إيلاف: مر عامان على سقوط نظام صدام حسين، وجرى كثير من الماء والدم تحت الجسر. يقين ان خليطا من المشاعر انتابك يوم سقوط هذا النظام، ولربما لا تزال هذه المشاعر هي عينها التي تشعر بها حتى اليوم. فما هي هذه المشاعر إزاء هذا الحدث الكبير؟ وهل حصل فيها تغيّر.. سلبيٌّ... إيجابيٌّ؟

***

العفيف الأخضر: ينسب لملك فرنسا هونري الرابع (1553 ـ 1610) أنه قال، مبررا تراجعه عن اعتناق الكلفينية إلى الكاتوليكية لاسترداد باريس: " باريس تستحق قداسا (كاثوليكيا) ". بالمثل تحرير العراق من كابوس صدام يستحق حربا رغم أهوال الحروب بما فيها تلك التي لا بديل لها إلا ترك شعب يرسف في الأغلال. في 5/4/1998 نشرت رسالة مفتوحة إلى صدام حسين في اليومية اللندنية " الحياة " طالبته فيها بالاستقالة: " رغم استحالة إقناع بارانوي عنود وانتحاري [ مثلك ] بالانسحاب من حلبة الصراع حيا فإني مع ذلك أجازف بدعوتك إلى الاستقالة " مبررا دعوتي " كذاتي، منفصل عن مبدأ الواقع، أنت غير مؤهل للعمل السياسي على رأس دولة بمكانة العراق، لأن السياسة فن الممكن لا فن التخييل، وفن التفاوض مع الآخر، لا التفاوض مع النفس كما تفعل أنت، ولأنها أيضا وخصوصا فن قراءة موازين القوة بين الدول والطبقات. وقد برهنت الوقائع منذ 18 عاما على أنك أمي في هذا الفن مما جعلك سيد الرهانات الخاسرة (...) تتجلى ملامح شخصيتك البارانوية الخطرة في أربعة أعراض: الحذر المفرط، تضخم الأنا، خطأ الحكم، والعجز عن التكيف مع الواقع الإقليمي والدولي مما يجعلك غير مؤهل للحكم. لأن الحكم بالنسبة لك مجرد اندفاع إلى التدمير (...) القرارات الانتحارية التي تشكل حصيلة حكمك الكارثية على العراق والشرق الأوسط هي الأكثر تعبيرا عن شخصيتك النفسية البارانوية. وتتجلى البارانوية في أنك مسكون بالثلاثية المرضية: هُذاء العظمة، هُذاء الاضطهاد، هُذاء الانتقام من المضطهِدين الخياليين لك ولرسالتك التي أوكلتها لك الأقدار لإنقاذ الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة من " المؤامرة " الصهيونية (...) انتصاراتك التخييلية تلحق بالعراق أذى كبيرا وتجعلك تدخل التاريخ كأغبى حاكم لا يرفع الحجر إلا ليقع على قدميه ". وحذرته دون جدوى طبعا: " لم تع بعد أنك منذ 2 آب (أغسطس) الذي رقص له طربا جمهورك ومثقفوك العرب الذين يفكرون بتخييلاتهم لا بعقولهم، قد دخلت قفصا لن تخرج منه على الأرجح إلا قتيلا أو خادما مطيعا لواشنطن إذا رضيت بك لتخيف بك دول الجوار. ومع ذلك فلا أتوقع أن ترضى بك واشنطن طويلا لأسباب منها أنك مزاجي من الصعب التنبأ بقراراتك الفجائية والمتقلبة من النقيض إلى النقيض وهو ما لا تحتمله أية قوة كبرى... " من هؤلاء المثقفين، الذين يفكرون بتخييلاتهم لا بعقولهم ضربت مثلا بالفيلسوف، محمد عابد الجابري، الذي قلما يستخدم دماغه المعرفي.
عددت له جرائمه ومنها جريمة حلبجة ضد الشعب الكردي: " أمرت بقصف مدينة حلبجة الكردية حيا فحيا لمدة 15 ساعة بالأسلحة الكيماوية بما فيها x v المدمر للجهاز العصبي. ولإبادة أكبر عدد من السكان، كان القصف الأول بالقنابل التقليدية لدفع المدنيين إلى الملاجئ، لتحويل الملاجئ إلى مقابر، في القصف الثاني بالقنابل الكيماوية مما أسفر عن خمسة آلاف قتيل وأكثر من 30 ألف جريح في مدينة لا يزيد عدد سكانها عن 50 ألف نسمة! ومازال أطفال حلبجة يموتون حتى الآن بسرطان الدم. " لابد من التذكير اليوم بأن أحدا، على حد علمي، من المثقفين القوميين العرب والإسلاميين لم يشر إلى جريمة صدام في حلبجة فضلا عن إدانتها. بل أن راشد الغنوشي في تصريح للأسبوعية الفرنسية " جون أفريك " سنة 1990 شهد: " لقد وجدت الرئيس صدام حسين مؤمنا صادق الإيمان " !!! هذا " المؤمن الصادق الإيمان " يحمل على يديه دم عشرات الآلاف من الأكراد العراقيين ودماء حوالي مليون إيراني !
