القاهرة من محمد أبو زيد ودينا وادي: «حيرت قلبي معاك، وانا بداري واخبي، قلي اعمل ايه واياك، ولا اعمل ايه ويا قلبي، نفسي احكيلك عن نار قلبي، نفسي اشكيلك ع اللي في قلبي، وأقولك ع اللي صبرني، واقولك ع اللي سهرني، واوصف لك هوى قلبي، وعزة نفسي ما نعاني، وعزة نفسي ما نعاني». يسحبنا الصوت الرخيم العذب الجميل من ايدينا وكأننا مسحورون وكأننا فقدنا تحكمنا في انفسنا، نتتبع الصوت من اول شارع 26 يوليو، الصوت الذي بدا خافتا اخذ يعلو ويعلو ويعلو، حتى لم يعد شيء سواه تلاشى من دونه كل شيء، الناس، العربات، الضجيج، زحام القاهرة حفلة الساعة التاسعة في سينما كايرو كان الصوت يسحبنا في خفة وكنا نسير وراءه من دون ان ندري ودون ان نعترض حين وصلنا الى نهايته رفعنا اعيننا الى مصدر الصوت ادركنا عندها فقط اننا قد وصلنا الى ما كنا نريد في قلب القاهرة مقهى ام كلثوم.
* المقاهي
* المقهى بيت الغريب، رواده أهله ومقاعده القليلة المتناثرة اثاث بيته الذي يقبع في مكان بعيد يسافر إليه بالذاكرة ثم يعود بدمعتين من هناك وامل في غد افضل، يستيقظ من احلامه ليجد نفسه محاطا بغرباء آخرين مثله جاءوا من اماكن بعيدة يبحثون عن شيء لم يجدوه في ارواحهم بعد.
المقهى بيت الغريب وخاصة في القاهرة، المدينة الصاخبة السريعة التي لا تنتظر هؤلاء الذين لم يتعودوا على سرعتها بعد، والذين اذهلتهم لا مبالاتها وضجيجها فيجلسون على مقهى من مقاهيها الكثيرة المنتشرة على ارصفتها الممتدة لآلاف الكيلو مترات يتنفسون الهواء وهم لا يصدقون، انه لا يزال موجودا وقد يرفعون اعينهم في استجداء إلى السماء املا في شيء لا يعرفونه يديرون اعينهم في وجوه «الغرباء» حولهم ثم يعودون لالقائها على السيارات التي تمرق بسرعة مخلفة وراءها ضجة لا تنفض إلا وتتكرر وقد يقومون ويسحبون كراسيهم إلى الوراء حتى تلتصق بالحائط خوفا من خطر مقبل غير مرئي.
المقهى بيت الغريب في القاهرة، ففيه يجد غرباء مثله يتحدث معهم ويتحدثون معه يضحك معهم ويضحكون معه، وقد يشكو لهم الحياة وقد يشكون له وسوف يعود في اليوم التالي بحثا عن الغرباء القدامى والذين صاروا اهلا له، لكنه مع الأيام سيشعر أن المقهى اصبح بيتا له وانه أصبح «صاحب بيت» ساعتها سيتعامل مع الغرباء الجدد بلطف ويقدم لهم النصائح ويدعوهم إلى الشاي «الثقيل» ويحكي لهم عن أيام قديمة يذكرها ويحن إليها وعن مدينة بعيدة ارسلته ذات يوم لكي يحضر ذرة من مدينة بعيدة أخرى صاخبة لكي يعود، لكنه لم يستطع أن يحضر الذرة ولم يستطع أن يعود.
المقهى بيت الغريب، فيه حياة كاملة فيه ناس وبشر واشرار وطيبون فيه الحياة بكل تفاصيلها بكل ازعاجها بكل صورها بصالحها وطالحها يشعر الغريب فيها انه قريب من غربته من قريته.. من آذاه من أهله ومن نبذه من اصدقائه ومن خلانه ومن أهله انه الآن في بيته.
المقهى بيت الغريب، كل مقاهي القاهرة كذلك تستقبل الغريب وتحنو عليه وكل مقاهي القاهرة روادها في معظمهم غرباء الا نوع واحد من المقاهي لا يستقبل إلا «أصحاب البيت» إنها مقاهي أم كلثوم في القاهرة.
