القاهرة من فتوح سلمان: بين يوم وليلة أفاق بدو سيناء على كابوس مرعب، فبعد سنوات طويلة نسوا فيها أو تناسوا الحروب والانفجارات وقوات حفظ السلام كانوا يسمعون خلالها كلمة «الإرهاب» مثل غيرهم من سكان مصر عبر الفضائيات وعلى صفحات الجرائد التي تصل قليلة إليهم، تسلل الإرهاب بينهم وأفاقوا في اليوم التالي ليجدوا من بينهم من يشار إليه بكلمة «إرهابي».
أربعة شبان، نفذوا عملية تفجير فندق هيلتون طابا ومنتجعين سياحيين آخرين ليلة السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. وهكذا وجد بدو سيناء أنفسهم حديث وكالات الأبناء العالمية، وأصبحت القرى الهادئة هدفا لحملات تمشيط لم تترك حجرا إلا وبحثت تحته عن إرهابيين، واعتقالات طالت الشيوخ والشباب لتكون المرة الأولى تقريبا التي يتورط فيها بدو سيناء في مشاكل خطيرة من هذا النوع، فمن قبل كانوا يتهمون بزراعة المخدرات وخاصة البانجو واحتكار توريده لوادي النيل، إضافة إلى تورط بعضهم في عمليات تهريب سياح وأجانب إلى إسرائيل بحكم معرفتهم الدقيقة بتضاريس الأرض، وكذلك اتهامات للبعض بتجارة السلاح وتهريبه عبر الحدود، ولم يكن البحث عن إرهابيين يخطر في بال عساكر الأمن الذين يفتشون الحقائب ويفحصون الهويات للخارجين من سيناء، فقد كانوا يبحثون عن البانجو في المقام الأول، لكن أحداث طابا الأخيرة غيرت الصورة وغيرت النظرة للبدو، فهم ليسوا مجرد رعاة أغنام وتجار مخدرات، بل بينهم انتحاريون أيضا ولديهم اهتمامات دينية وسياسية.
ربما كان الأمر مفاجأة للبعض، لكنه لم يكن مفاجأة للبدو أنفسهم كما يقول الشيخ محمود المرابي من قبيلة البياضية، فلطالما تساءلنا متى سيحدث هذا، بعد أن زاد عدد الشباب الذين ينخرطون في أنشطة دينية متشددة، والذين أصبح وجودهم أمرا عاديا، فمع الفقر وجفاف الأرض ونقص فرص العمل، كان التزمت الديني أمرا متوقعا في مجتمع متزمت بطبعه.
لكن ماذا يدفع شباب البدو للتمرد والخروج عن سلطة القبيلة والانخراط في مثل هذه الأنشطة، وكيف وصل الأمر لخروج إرهابيين من بيئة تبدو متماسكة؟
قبل الإجابة عن هذا التساؤل من الأفضل أن نلقي نظرة سريعة على الطبيعة الجغرافية لشبه جزيرة سيناء التي تنقسم جغرافياً لثلاثة أقسام: الشمال الذي يعتمد سكانه على الزراعة وصيد الأسماك من بحيرة البردويل، والوسط في قمم المرتفعات الوعرة والوديان الخصبة التي يرويها البدو بماكينات رفع المياه أو بحمل المياه على ظهور الجمال، ويحمونها بمدافع الكلاشينكوف والسيارات اللاندكروزر. والقسم الأخير هو الجنوب، الذي يعتمد على السياحة في طابا وشرم الشيخ ودهب وراس سدر.
