هذا ردي الشرعي الإسلامي على محاكمة الدكتور أحمد البغدادي.

الواقع أن الحرية المطلقة للرأى مبدأ أرساه الإسلام منذ ظهوره، وطبّقه الرسول (صلى الله عليه وسلم) وبعض الخلفاء الراشدين ثم صودرت هذه الحرية بقوة السيف فى الدولة الأموية ثم جاءت الدولة العباسية بمفهوم ثيوقراطى للحكم، وتشرع ذلك المفهوم بنصوص دينية مصنوعة تعارض القرآن، ولكن تم ربطها بالرسول من خلال الأحاديث، وتحولت الثيوقراطية العباسية إلى واقع ثابت تأكد بالفترة الطويلة التى قضتها الخلافة العباسية فى الحكم وبتدوين التراث الذى يضم أفكار المسلمين ومعتقداتهم، ذلك التراث الذى لا يزال محسوباً على الإسلام حتى الآن، والذى أصبح الإطار التشريعى لدعاة الدولة الدينية الذين يريدون نظاماً سياسياً دينياً على الطريقة العباسية، وهم يحسبون أن ذلك هو الإسلام، ولهم فى ذلك بعض العذر، لأن المؤسسات الدينية التى ينبغى أن تنهض لتجلية حقائق الإسلام قد عجز المسئولون فيها عن تأدية هذا الدور وداروا عجزها باستخدام نفس التراث العباسى فى اتهام المجتهدين بالردة والكفر، وأولئك المسئولون يجدون كل التعضيد من جماعات التطرف إذ يجمعهم إطار تشريعى واحد هو التراث العباسى وهدف واحد هو الدعوة لقيام الدولة الدينية، ثم يجد أولئك المسئولون فى نصوص القانون الحالى ما يحقق هدفهم من السيطرة على أجهزة الإعلام والنشر والحياة الفكرية بحيث يصادرون من خلالها أى فكر بحجة أنه يهاجم الإسلام.
هذا مع أنهم يمثلون بذلك أكبر خطر على مستقبل الوطن حيث يمهدون لقيام دولة دينية لا تعترف باختلاف الرأى وتعتبره خروجاً على الدين يستحق القتل وتفتى بأن للحاكم الدينى أن يقتل ثلث الأمة لإصلاح حال الثلثين.. أى قتل عشرات الملايين ليصفو لهم الجو..!!
إن النضال ضد هذه الأفكار ينبغى أن يبدأ بالمطالبة بالتخلص من تلك القوانين التى تجعل من أولئك المسئولين متحكمين فى الفكر الدينى، وبالعودة إلى حقائق الاسلام التى تؤكد على حرية العقيدة والتعبير عنها بكل الصور.. هذا إذا كنا نهتم بمستقبل بلدنا وأولادنا.. والله المستعان.

جذور حرية الرأى فى عقيدة الإسلام:
حرية الرأى للإنسان هى الأساس فى وجوده فى هذه الدنيا، بل هى الأساس فى خلق الله تعالى للكون وهى الأساس فى فكرة اليوم الآخر. إلى هذا الحد تمتد جذور حرية الرأى فى عقيدة الإسلام، وذلك بالقطع ينهى كل الحجج التى يخترعها أنصار مصادرة الرأى باسم الدين.

ونأتى إلى آيات القرآن الخاصة بذلك الموضوع وبالترتيب.
1- فالله تعالى أبدع هذا الكون بما فيه من كواكب ونجوم ومجرات، وتلك النجوم والمجرات مجرد مصابيح كما وصفها القرآن للسماء الدنيا، فالسماوات السبع تقع فيما وراء الكون الذى نعجز عن مجرد تخليه، والله تعالى يقول ﴿لَخَلْقُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ النّاسِ وَلَـَكِنّ أَكْـثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ (غافر 57).
