماسية التظاهر بـ "الصمود والتصدي"، الذي اسمه العناد العصابي، خطرة أيضاً، لأنها ترسل إلى الرأي العام العالمي – الذي هو اليوم القوة العظمي الثانية التي تضبط شطط وأُحادية السياسة الخارجية الأمريكية – رسالة خاطئة تقول له بأن النظام السوري ُمصر على انتهاك الشرعية الدولية التي يطالب باسمها،يا للمفارقة، إسرائيل بالانسحاب من الجولان!.
نصيحة وزير الخارجية المصري، أحمد أبو الغيث ، لك بالإنسحاب السريع من لبنان تطبيقا للقرار 1559 هي القرار الصحيح . أما التصريحات المتضاربة على نحو كاريكاتوري كتصريح الشرع باستعداد سوريا الإنسحاب من لبنان بعد عامين ... وتصريحك باستعدادها للإنسحاب بعد شهرين إلا إذا ... ! فتعبر عن تخبط سياسي يعبر بدوره عن غياب صناعة القرار الواقعي . صانعوه موجودون في سوريا لكنهم، وا أسفاه ، موجودون في السجون كالنائب المستقل ، رياض سيف ، الذي سجنتَه بالأمس بتهمة التآمر على أمن الدولة لأنه فتح صالونه لمحاضرة ممنوعة عن الديمقراطية ، وهذه "الجريمة" لا توجد إلا في قلة من الديكتاتوريات مثل كوريا الشمالية! ما يميز حكم البعث في العراق بالأمس وفي سوريا اليوم هو تبديد موارد البلاد الإنسانية السياسية رغم حاجتها الحيوية إليها. أنت بلا مستشارين لأنك سجنت مستشاريك وشردتهم أو حكمت عليهم بالصمت! أحطت نفسك بأهل الثقة ـ كما يفعل أي نظام سياسي أصابت منه البارانويا مقتلا فبات يشك حتى في حراسه، والدك، الرئيس حافظ الأسد، قال لدنيس روس: "حتى حارسي يمكن أن يطلق علي النار في أية لحظة " ـ بدلا من إحاطة نفسك بأهل الكفاءة ، أي بمستشارين يقولون لك لاما تريد سماعه بل ما تحتاح إلى سماعه مثلا: إلى متى تظل البارانويا هي مستشار نظامك في الداخل والخارج؟ إلى متى تظل سياسة نظامك الداخلية ستالينية وسياسته الخارجية موروثة عن الحرب الباردة؟ إلى متى يظل نظامك يعامل المعارضة البناءة، أي غير العنيفة، كعدو؟ إلى متى يظل خائفا من إتخاذ قرارات مؤلمة لكن لا مفر منها؟ إلى متى يظل رهينة شعاراته السهلة التي كذبتها وقائع التاريخ منذ 35 عاما؟ إلى متى يظل مصرا على متابعة سياسة لا يملك وسائل تحقيقها؟ إلى متى تظل سوريا عالما آخر، تنتهك المبادىء الأولية لحقوق الإنسان داخل حدودها والمبادىء الأولية للقانون الدولي خارج حدودها؟ وأخيرا إلى متى يتجاهل نظامك واقعا دوليا بات ، بعد الحرب الباردة ، يفقأ العيون وهو ان المواجهة ـ بدل التفاوض ـ هي أفضل وصفة لسقوطه؟

السيد الرئيس
إغتنم فرصة إسقاط الشارع اللبناني سلميا لحكومة كرامي لإعادة اختراع السياسة التي طالما افتقدها النظام السوري؛ أقم على أنقاض ثقافة الإنطواء Autismeالبعثي ثقافة الإنفتاح والحوار مع المعارضة اللبنانية ـ وأيضا السورية ـ ومع المجتمع الدولي لكسر عزلة نظامك الخانقة .

السيد الرئيس
باختصار، الرسالة التي يوجهها لك العالم اليوم هي التالية : إما أن تغيّر سياسة النظام السوري الداخلية والخارجية بتطبيع علاقاتك مع شعبك ومع العالم الذي تعيش فيه بتبني مؤسساته وقيمه وأيضا إكراهاته ، وأما أن يتدخل هذا العالم بجميع الوسائل بما فيها العسكرية ليغير بنفسه هذا النظام السياسي الذي تجاوز جميع الخطوط الحمراء وكسر جميع المحرمات الدولية!
السيد الرئيس
خياراتك ضيقة: إما أن تكون غوربتشيف سوريا وإما أن تكون صدام سوريا.