وإدرايا تنقسم سيناء إلى محافظتين: جنوب وشمال سيناء، في الشمال الذي تبلغ مساحته نحو31 ألف كيلومتر، وتعداد سكانه حوالي 150 ألف نسمة (85% من سكان سيناء)، تلعب التركيبة السكانية دورا مهما في تحليل مجرى الأحداث وفهم طبيعة الأمور، فتوزيعة السكان لافتة للنظر تبدو متجانسة ومقسمة بوضوح بين بدو وحضر، لكنها في الحقيقة غير ذلك، فالبدو يتفرعون إلى عشرين قبيلة أو أكثر، وبينهم تفاوتات حادة سواء في العادات والتقاليد أو الطبيعة الشخصية أو حتى لكنة اللسان أو مفردات اللغة على الرغم من انهم يشكلون شريطاً متراصاً من القرى المتجاورة جنبا إلى جنب حوالي 82 قرية، لا يفصلها عن بعضها البعض إلا أمتار قليلة، ولكل قرية أو بالأحرى قبيلة، كل قرية تمثل قبيلة أو عشيرة لها السيادة، حدود أو تخوم تفضل القبيلة عن الأخرى، ورغم التجاور أو التلاصق إلا أن علاقات النسب والمصاهرة تحكمها شروط وظروف، ولها ترتيب هرمي قربا وبعدا، فقد تتجاور قبيلتان جغرافياً، لكنهما تبقيان متباعدين معنويا.
أشهر قبائل شمال سيناء والممتدة من شرق قناة السويس حتى مدينة رفح المصرية على الحدود مع إسرائيل هي: الأفارسة والدواغرة والسماعنة والبياضية والسواركة والتدابين والأرميلات والاحبوات.
القسم الثاني من تركيبة السكان في محافظة شمال سيناء، هم الحضر، الذين ينقسمون في ما بينهم إلى عراشية وفلسطينيين.
تعود أصول العرايشية إلى هجرات سابقة من وادي النيل قبل حرب 1948، حيث كانت العريش نقطة تجارية رائجة وهجرات للتجار السوريين وبقايا الحاميات التركية التي استوطنت إبان الحكم العثماني. أما الفلسطينيون (نسبتهم 20% من سكان العريش) فبعضهم كان موجودا قبل نكبة فلسطين ولم يستطع العودة والبعض الآخر نزح خلال سنوات الحروب المتواصلة مع إسرائيل وما تلاها، لكن نزوحهم توقف مع تقسيم مدينة رفح إلى قسمين مصري وفلسطيني عام 1982 يفصل بينهما سلك شائك أدى في الوقت نفسه إلى شطر عائلات فلسطينية عن بعضها، وأصبح اللقاء بينها يتم عبر الأسلاك، وقد يقام أحد الأعراس على الجانبين فيحضر المدعوون من الأسرة الواحدة على جانبي السلك للاحتفال بالزفاف. وخلال عملية التقسيم أقيمت عدة مخيمات للفلسطينيين أشرفت عليها وكالة غوث اللاجئين مثل مخيم كندا، الذي جاء اسمه من الوحدة الكندية التي كانت تعسكر في نفس المكان، ويعاني اللاجئون من سوء الأحوال المعيشية خاصة في ظل عدم تمكنهم في البداية من الحصول على تصاريح عمل من الحكومة المصرية، فاضطر بعضهم للعمل في تهريب البضائع الإسرائيلية إلى سيناء خاصة البذور الزراعية الصالحة للتربة السيناوية الفقيرة، والتي تتحمل المياه الجوفية عالية الملوحة، وأيضا المبيدات الزراعية والهورمونات الزراعية، وصار أمرا شرعيا رسميا، فتحول التهريب أو التركيز على الأجهزة الكهربائية والصابون الإسرائيلي الذي يلائم استعمالات المياه العسرة حيث ما زالت مدينة العريش بدون شبكة مياه للشرب حتى الآن، والشامبوهات والمصنوعات الجلدية والجينز والمكسرات. وامتد نشاط الفلسطينيين الذين نجحوا في الحصول على تصاريح العريش، فعدد كبير منهم يعملون سائقي أجرة بسياراتهم المرسيدس القديمة، والتي تعد إحدى العلامات المميزة لمدينة العريش.