2- ولكن هذا الكون وتلك السماوات مع عظمتها الهائلة فقد خلقها الله تعالى لهدف واحد هو اختبار ذلك المخلوق المسمى بالإنسان، يقول تعالى ﴿وَهُوَ الّذِي خَلَق السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتّةِ أَيّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَآءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ (هود 7) أذن فخلق السماوات والأرض ليخبرنا الله أينا أحسن عملا.
3- ونتيجة هذا الاختيار وموعده يكون يوم القيامة، حيث يدمر الله تعالى ذلك الكون وتلك السماوات ويأتى بأرض جديدة وسماوات جديدة ويحاسب الناس على أعمالهم فى الدنيا ﴿يَوْمَ تُبَدّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهّارِ﴾ (إبراهيم 48).
4- لذا فالإنسان مأمور أن يتفكر فى الحكمة من خلق السماوات والأرض ﴿وَيَتَفَكّرُونَ فِي خَلْقِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النّارِ﴾ (آل عمران 191). فالله تعالى لم يخلق السماوات والأرض عبثا ﴿وَمَا خَلَقْنَا السّمَآءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ﴾ (الأنبياء 16) بل خلقهما لهدف حق، وجعل لهما أجلاً معيناً يلحقهما التدمير بعده ﴿مَا خَلَقْنَا السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاّ بِالْحَقّ وَأَجَلٍ مّسَمًى وَالّذِينَ كَفَرُواْ عَمّآ أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ﴾ (الأحقاف 3). وكل إنسان له اختباره حين يوجد على هذه الأرض ويعيش فيها فترة عمره المقدرة له سلفاً، وبعد هذه الحياة يموت ويعود إلى البرزخ الذى منه جاء، ومطلوب من الإنسان فى تلك الحياة أن يعرف أن الله أوجده فى هذه الدنيا لاختبار موعده فى الحياة الأخرى ﴿الّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ (الملك 2). وحين يقضى الإنسان حياته غافلاً عن ذلك الهدف من وجوده يفشل فى الاختبار ويكون مصيره إلى النار، ويقول له الله تعالى يذكره بالهدف من وجوده ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ﴾ (المؤمنون 115).
يقول له هذا فى اليوم الآخر بعد أن ينتهى كل شىء!!
5- ويلاحظ أن الله تعالى قد جعل عناصر الاختيار متوازنة وعادلة، فقد خلق الإنسان على الفطرة النقية أى الميزان الحساس الداخلى الذى يميز بين الخير والشر والذى يؤمن بالله وحده، وفى مقابل هذه الفطرة سلط عليه الشيطان للغواية، وأرسل له الرسل وأنزل معهم الكتب السماوية وفى مقابل ذلك زين له الدنيا وغرورها، وفوق ذلك كله خلقه حراً فى أن يطيع وأن يعصى وفى أن يؤمن وأن يكفر وجعل له سريرة يحتفظ فيها بكل أسراره ونوازعه ومشاعره وهواجسه وأفكاره بعيدة عن متناول كل مخلوق سواه لتكون له ذاتيته المستقلة، فإذا أراد أن يكون حراً كان حراً وإذا أراد بمحض اختياره أن يكون عبداً لغيره من البشر ومن الأفكار كان كذلك، المهم أن الاختيار فى يده هو، وعن طريق هذا الاختيار يستعمل الإنسان حريته كما شاء، فإذا تسلط الآخرون عليه بقوانين غير إلهية وصادروا حقه فى الكفر اختار هو فى سريرته أن يكفر بل أن ينكر الفطرة فى داخله، وينكر وجود الله الذى خلقه... إلى هذا الحد خلق الله تعالى الإنسان حر الإرادة إلى درجة أنه تعالى سمح له بأن يصل تفكيره الحر إلى إنكار وجود الخالق تعالى ذاته.
