تفسر الحسبة وفق الآية القرآنية (كنتم خير امة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله)، لكن الإمام القرطبي (ت 671 هـ) يفسرها في قوله تعالى (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور). أما في السنة النبوية فهو حديث الرسول (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذاك اضعف الإيمان). ويسمى من يمارس الحسبة بـ (المحتسب)، وهما نوعان رسمي أي معين من قبل الدولة كما هو الحال في المملكة السعودية ويطلق عليهم أيضا بـ (الشرطة الدينية). وفسرها الشيخ عبد العزيز المرشد تفسيرا أراد منه التماشي مع العصر بـ (أنها رقابة إدارية تقوم بها الدولة لتحقيق المجتمع الإسلامي). كذلك تشكلت مثل هذه المجموعات في إيران بعد استيلاء رجال الدين على السلطة، ولكن بدأت تفقد قوتها وهيبتها تدريجيا في بلد كان يماشي العصر في إيران الشاه. لكنها تشكلت بصورة معادية تماما للإنسانية في أفغانستان أيام دولة طالبان، فأقفلت دور الملاهي البريئة كدور السينما وحتى مدارس البنات. أما النوع الثاني فهو ما يسمى بـ (المتطوع) وفي أكثر الأحيان يكونون من رجال الأحزاب الدينية، وميليشياتها، كالسودان أيام هيمنة حزب حسن الترابي الإسلامي، وما حصل بعد سقوط النظام الدكتاتوري في العراق، وغياب سلطة الدولة، حيث شكلت بعض الأحزاب والميليشيات الدينية مجاميع منها، وخاصة ما يسمى بالتيار الصدري الذي يقوده مقتدى الصدر، المدعوم بميليشيا عسكرية تم تدريبها في ثلاث معسكرات ومراكز تدريب على الحدود الإيرانية العراقية وأطلق عليها اسم (جيش المهدي). فقد تم تدريب مابين 800 – 1200 شاب عراقي من أنصار الصدر، تدريبات شملت حرب العصابات، وصنع القنابل والمتفجرات، واستخدام الأسلحة الخفيفة، وعمليات الرصد والمراقبة والتجسس في تلك المعسكرات الواقعة في قصر شيرين وعيلام وحميد المحاذية للحدود الجنوبية للعراق. ووزع أكثر من 400 هاتف نقال على أنصار الصدر في كل من الكاظمية ومدينة الثورة والنجف. وأدخلت أجهزة بث تلفزيوني وإذاعي، مع مبالغ وصلت لحد 80 مليون دولار، تم تسليم بعضها في العاصمة النمساوية فيينا.
وقام بكل عمليات التنظيم والتنسيق وتشكيل جيش المهدي المطلوب رقم واحد على قائمة CIA قبل بن لادن (الثعلب) أو (عماد فايز مغنية)، بتعليمات مشددة من قبل احد ستة مقربين من الخامنه ئي مرشد الثورة الإسلامية في إيران، وهو (العقيد قاسم سليماني) قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني (سباه باسداران)، الذي تم تأسيسه في أخريات أيام السيد الخميني بهدف مطاردة الشخصيات والقوى المعارضة داخل إيران وخارجها، لكنه بعد ذلك أصبح مسئولا عن الحرب الغير مباشرة مع أمريكا في العراق وأفغانستان، والبلدان العربية والإسلامية. والعقيد سليماني هو صاحب مقولة (إن النظام الجديد – يقصد النظام العراقي الديمقراطي – يشكل تهديدا حقيقيا للإسلام الثوري المحمدي الخالص وولاية الفقيه).
وقد تم التزواج بين الفكر الشيعي المتطرف الذي يقوده رجال الدين في إيران وبين الفكر السلفي التكفيري رغم مابين الاثنين من خلاف وتناحر يصل لحد التكفير، لكن مصلحة الطرفين اقتضت هذا التزاوج الغريب في هذه الفترة بالذات. وما يقوم به رجال الحسبة أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من رجال مقتدى الصدر هو ميراث مكثف لما قام به رجال دولة طالبان الساقطة، وجماعة التكفير والهجرة والجهاد المصريتين، والتي ورثهما أبي مصعب الزرقاوي الآن في العراق. وبعودة سريعة لما قاله قائد ومؤسس جماعة الجهاد (مصطفى شكري) الذي يرى (إن الإسلام ليس بالتلفظ بالشهادتين، لكنه إقرار وعمل. من هنا كان المسلم الذي يفارق الجماعة كافرا) مستندا على الحديث النبوي (ومن خرج على الجماعة فاضربوه بحد السيف). وهو خطأ وقع فيه مفسرو السلف والجماعات الدينية الإسلامية المتطرفة بتفسيرهم القرآن والسنة تفسيرا نصيا خاطئا. وهو نفس الخطأ القاتل الذي وقع فيه الخوارج زمن الإمام علي في وقعة صفين عند رفع معاوية المصاحف وجعلها حكما بين المتحاربين وفق مقولة (إن الحكم إلا لله)، وأجابهم الإمام عليا (إن القرآن لا ينطق بنفسه، وهو مكتوب ويحتاج إلى من ينطق به)، وفسرها بعد ذلك بـ (إن القرآن حمال أوجه).