في 9/4/2003 انتهى كابوس صدام ليولد على أنقاضه، في بحر من الدمع والدم، العراق الجديد. وكما يقول فيلسوف التاريخ هيجل: " لا ولادة عظيمة دون ألم ". وهاهو العراق بعد مخاض عسير يقف، كما يقول فؤاد عجمي، على أبواب تاريخ جديد. و أتفق معه على أن " شيعة العراق ليسو بعبعا " يسرق النوم من عيون المسلمين السنة في كل مكان ! لسببين: أولا لقناعتي العميقة بأن العالم العربي سيكون أفضل إذا حكمته الأغلبية الدينية أو القومية في كل بلد فيه بشرط أن تتمتع جميع أقلياته بجميع حقوق المواطنة وحقوق الإنسان تحت رقابة الإعلام العالمي والمجتمع المدني العالمي والديبلوماسية الدولية. وكل انتهاك لهذه الحقوق يوجب التدخل الدولي بما فيه العسكري ؛ وثانيا، لأن شيعة العراق عبروا عن نضج سياسي ووطني أعترف بأني لم أتوقعه. تجلى أولا في صبر أيوب الذي تحلت به قيادتهم الدينية أمام الإرهاب السني في العراق الذي ضرب في الهمجية مثلا شرودا مثل قتل الزوار الشيعة لضريح الإمام الحسين في كربلاء، كما فعل الوهابيون سنة 1803 عندما هدموا ضريحه وقتلوا 12 ألفا من النساء والأطفال الشيعة، وتفجير "الشهيد" لنفسه وسط المصلين الشيعة مزودا طبعا بفتاوى فقهاء الإرهاب السنة التي تعده بأنه سينام ليلة نحره وانتحاره في أحظان الحوريات ! وثانيا، لأن رئيس الحكومة العراقية الجديدة، إبراهيم الحيدري، أعلن بأنه " سيحكم العراق لا كشيعي بل كعراقي ". وهو تصريح غير مسبوق في تاريخ الإسلام السني والشيعي معا حيث حكم حكامه دائما ومازالوا يحكمون كمؤمنين سنة أو شيعة، لا كمواطنين يتصرفون مع مواطنيهم بمعيار واحد وحيد: حقوق المواطنة وواجباتها.
بينما أملي هذه الكلمة (6/4/2005) زف لي الراديو خبر تنصيب جلال الطالباني، رمز النظال القومي الكردي والديمقراطي العراقي، رئيسا لجمهورية العراق الجديد. فلأول مرة منذ الكردي صلاح الدين الأيوبي (1138 ـ 1193) يحكم بلدا عربيا رئيس كردي عراقي يساعده نائبان أحدهما سني، غازي الياور، والآخر شيعي، عادل عبد المهدي، ولأول مرة في تاريخ العراق والعالم الإسلامي كله يقبل رئيس جمهورية، الرئيس غازي الياور، بطيبة خاطر، التخلي عن الرئاسة والاكتفاء بمنصب نائب الرئيس، كما لاحظ نائب ممثل الحزب الإسلامي السني ورئيس البرلمان، حاجم الحسني . ولأول مرة في تاريخ العراق والعالم العربي يحكمه رئيس وزراء، إبراهيم الجعفري، هو رئيس حزب الدعوة الإسلامي الشيعي، باسم وطنه لا باسم طائفته. وهذا هو جوهر العلمانية. وقائع العراق الجديد تفتح الوعي السياسي الإسلامي على أفاق لم تكن تخطر له على خاطر. هذه الوقائع، بوقعها الرمزي والسايكولوجي، ستكون لها آثار تراكمية بعيدة المدى ستمتد، كبقعة الزيت، إلى العالم العربي، ـ وربما الإسلامي ـ، اللذين مازالت، في أجزاء كثيرة منهما، الأقليات هي التي تحكم بالحديد والنار باقي السكان، ومازالت فيهما الأقليات تسام سوء العذاب محرومة من أبسط حقوق المواطنة. في اليوم الذي أقسم فيه جلال الطالباني يمين التنصيب، أعلنت لجنة حقوق الإنسان السورية، بشجاعة نادرة، أن 13 كرديا سوريا ماتوا تحت التعذيب، سنة 2004، في أقبية المخابرات البعثية السورية، الأخت الرضيعة للمخابرات البعثية العراقية والتي ينتظرها، على الأرجح، مصير كمصيرها. مثال العراق، ستنتقل عدواه ربما، في السيناريو المتفائل، إلى سوريا، تركيا وإيران. إسقاط صدام دق الأجراس للأنظمة المشابهة قليلا أو كثيرا لنظامه الكابوسي، فصبرا آل صلاح الدين صبرا فموعدكم جنة الحرية... وبهذه المناسبة أوجه تحية إكبار لآية الله علي السيستاني لأنه رفض إعلان الجهاد، الذي كان منذ قرنين وبالا على المسلمين والإسلام، ولأنه أبى أن يرد على الإرهاب السني الوهابي والصدامي المجنون بإرهاب شيعي مضاد. وهو لذلك جدير بجائزة نوبل للسلام، كما اقترح توماس فريدمان، تشجيعا لرجال الدين المسلمين المسالمين.