6- وفى مقابل هذه الحرية التى خلق الله الإنسان عليها فى الدنيا فإن يوم الاختبار أو يوم القيامة لا مجال فيه للحرية أو الاختبار، فتلك الحرية الفردية الإنسانية فى التفكير وفى العمل والتصرف تنتهى عند لحظة الاحتضار والموت، وبعدها يتعين على الإنسان أن يواجه مسئوليته عن عمله الدنيوى، ولذلك فإن حديث القرآن عن يوم القيامة يأتى دائماً بصيغة المبنى للمجهول، يقول تعالى مثلاً ﴿وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِـيءَ بِالنّبِيّيْنَ وَالشّهَدَآءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ. وَوُفّيَتْ كُلّ نَفْسٍ مّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ. وَسِيقَ الّذِينَ كَـفَرُوَاْ إِلَىَ جَهَنّمَ زُمَراً.... وَسِيقَ الّذِينَ اتّقَوْاْ رَبّهُمْ إِلَى الّجَنّةِ زُمَراً..﴾ (الزمر 69: 71، 73) فلم يقل جاء النبيون والشهداء، إنما قال ﴿وَجِـيءَ بِالنّبِيّيْنَ وَالشّهَدَآءِ﴾ ولم يقل وذهب الذين كفروا إلى جهنم وإنما قال ﴿وَسِيقَ الّذِينَ كَـفَرُوَاْ إِلَىَ جَهَنّمَ زُمَراً﴾ وهكذا قال ﴿وَسِيقَ الّذِينَ اتّقَوْاْ رَبّهُمْ إِلَى الّجَنّةِ زُمَراً﴾.
إذن كل منا يؤتى به يوم القيامة مقبوضاً عليه ﴿وَجَآءَتْ كُلّ نَفْسٍ مّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ﴾ (ق 21) أو بالتعبير القرآنى ﴿وَإِن كُلّ لّمّا جَمِيعٌ لّدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾، ﴿إِن كَانَتْ إِلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لّدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾ (يس 36،53). وكلمة "محضرون" بضم الميم وسكون الحاء وفتح الضاد، أى يتم إحضارهم حيث تنعدم لديهم حرية الإرادة وإمكانية الهرب.
فالله تعالى أعطانا حرية الإرادة فى الدنيا ليختبرنا، وأنزل الدين الذى أمرنا باتباعه، وأنزل بذلك الدين كتباً سماوية، ولم ينزل معها سيفاً وملائكة تأمر الناس باتباع ذلك الدين، ولم يجعل الجحيم فى الدنيا، بحيث أن من يكفر ويعصى يؤتى به ليلقى فى الجحيم أمام أعين البقية من البشر، ولو فعل ذلك ما كان هناك اختبار أو امتحان، وإنما أنزل الدين مجرداً عن ذلك وترك الحرية لمن يؤمن ولمن يكفر وجعل الامتحان مؤجلاً ليوم سماه "يوم الدين" أو "يوم الحساب" وقال أنه سيأتى فى ذلك اليوم وسيحكم فيه بين الناس بذاته، وحين يأتى الله تعالى يوم الدين وحين تشرق الأرض بنور ربها فقد اتنتهت إلى الأبد حرية البشر فى الإرادة وتعين عليهم أن يواجهوا نتيجة عملهم الذى كان.
7- والله تعالى لم يعط سلطته فى الدنيا لبعض الناس ليعاقبوا باسمه من اختلف معهم فى الرأى، أو من كفر بالله، والذين يدعون لنفسهم هذا الحق المزعوم إنما يفسدون القضية من جذورها ويتقمصون دور الإله حيث لا إله إلا الله، ويتحكمون فيما رغب عن التحكم فيه رب العزة حين ترك العقل الإنسانى حراً بلا قيد، يفكر بلا حدود ويؤمن إذا شاء، ويكفر إذا أراد، ويعلن ذلك بجوارحه كيف أراد. هذه الفئة من البشر علاوة على أنها تزيف دين الله وتغتصب سلطاته التى ادخرها لذاته يوم الدين فإنها أيضاً تعطى الحجة لمن ينكر حساب الآخرة وعذاب النار، وحجتهم أنه إذا كان هناك إرغام على الإيمان، وإذا كان هناك إكراه فى الدين فلا مجال حينئذ لأن يكون هناك حساب وعقاب يوم الدين. بل إنهم يعطون دين الله تعالى وجهاً قبيحاً متشدداً دموياً متحجراً متخلفاً، ويسهمون فى إبعاد أغلبية الناس عنه، وهذا الوجه القبيح لا علاقة له بدين الله تعالى، بل هو وجههم هم، وهو دينهم هم، الذى يناقض دين الله تعالى جملة وتفصيلا.