وبذلك اختلفت الشعارات المرفوعة بين الحركات الإسلامية كل وفق تفسيره النصي للقرآن والسنة، فهناك فرق جلي بين ما يرفعه نبع هذه كل الحركات الإسلامية المتطرفة وهم الإخوان المسلمون وبين كل الحركات الإسلامية المتطرفة التي خرجت من رحم الإخوان. فشعار الإخوان (واعدوا لهم ما استطعتم من قوة) وهو الاستنهاض والحشد المؤجل.
بينما رفعت الجماعات المتطرفة جميعا شعارا يكاد يكون واحدا وفق منظورهم في الدعوة للإسلام (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله)، مكفرين كل الحكام (الذين لا يحكمون بما انزل الله) حسب رأيهم. ومشكلة الدعاة الجدد من منتسبي الحركات الإسلامية المتطرفة أنهم لم يدركوا بعد سنة التطور البشري، كونهم توقفوا عند السنين الأولى للدعوة الإسلامية وقاسوا كل مناح الحياة وفق ذلك الزمن.والدليل على ذلك ما قاله منظر وزعيم تنظيم الجهاد شكري مصطفى الذي اغتال تنظيمه السادات فيما بعد (فالأمة الإسلامية امة أمية، لا تكتب إلا بقدر الحاجة، تماما كما كانت امة رسول الله، فقد كانت جماعة رسول الله لا تتعلم لمجرد العلم ولا تتعلم للدنيا). وقوله هذا نقيض ما ورد من حديث عن النبي (اطلبوا العلم ولو في الصين)، بينما نزلت أول سورة على النبي بكلمة (اقرأ). وهم يقفون بالضد من الدعوة لمحاربة الأمية لأنها برأيهم (دعوة يهودية لشغل الناس بعلوم الكفر عن تعلم الإسلام). وما قامت به جماعة من التيار الصدري في البصرة ضد طلاب في سفرة ترويحية لا يخرج عن نطاق نظرية (الحفاظ على أمية المجتمع الإسلامي)، وتركه يتخبط في دياجير الظلام، على أن لا يتعدى فهم الناس للدنيا سوى ما يتلقونه من (الدعاة) الذي يدور حول اغتسال الحيض والجنابة، والتفكير بمحاربة العدو القريب ويقصدون بهم الحكومات العربية والإسلامية، تمهيدا لقتال العدو البعيد، أو ما يطلقون عليها دائما بـ (بلاد الكفر).
لكن مشكلة التيار التكفيري ومعتنقي الفكر السلفي الإسلامي إنهم لم يدركوا للآن أن الوصاية على الناس قد انتفت الحاجة إليها بظهور الديمقراطيات الحديثة التي تترك للناس تنظيم أمور حياتهم بأنفسهم بدون وصاية من احد، وضمن قوانين حضارية تعطي لكل ذي حق حقه، وتنظم شؤون المجتمعات الجديدة القائمة على العدل والمساواة.
وليس كما يفكر به البعض منهم عندما يقول مبررا الجرائم التي يقومون بها ببرودة أعصاب، كما وجد ذلك في أوراق عثر عليها محقق مصري هو عصام حسونه الذي أصبح وزيرا للعدل فيما بعد (إن القتل الذي يعتبر جريمة في الأحوال العادية يفقد صفته هذه ويصبح فرضا واجبا على الإنسان إذا استعمل كوسيلة لتأييد دعوة).
وهو نفس التصرف الذي قام به رجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر السعوديون في مكة المكرمة في حادثة حريق مدرسة البنات، عندما تركوا بنات المدرسة وسط لهيب النيران المشتعلة، ولم يسمحوا للمواطنين، الذين أرادوا كسر الباب لإنقاذ الطالبات، وإطفاء الحريق بحجة كون البنات عاريات الرؤوس، والشرع يحرم الإطلاع عليهن وهن عاريات الرؤوس وبدون غطاء، ومنعوا بعد ذلك حتى رجال الإطفاء بنفس الحجة وكون قانون المملكة يمنع الاختلاط، تاركين 835 طالبة و 55 معلمة طعما للنيران ، في مدرسة اقفل الحارس الباب عليهن وخرج لشأن له خوفا عليهن. وكانت النتيجة وفاة 14 طالبة، وجرح 50 أخرى. وهذا التصرف القاتل رسخه نفس التفسير النصي الخاطيء لفهم الدين، إلى جانب فرض الوصاية على الناس من خلال تفاسير جامدة للشريعة أدت بالطالبات إلى التهلكة.
لكن هل يستطيع تيار مثل تيار الصدر الاستمرار في الوجود على غرار رجال الحسبة أو هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسط الرياح الديمقراطية التي هبت على أرض الرافدين واقتلعت أشرس سلطة دكتاتورية عرفتها البشرية في العصر الحديث ؟؟. الجواب حتما لا، وقد كانت تجربة البصرة في التعدي بالضرب على طلبة كلية الهندسة، والهبة الجماهيرية التي تصدت لتصرفاتهم، وأوقعتهم في شر أعمالهم درس لن ينسوه هم ومن يقف من ورائهم.

فيينا - النمسا