بعد الانتخابات العراقية الأخيرة، التي كانت صفعة للإرهاب سيكون لها ولا شك ما بعدها، تلقيت خبرا سارا: قرار قطاع من السنة العرب، الذين قاطعوا الانتخابات، بالدخول في مفاوضات مع الحكومة الجديدة لتأمين مشاركتهم في كتابة الدستور الدائم تمهيدا لمشاركتهم في انتخابات 2006. تخلي السنة العراقيين عن الإرهاب سيعزل مجاهدي القاعدة تمهيدا للتخلص منهم. وهكذا ما فتئ العراق الجديد يفاجئ نفسه والعالم مرة بعد أخرى. وهذا ما يجعل رهان الذين راهنوا على إسقاط نظام صدام بالوسيلة الوحيدة الممكنة، الحرب، رهانا في محله. الانعطافة السنية العراقية تتطلب من النخبة السنية، في العراق [ وأيضا خارجه ]، أن تأخذ الدرس من مغامرتها الإرهابية الكارثية على السنة وشعب العراق. الدرس يكمن، في نظري، في إقامة الحداد على فقه الأغلبية السني، الذي حكمت به السنة على مر العصور، للانتقال إلى فقه الأقلية لإعادة صياغة شعورهم ولا شعورهم الدينيين لتكييفهما معا مع واقع أنهم غدوا أقلية في بعض البلدان الإسلامية وفي المهجر. وقد قال الفقيه المصري المالكي شهاب الدين القرافي منذ سبعة قرون بجواز حكم غير المسلم للمسلم... وبناء عليه فحكم الشيعي للسني مقبول أيضا دينيا وتتطلبه قيم عصرنا الكونية التي تأبى التمييز الديني بين المواطنيين. آن الأوان للعقلاء من فقهاء السنة والشيعة معا كي يجتمعوا في مؤتمر مشهود ليعلنوا طي صفحة الماضي ووضع حد حاسم لتكفير بعضهم لبعض، وقبولهم غير المشروط للمواطنة الحديثة التي لا تفرق، في حقوق المواطنة، بين الرجل والمرأة، والشيعي والسني، والمسلم وغير المسلم. هذه الثورة الثقافية جديرة بالعراق الجديد وأتمنى أن يجعلها الرئيس جلال الطالباني، على جدول أعماله المكتظ بالمهام الجسام. فمصالحة السنة والشيعة ومصالحة الوعي الجمعي الإسلامي مع المواطنة الحديثة سيكون أجمل هدية يقدمها العراق الجديد لمحيطه العربي والإسلامي.
العراق الجديد هو، كما عرّفه جلال الطالباني، "عراق ديمقراطي، برلماني ، تعددي، مستقل، فدرالي وموحد ". الفدرالية، التي يجعل منها يتامى صدام حسين من المثقفين العرب بعبعا،تعني، كما يقول جلال الطالباني: " أساسا وباختصار تقاسم السلطة والثروة بين المركز والمناطق ". وهذه هي مواصفات الدولة الديمقراطية المعاصرة؛ التي هي دولة لا مركزية تتخلى للمناطق والهيئات المحلية، في الداخل والدولية في الخارج، عن سلطات واسعة كانت في عهد الدولة المركزية الحديدية القديمة حكرا عليها. التنمية تحتاج إلى دولة قوية. والدولة القوية اليوم هي الدولة اللامركزية أو الفدرالية، التي تطلق مبادرات جميع مواطنيها من عقالها وتجعل مسؤولي كل محافظة في متناول أيدي ومساءلة سكانها.