ولأنهم الأعداء الحقيقيون لدين الله فإن الله تعالى شرع القتال والجهاد ضدهم، وشرع القتال والجهاد لا لإرغام الناس على دخول الإسلام وإنما لتقرير حق الناس فى الإيمان أو فى الكفر وفى رفع وصاية الكهنوت عليهم، والكهنوت هم أولئك الذين يدعون التكلم باسم الله ويتحكمون باسمه فى عقول الناس وأفكارهم. حاربهم الإسلام بالجهاد وتشريع القتال، ولكن أفلح الكهنوت العباسى والشيعى فى قلب المفاهيم وتحريف الإسلام عن مواضعه.
8- والله تعالى أوضح فى أكثر من موضع فى القرآن الكريم بأنه سيحكم بين الناس فى اختلافاتهم الدينية يوم القيامة، ولذا سماه يوم الدين، وكان المشركون يأتون للنبى ليجادلوه عناداً، فأمره ربه بأن يعرض عنهم وأن يعلن لهم تأجيل الحكم إلى يوم الدين، حيث يحكم الله تعالى بينه وبينهم ﴿وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ. اللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ (الحج 68: 69) ويقول تعالى عن حال الكافرين فى عدم الإيمان بالقرآن ﴿وَلاَ يَزَالُ الّذِينَ كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مّنْهُ حَتّىَ تَأْتِيَهُمُ السّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ. الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ﴾ (الحج 55: 56).
وحين انتقل النبى للمدينة وأصبح حاكماً لدولة وقائداً لأمة لم تسمح له نصوص القرآن بإكراه المنافقين على الإيمان والطاعة، بل كانت لهم حرية الرأى مطلقة، وكانوا يتربصون بالمؤمنين فى أوقات الحرب، وتلك خيانة عظمى فى القوانين الوضعية، ولكن الله تعالى جعل العقوبة عليها مؤجلة إلى يوم الدين، حيث سيحكم فيها بين المؤمنين والمنافقين، يقول تعالى ﴿الّذِينَ يَتَرَبّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مّنَ اللّهِ قَالُوَاْ أَلَمْ نَكُنْ مّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوَاْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾ (النساء 141).
إن الدين لله وحده، وقد شاء أن يختبرنا فخلق السماوات والأرض، ثم خلقنا أحراراً نؤمن إذا شئنا ونكفر إذا أردنا، ولم يجعل سلطة للأنبياء وهم صفوة البشر على إكراه أحد على الإيمان، وكل منها ينتهى اختباره بلحظة وفاته، وبعد قيام الساعة سيواجه كل منا مصيره فى يوم اسمه يوم الحساب أو يوم الدين.
حرية الرأى فى نصوص القرآن:

1- يقرر القرآن أن الله تعالى لو شاء لجعل الناس جميعاً أمة واحدة أى خلقهم بلا اختيار فيهم، يولدون مهتدين كالآلات المبرمجة على الطاعة المطلقة، ولكن الله تعالى شاء أن يجعلهم أحراراً مختلفى الرأى، منهم المؤمن ومنهم الكافر، منهم المهتدى ومنهم الضال، وكل منهم حسب اختياره وحسب مشيئته.