مقاهي الست gt; ليست ظاهرة غريبة، لكن المتتبع العلاقة الست «أم كلثوم» بالمصريين سيكتشف أن هذا شيء طبيعي فأم كلثوم التي يحبها المصريون بكل طبقاتهم وفئاتهم تنفرد عن جميع المطربين في مصر، بل المفكرين والفنانين أيضا وجميع الشخصيات العامة بأن لها مقاهي باسمها في قلب القاهرة والمحافظات الأخرى والامر لا يقتصر على وجود مقهى واحد بل مقاه عدة منتشرة في احياء مختلفة تتفاوت طبقاتها الاجتماعية مما يؤكد أن حب أم كلثوم ليس مقتصرا على فئة معينة من دون الأخرى، بل إن عشاقها ينتشرون في كل مكان وينشؤون مقاهي باسمها في كل مكان تذيع اغانيها وتقدم «ما يطلبه المستمعون» بالفعل وهو هنا ليس شايا أو قهوة أو «أم علي» وانما اغان بعينها، ربما توقف الراديو عن اذاعتها، وربما ضاعت من مكتبة التلفزيون الذي اصبح يحتفي بالجيل الجديد من المطربات الفاضلات، ولذلك يأتي المستمعون إلى هذه المقاهي ويطلبون «رق الحبيب» أو«فكروني» أو «غلبت اصالح روحي» وهذا الأمر لا يقتصر على مقهى واحد بل على العديد من المقاهي التي تحمل اسم سيدة الغناء العربي، ألم اقل لكم من قبل، ألم أسألكم ونسيتم في غمرة الانفعال أن تجيبوا علي، ومن الذي لا يحب أم كلثوم؟
* سهرة تاريخية نحن الآن في قلب القاهرة في عام 1956، في الخميس الأول من أحد اشهر الصيف اللاهبة اخبار الحرب تتناثر على السنة المارة والعدوان الثلاثي على مصر يبدو كأنه هو الحديث الأول الذي ينتقل من لسان إلى لسان في المقاهي وفي مجمعات العمل الحكومية وفي الحافلات وفي القطارات وفي النوادي، ولكن شيئا فشيئا تخفت حدة الحديث ليدخل فيه موضوع آخر، أن اليوم هو الخميس الأول من الشهر وماذا يعني هذا، لا، انه يعني الكثير، فاليوم ميعاد حفلة أم كلثوم الشهرية، واذا اقتربنا من هؤلاء الذين يتحدثون سنجد أن حدة الحديث عن العدوان الثلاثي قد خفت قليلا، رحلت محلها لهجة أخرى مليئة بالفرحة والاشتياق والانتظار، ماذا ستقدم أم كلثوم اليوم في حفلتها الشهرية، ويبدأ كل واحد يحدد مع اصدقائه اين سيسهر وما هي لوازم السهرة وكيف سيجتمعون وماذا تتوقعون أن تغني أم كلثوم وهل تتوقعون أن تغني من ألحان أحد الملحنين الشباب أم المخضرمين.
في هذا الوقت لم يكن التلفزيون قد ظهر بعد، وكان الراديو ينتشر على استحياء في بعض المقاهي الكبيرة وبعض المقاهي الصغيرة التي باع اصحابها اشياء ثمينة لكي يشتري الراديو الذي كان يمثل في ذلك الحين نوعا من الوجاهة الاجتماعية وفي بعض البيوت الكبيرة التي لا يجب أن يجلس ابناؤها، كما ينص بروتوكول العائلات الارستقراطية على المقاهي.
لو انتظرنا قليلا بعد صلاة العشاء ودخلنا إلى أي حي من احياء القاهرة أو الإسكندرية أو أي من المحافظات سنجد أن الحديث عن الحرب خفت تماما وان البيوت والحكايات والشائعات اغرقت في النوم أو ربما يخيل لنا هذا لأننا لو اقتربنا من هذا المقهى الذي بدأت انواره لنا من بعيد سنجد هؤلاء الذين يجلسون في المقهى وأعينهم معلقة على الراديو في انتظار انطلاق صوت الست يشدو بأغنية جديدة يسمعونها ويرددونها، وهم عائدون منتشون إلى بيوتهم بعد انتهاء الحفل، وربما يجلوسون على المقهى هذا ويؤرخون لبداية حقبة علاقة أم كلثوم بالمقاهي، أم كلثوم التي كان الناس ينتظرون صوتها مساء الخميس الأول من كل شهر في المقاهي، لكنهم بعد رحيلها سيخلدون هذه الذكرى ويطلقون اسمها على مقاهيهم، ولكنهم هذه المرة لن ينتظروا بداية الشهر ولا يوم الخميس، حتى يسمعوا اغنياتها بل سيطلبون فقط من صاحب المقهى أن يفعل ما يريده عشاق «الست».