متى يكون العراق مستقلا؟: " عندما يتم بناء المؤسسات العسكرية والأمنية، كما يقول الطالباني، عندئذ يمكن الدخول في مفاوضات مع الأمريكان وقوات التحالف لوضع جدول زمني للانسحاب من العراق ". أما فقهاء الإرهاب، الذين يسوّغون دينيا جرائم الزرقاوي مثل يوسف القرضاوي وراشد الغنوشي ومن لف لفهما، فهم يطالبون برحيل قوات التحالف فورا لتملأ فراغها الفوضى الإرهابية والحرب الأهلية لقطع الطريق على نجاح النموذج العراقي الواعد بعلمانية إسلامية مرنة ومنفتحة، و الذي سيقوض آخر أوهامهم في دولة دينية من طراز دولة الخميني والترابي والملا عمر الدموية !
نجاح التجربة العراقية وظهور الدولة الفلسطينية سيشكلان دون شك إمكانية ثمينة وواعدة لقيادة الشرق الأوسط إلى الحداثة والإصلاح والتنمية المستدامة والمقرطة التي تجفف جميعا ينابيع الإرهاب الإسلامي الذي شوه صورة الإسلام في مرآة الرأي العام العالمي وعاد، سياسيا ودينيا، بالمسلمين إلى الوراء قرونا.
منذ الآن يطرح الإرهاب التحدي الأول على العراق الجديد. رهان العراق الجديد هو قهر أفعوان الإرهاب. وهذا يتطلب فيما يتطلب، دمج السنة العرب في النسيج الوطني العراقي، استكمال تكوين الجيش والشرطة العراقيين وتعبئة أفرادهما نفسيا ضد الإرهاب، إقناع أو ردع دول الجوار، سوريا، الأردن، السعودية وإيران، عن فتح حدودها للإرهاب الإسلامي العابر للقارات، تجفيف ينابيعه الاجتماعية من فقر وتهميش يجعلان ضحاياهما لايشعرون بالانتماء لوطنهم وعلى استعداد لقتل طفل عراقي من أجل دولار... لكن اجتثاث داء الإرهاب من الجذور يتطلب تجفيف ينابيعه من الخطاب الديني عامة والمدرسي خاصة الذي يجعل الأجيال الطالعة معادية للحداثة، أي تشعر بالغربة الروحية والقيمية عن مؤسسات وعلوم وقيم العالم الذي تعيش فيه. عداء الحداثة القيمية، أي رفض التطابق بين قيم المسلم وقيم عصره، يؤدي إلى التشنج الديني، وعداء الحداثة السياسية، أي رفض العقلانية الديمقراطية، يفضي، في الحالة الإسلامية، إلى الفاشية الدينية. أعراض هذا العداء للحداثة تتجلى في انتشار داء حنين العودة إلى " العصر الذهبي "، عصر الخلافة الراشدة. وهي عودة عقيمة ومستحيلة في آن.
مناهج التعليم، التي تصوغ الشعور واللاشعور الدينيين للأجيال التونسية الطالعة بالإسلام التنويري، برهنت، منذ 15 عاما، على نجاعتها في تجفيف ينابيع الإرهاب الديني. ولا شيء يمنع صانع القرار العراقي من استلهام المناهج التونسية لتطعيم وعي الناشئة العراقية الإسلامي ضد سم العداء السني ـ الشيعي الذي يهددنا بحرب سنية ـ شيعية على امتداد أرض الإسلام نرى نُذرها في باكستان، وفتح هذا الوعي دون شعور بالذنب لمعاصرة عصره. وهذه مهمة أخرى هائلة مطروحة على جدول أعمال الرئيس جلال الطالباني ومساعديه ورئيس الحكومة، إبراهيم الجعفري.
لولا مرضي اللعين الذي جعل مني مقعدا عاجزا عن استخدام وسائل النقل العام ولا أنتقل للمستشفيات إلا بسيارات الإسعاف، للبيت فورا دعوة جلال الطالباني، على صفحات " الوطن العربي "،للمثقفين العرب " لحوار حضاري في كردستان ". بدوري أشجع العقلاء منهم لتلبية هذه الدعوة دون تردد لتدشين عصر الأخوة الكردية العربية ومحاولة تحرير وعيهم من رُهاب الأقليات الدينية والقومية الذي رضعوه مع حليب أمهاتهم: في 1973 عبر ياسين الحافظ في اليومية اللبنانية "السفير" عن أسفه لأن خلفاء الإسلام لم يستأصلوا الأقليات من "الوطن العربي" لفرض التجانس القومي والديني بين سكانه. الذين مازالوا يشاطرونه أسفه يعدون بالعشرات !