يقول تعالى ﴿وَلَوْ شَآءَ اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَىَ﴾ (الأنعام 35) ﴿فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ (الأنعام 149). أى أن مشيئته تعالى لم تتدخل لحمل الناس على الإيمان، ولو شاء لكان الناس جميعاً مؤمنين إذ لا يقف أمام مشيئته أحد، والدليل على عدم تدخلها هو اختلاف الناس وحريتهم فى الإيمان والكفر، وسيظلون مختلفين لأنها مشيئته تعالى التى لا يعوقها شىء، يقول تعالى ﴿وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلاّ مَن رّحِمَ رَبّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ (هود 118: 119). وكل ما هنالك أنه أمام البشر خيارات مختلفة والله تعالى ينزل الكتاب ويبعث الأنبياء لتوضيح الحق من الباطل والعدل من الجور، ويترك للبشر حرية الاختيار بين هذا وذاك، ويقول تعالى ﴿وَعَلَىَ اللّهِ قَصْدُ السّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ (النحل 9).

2- والبشر إذا اختاروا طريق الغواية قد يحاولون أن يجدوا لها سنداً دينياً بتحريف الحق الذى جاء فى الكتب السماوية، ولا تتدخل مشيئة الله فى ذلك الافتراء عليه، بل يسمح بوجوده ليكون المجال مفتوحاً أمام الناس للبحث عن الحق والاختيار بين الصحيح والزائف، ويقول تعالى عن الأحاديث الضالة التى تزيف الدين shy; ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِيّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَآءَ رَبّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ (الأنعام 112). إذن لو شاء الله ما حدث هذا، ولكنه تعالى شاء أن يعطيهم الحرية فى الكذب عليه وعلى رسوله وقال للنبى ﴿وَلَوْ شَآءَ رَبّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾.
والله تعالى يهددهم بالعقاب يوم القيامة وأنه يعلم بمؤامراتهم فى التلاعب بالآيات، ومع أنه يقرر لهم حريتهم فى ذلك إلا أنه يحملهم المسئولية عليها يوم القيامة، يقول تعالى ﴿إِنّ الّذِينَ يُلْحِدُونَ فِيَ آيَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ أَفَمَن يُلْقَىَ فِي النّارِ خَيْرٌ أَم مّن يَأْتِيَ آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ إِنّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ (فصلت 40). قال لهم اعملوا ما شئتم. والخطاب كما يتضح موجه لأولئك الذين يتلاعبون بدين الله.. أى للكهنوت الذى يرتزق ويعيش على أكاذيب ينسبها لله تعالى ورسوله، والمهم أن لهم المشيئة التى كفلها الله فى حربهم له، وعليهم وزرها يوم القيامة، والدليل العملى واضح أمامنا، وهو أنهم يمارسون عملهم حتى الآن.

3- والله تعالى حيث يدعو للحق ويذكر الناس به فإنه يقرر حريتهم فى الاختيار ويسميها "مشيئة" أيضاً، أى يعلى من قدر هذه الحرية.
يقول تعالى فى سورتين فى القرآن ﴿إِنّ هَـَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ اتّخَذَ إِلَىَ رَبّهِ سَبِيلاً﴾ (المزمل 19، الإنسان 29). أى فالهداية أمام الجميع ومن شاء فليهتدى ومن شاء فليكفر. وفى النهاية فكل نفس تهتدى لنفسها وتضل على نفسها ﴿نَذِيراً لّلْبَشَرِ. لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدّمَ أَوْ يَتَأَخّرَ. كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ (المدثر 36: 38).
ويتكرر نفس المعنى فى الاحتكام إلى مشيئة البشر وحريتهم المطلقة فى الإيمان أو الكفر، ومن هذه الآيات ﴿كَلاّ إِنّهُ تَذْكِرَةٌ. فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ﴾ (المدثر 54: 55) ﴿ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقّ فَمَن شَآءَ اتّخَذَ إِلَىَ رَبّهِ مَآباً﴾ (النبأ 39) ﴿إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ لّلْعَالَمِينَ. لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ﴾ (التكوير 27: 28) ﴿كَلاّ إِنّهَا تَذْكِرَةٌ. فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ﴾ (عبس 11: 12).