* مقهى آمال ماهر
* اسمه «مقهى سيدة الغناء العربي أم كلثوم وخليفتها في الغناء آمال ماهر» كان أول ما لفت نظرنا هو الاسم الطويل بالإضافة إلى «الملحق» الأخير الذي الحق بالاسم هبطنا بأعيننا عن اللافتة الكبيرة التي تعلو باب المقهى محاطة بصورتين الأولى لسيدة الغناء العربي أم كلثوم والثانية «لخليفتها في الغناء آمال ماهر!» أول ما استقبلنا في المقهى كان ذلك الصوت الرخيم الذي رفرف حولنا وحملنا إلى زمان قديم جميل «اعطني حريتي اطلق يديا.. إنني اعطيت ما استبقيت شيئا.. آه من قيدك ادمي معصمي.. لم ابقه وما ابقى عليا.. ما احتفاظي بعهود لم تصنها وإلام الأسر والدنيا لديا.. ها أنا جفت دموعي فاعف عنها.. إنها قبلك لم تبذل لحيا».
نجلس على مقعدين في المقهى الذي يمتلئ بصوتها ليخرجه من حيز العالم الضيف ويدخل به في عالم آخر مفارق لهذه الدنيا الصاخبة، كنا نتأمل الحوائط التي تمتلئ بصورة أم كلثوم مع عباقرة عصرها فصورة مع توفيق الحكيم وصورة أخرى لفيروز وهى تقبل فيها ثومة وصورة ثالثة لعبد الحليم حافظ وهو يقبل يدها واخرى تجمعها بجمال عبد الناصر واخرى لها مع موسيقار الاجيال محمد عبد الوهاب وصورة كبيرة كبيرة مرسومة لها على الحائط منسوخة من صورتها الشهيرة وهى تغني رائعها «انت عمري» وقد انتشت واخذت تعتصر منديل يدها، صورة كبيرة لبليغ حمدي مرسومة أيضا وهو يدندن بعوده ليمنحنا اجمل الالحان التي ستظل باقية مع الزمان، شعرنا بأننا فارقنا زماننا ومكاننا، وأننا عدنا إلى الوراء عشرات السنين لايام لم نعشها لكننا نحبها وصوت أم كلثوم يتواصل «كان لك معايا اجمل حكاية في العمر كله.. سنين ومرت زي الثواني».
محمود العامل في المقهى حينما سألناه عن المشروبات في المقهى، ابتسم لنا وقال إن الناس هنا تطلب اغاني وليس مشروبات، وحينما اتسعت اعيننا دهشة رفع اصبعه أمام وجهه وزينت ابتسامته وجهه الاسمر وهو يتابع «هنا الغناء والسلطنة قبل الشاي» ومع ذلك هناك شاي أيضا. قبل أن يعود محمود بالشاي كنا نتحدث عن مقاهي أم كلثوم وعاداتها التي تبدو غريبة، فالناس في مقاهي أم كلثوم الذين تتراوح اعمارهم ما بين العشرين إلى ما فوق الثمانين، ممن عاشوا زمان أم كلثوم يأتون خصيصا لكي يسمعوا أم كلثوم في زمان لم يعد فيه مكان لأي شيء جميل في زمان طغت فيه اغاني الفيديو كليب على اذواقهم وحركاتهم وارواحهم أيضا، يهربون من ضجيج الحياة وعذابها والمها إلى مقاهي أم كلثوم بحثا عن زمان قديم قد يعود إليهم مع اغنية لام كلثوم.
محمود الذي عاد بالشاي بعد أن غير الأغنية التي كانت تدور في الاسطوانة، قال لنا إن الزبائن هنا معروفون وكلهم يعرفون بعضهم تقريبا وبعضهم يظهر ويختفي لكنه يعود، التقط محمود انفاسه وتابع يعود حينما يشعر بحاجته إلى «الست» إلى شيء يغير له روحه وصدا الحياة فوقها إلى شيء نقص منه.
محمود حكى لنا كثيرا عن الزبائن الذين يطلبون اغاني محددة لام كلثوم كادت تنقرض وان ينساها الناس لتوقف التلفزيون والراديو عن اذاعتها لكن السميعة الحقيقيين ـ كما وصفهم محمود ـ لا يزالون باقين على العهد ولا يزالون يذكرون اغانيها القديمة ويطلبونها باستمرار.