وسط هذه التوليفة أو التركيبة السكانية نجحت القوى الدينية المتشددة في اختراق أوساط الشباب العاطل المتأثر بما يجرى في فلسطين قريبا منهم، حيث أهل البعض وأقارب البعض الآخر، والذين هم أقرب لهم عن القلب المصري البعيد جغرافياً والأقل تأثيراً،، حتى أن محطات البث التلفزيونية والإذاعية الإسرائيلية تغطي مدن سيناء قراها البدوية بفضل شبكة الإرسال المحلية. ورغم أن الحكومة المصرية تنبهت في الآونة الأخيرة لهذه النقطة فمدت إرسال القناة الرابعة المخصصة للأخبار إلى مدن القناة (بور سعيد والإسماعيلية والسويس) ليغطي شمال سيناء أيضا، لكن على ما يبدو كان قد وصل متأخرا، كما يقول الشيخ محمود المرابي، فقد زادت أعداد الشباب الذين يطلقون لحاهم ويقصرون جلابيبهم البيضاء، وهي الزي الرئيسي للرجال في القبائل البدوية، الذين أصبحوا يشكلون تيارا عابرا لحدود القبائل، خارجا على سلطة شيوخ القبائل وطاعة الآباء المتوارثة.
* مجتمع الجوارب السوداء
* التيار الشبابي المتشدد الجديد الذي بدأ في الظهور منذ بداية التسعينات ووصل لذروته في نهايتها، كون لنفسه شبكة علاقات اجتماعية خاصة عابرة للحدود القبائلية، يتجمعون معا ويقيمون الأفراح الإسلامية الخاصة بهم، وترتدي نساؤهم الجوارب السوداء تمييزا لهن عن البدويات الأخريات اللاتي قد يتشابهن معهن بالملابس الفضفاضة بحكم التقاليد. وكون الشباب أو الاخوة كما يسميهم بدو سيناء في ما بينهم، شبكة إغاثة وجمعية إنسانية لتسيير أمور الاخوة، فهم يساعدون «أخ» على افتتاح دكان صغير أو كبير، مدعومين ببعض العناصر ذات القدرة المالية من محافظة بور سعيد القريبة منهم، ويوزعون الهبات من المواد غذائية على أسر الاخوة المحتاجة، وقد يهبون لبناء منزل لأخ مقبل على الزواج أو يختارون قطاع الزواج، وهم يشرفون في قراهم على أعمال جمع التبرعات للمساجد أو لغيرها وجمع زكاة المال من الأسر البدوية ويحتكرون أنشطة دفن الموتى وغسلهم، وكذلك يتولون الأنشطة الدينية داخل المساجد مثل إذاعة الآذان أو إقامة الصلاة وإلقاء خطب الجمعة، رغم وجود خطباء لوزارة الأوقاف. ووصل الصراع بينهم وبين كبار رجال القبيلة إلى مرحلة جعلتهم يقاطعون صلاة العشاء في المسجد لأنهم يطيلون فيها بما قد يضايق بعض المصلين مما جعلهم في النهاية يؤدونها في زوايا خاصة بهم أو في منزل أحدهم. ومن أبرز أنشطتهم أيضا أداء صلاة الجمعة وإقامة حلقات الوعظ على شاطئ البحر خلال شهور الصيف.
* إرهابيون أيضا
* كان هذا يحدث في ظل معدلات بطالة مرتفعة وانخفاض في جودة التعليم ونقص في إعداد المدارس والمدرسين وضعف أو انعدام المشاركة السياسية للشباب السيناوي، لأن اختيار المرشحين أمر خاضع لسلطة شيوخ القبيلة. وتحديد اسم المرشح الذي تحتشد وراءه القبيلة برجالها ونسائها عملية تجري في ظل حسابات تبادلية وتكتلات قبيلة تناوبية بما يسمح بنجاح مرشح لكل قبيلة في دورة برلمانية محددة.
من بين كل هذه المجريات خرج أربعة شباب، اثنان من البدو واثنان من الفلسطينيين المولودين لأم عرايشية وأب فلسطيني ذهب لزيارة أهله في غزة ولم يستطع العودة أو لم يرغب فيها.