هل بعد هذا تأكيد على حرية البشر فى الإيمان وحريتهم فى الكفر؟
وحرية الاعتقاد فى الله هى قمة الرأى فى الإسلام. وإذا كان للإنسان فى نصوص القرآن الحرية فى أن يكفر بالله، فإن له بالتالى الحرية فى أن يكفر بالحاكم أو بأى سلطة دينية أو مدنية..

4- ومن هنا ينبع المبدأ الإسلامى ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدّينِ﴾ (البقرة 256). وقد نزل فى سورة مدنية حين كانت للإسلام دولة وقوة. ولكن هذا المبدأ نزل فى مكة من قبل، حين أخذت النبى عليه السلام نوبة حماس فكان يبالغ فى الإلحاح على الناس كى يؤمنوا فقال له تعالى يذكره بمشيئة الرحمن ﴿وَلَوْ شَآءَ رَبّكَ لاَمَنَ مَن فِي الأرْضِ كُلّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النّاسَ حَتّىَ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾ (يونس 99).
وأمره الله تعالى بالإعراض عن الذى يتمسك بعقيدته المشركة، لأن الله تعالى بعثه مجرد نذير يبلغ الرسالة وليس عليهم بمسيطر ﴿فَذَكّرْ إِنّمَآ أَنتَ مُذَكّرٌ. لّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ﴾ وأن الله وحده هو الذى سيحاسبهم يوم القيامة ﴿إِلاّ مَن تَوَلّىَ وَكَفَرَ. فَيْعَذّبُهُ اللّهُ الْعَذَابَ الأكْبَرَ. إِنّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ. ثُمّ إِنّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ﴾ (الغاشية 21: 26).
وتكرر هذا المعنى فى قوله تعالى ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ. وَلَوْ شَآءَ اللّهُ مَآ أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ﴾ (الأنعام 106: 107) وقوله تعالى ﴿إِنّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ﴾ (البقرة 119).

5- ونزل القرآن بأقاويل محددة أمر النبى بأن يقولها وفيها التقرير الكامل لحرية الرأى والعقيدة، فكما أن للنبى حقه فى أن يخلص دينه لله وحده فعليه أن يحترم حق خصومه فى أن يعبدوا غير الله، أمره الله أن يقول هذا ﴿قُلِ اللّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لّهُ دِينِي. فَاعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مّن دُونِهِ﴾ (الزمر 14: 15) أى جعل لهم مشيئة، ونزلت سورة كاملة تقول ﴿قُلْ يَأَيّهَا الْكَافِرُونَ. لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾.. وفى آخرها ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾.
ويأمره الله تعالى بأن يعلن بأن يقول الحق من الله ثم لهم المشيئة الكاملة فى الإيمان أو فى الكفر وعليهم تحمل المسئولية إذا كفروا، فالعذاب ينتظرهم يوم القيامة ﴿وَقُلِ الْحَقّ مِن رّبّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنّا أَعْتَدْنَا لِلظّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوجُوهَ﴾ (الكهف 29). ويقول عن القرآن ﴿قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوَاْ﴾ (الإسراء 107). أى لكم الحرية فى أن تؤمنوا بالقرآن أو لا تؤمنوا به.

الشيخ أحمد صبري منصورأزهري ومصلح ديني مصري ومؤلف عدة كتب منها و " البحث في مصادر التاريخ الديني"، و "شخصية مصر بعد الفتح الاسلامي"، و "التاريخ والمؤرخون"، و "أسس البحث التاريخى"، و "دراسات في الحركة الفكرية في الحضارة الاسلامية"، و "الانبياء في القرآن الكريم، " و "المسلم العاصي :هل يخرج من النار ليدخل الجنة".