حين ملت ناحية محمود لأساله لائما وانا اشير إلى اللافتة بالخارج التي تحمل اسم آمال ماهر بجوار اسم أم كلثوم وما هذا يا رجل، صمت محمود قليلا واضطرب فمه كمن لا يريد الحديث، لكنه نطق اخيرا في صوت به رنة حزن وهمس سأقول لك. حكى لي محمود عن ابن صاحب المقهى الذي اراد أن يغير منه وان يجعله اكثر تطورا في الوقت الذي بدأت فيه المطربة آمال ماهر في الصعود، وتوقع الكثيرون لها النجاح ووقفت إلى جانبها الدعاية التلفزيونية الحكومية وكرمها الرئيس مبارك وقالت الصحف القومية إنها ستكون تكرارا لتجربة أم كلثوم، يصمت محمود قليلا ويتابع، ولكن يبدو أن المعجزات لا تتكرر وان شيئا من هذا لم يحدث والكثير من الزبائن ممتعض من اسم المقهى ويطالبون بتغييره.
اصمت قليلا وأنا أتأمل صوت «الست» الذي يحملني إلى سماء مخملية «طول عمري بخاف م الحب.. وسيرة الحب.. وظلم الحب لكل اصحابه.. واعرف حكايات مليانة اهات» ثم اسأل محمود وهل تحب أم كلثوم، ينظر لي في لوم ويسألني وهل هناك أحد لا يحب أم كلثوم؟
* دولة أم كلثوم
* نواصل سيرنا في الشوارع من مقهى لمقهى في بحثنا عن أم كلثوم نتتبع صوتها ونسير وراءه نتأمل مقهى أم كلثوم في منطقة التوفيقية في وسط القاهرة ونتذكر تاريخه ورائحته وصوت ام كلثوم المنبعث من داخله ثم ننطلق إلى مقهى آخر.
الى ركن أم كلثوم.. نتأمل صورها على الحوائط.. وصوتها في الاجواء.. وذكراها في اعماق الناس.. وتنتقل لآخر ثم لآخر.. تتعب اقدامنا من السير والبحث عن سيرة ام كلثوم.. وتبدو السيرة طويلة.. ولا تنتهي.. نقرر ان نجلس على مقهي ركن ام كلثوم خلف شارع محمد الالفي بك في وسط القاهرة نتأمل في وجوه الجالسين اثرها.. وصوتها الذي يسمعونه وكأنهم يؤدون احد واجباتهم اليومية المهمة لاستمرار حياتهم ذاتها.. الجالس بجواري يرفع صوته قائلا: بيريحني بكايا ساعات يقترب منه عامل المقهي ويسأله نعم ياحاج اسماعيل؟ يرفع الحاج اسماعيل صوته ويكرر جملته: بيرحني بكايا ساعات.. لم افهم شيئا رغم ان العامل اجابه: حاضر يا حاج، قبل ان ينطلق الي جهاز الكاسيت الكبير، ويخرج شريطا قديما وحين انطلقت ألحان الاغنية القديمة الجميلة فهمت.
لم أجرؤ أن أميل الى الحاج اسماعيل قبل أن تنتهي الأغنية، كان قد اغلق عينيه، وألقى رأسه الى الوراء «وترك نفسه» مع الأغنية حين سألته بعدها عن المقهى حكى لي عن نفسه.. عن 30 عاما يأتي كل يوم ليسمع ام كلثوم ليطلب اغانيها التي تتلاءم مع حالته النفسية، الحزن، والفرح، والبهجة والناس والامل والالم.
عم اسماعيل لم يتكلم معي كثيرا لانه كمال قل لي لا يجب ان يتكلم بعد سماعه ام كلثوم.
تركته، تركت المقهي.. وسرت في الشارع.. بحثا عن مقهي آخر اسأله ان يعيد لي «بيريحني بكايا ساعات»، وخلال رحلة البحث عن اثر «ام كلثوم» في الزمان والمكان وآهاتها في الهجر والفراق وليالي الشتاء التي لا تكتمل الا برؤية ام كلثوم، وسماع صوتها سواء من خلال المذياع او اذاعة حفلاتها في التلفزيون وفي هذا العصر من خلال شرائط الكاسيت او الـC.D وجدنا مقهي «الطابية» الذي يقع في آخر شارع السودان، حين كنا نسير باتجاه ميدان لبنان بمنطقة المهندسين وجدنا صورة كبيرة لكوكب الشرق ام كلثوم وصورة اخرى لها وهي جالسة، والراحل عبد الحليم حافظ يقبل يدها احتراما وحبا دخلنا المكان الذي اكتشفنا انه ليس له علاقة من قريب او بعيد بالسيدة ام كلثوم، لكنه كان فيلا عبد الحليم حافظ، كما قال محمد زكي مدير المطعم والتي صممت على شكل «طابية» ـ القلعة في قطع الشطرنج ـ وكان يجري فيها بروفات اغانيه ويلتقي فيه مع الشعراء والملحنين، وكان هذا المكان الذي شهد مولد قصيدة «قارئة الفنجان» التي كنا نحتاج مساعدتها لتكشف لنا عن مدى عمق العلاقة، التي كانت تربط بين كوكب الشرق والعندليب الاسمر لنعرف رأيها فيه، فمن المؤكد كان لها آراء في كل من وجدوا بالوسط الفني في ذلك الوقت، ومن المؤكد ايضا ان علاقتها بكل منهم كانت تختلف عن الآخر. «ام كلثوم» هذا الاسم الذي تربع على عرش الغناء المصري والعربي والتي وصلت الى العالمية من التعمق في المحلية، فأهل باريس يعرفون اسمها جيدا هذا الصوت الذي جسد كل معاني العروبة والقومية والحب بقوته وضعفه.
أما «الطابية» فتمتلئ جدرانه بصور اهل الفن من الزمن الجميل وسط دخان النارجيلة وضوضاء الصحون والكؤوس وبدلا من ان تجد صوت ام كلثوم او عبد الحليم ينبعث من المكان وانت جالس فيه تجد نفسك امام شاشة كبيرة لجهاز التلفزيون والمؤشر على احدى القنوات الفضائية لتشاهد احدى المباريات لكرة القدم او احدى اغنيات الفيديو كليب الجديدة لتتذكر «الست» وايام الزمن الجميل والسميعة باللغة الدارجة أي الذين يستمتعون بالاستماع للغناء الشرقي الاصيل ويدققون في تفاصيل الاغنية وتقاسيمها واهاتها حتى رواد المقهى اختلفوا بعد ما كانت تستقبل اهل الفن من شعراء وملحنين ليقوموا بعمل البروفات النهائية للاعمال الغنائية من الزمن الجميل اصحبت الآن تستقبل اهل الفن من السينما والتلفزيون امثال نور الشريف وبوسي وفيفي عبده، لأنهم يقومون بتصوير اعمالهم السينمائية والتلفزيونية في المكان، وسط هذا الديكور الذي تحمل جدرانه صور اهل الفن من الزمن الجميل، فالفنان نور الشريف قام بتصوير بعض المشاهد في المطعم والمقهي الملاصق له في مسلسل «عيش ايامك» الذي عرض في شهر رمضان الماضي، كما قال لنا «زكي» مدير المكان والذي اضاف ان فيفي عبده ايضا قامت بتصوير بعض المشاهد في المكان في مسلسل «الحقيقة والسراب» الذي عرض في التلفزيون قبل شهر رمضان ولاقى نجاحا في نسبة المشاهدة، وبالتأكيد ان المكان الذي اصبح يستخدم كمكان للتصوير اصبح رواده من اهل الفن التلفزيوني والسينمائي سواء فنانين او مخرجين وكتاب سيناريو ليناقشوا العمل الفني أي جلسات عمل ايضا، كما كان يستخدمه العندليب الاسمر عبد الحليم حافظ. اختلف العمل الفني.. الاشخاص.. الزمان، لكن لم يختلف المكان الذي عاصر اهل الفن واصبحت جدرانه شاهدة على ازمنة فنية مختلفة تستحق عمل حوار صحافي معها لو كانت تنطق، لكنها تنطق لنا بشكل مختلف.
فاذا نظرت الى الجدران ستجدها تعيش مع الزمن الماضي، واذا نظرت الي الاشخاص ستجدهم ينتمون الي الحاضر الذي نعيشه مما يجعل الصورة التي نلتقطها تؤرخ لزمنين مختلفين في مكان واحد وعرفنا من «محمد زكي» مدير المكان ايضا ان صاحب المكان كاتب للسيناريو يدعي «عبد المنعم شطا» وانه يعكف الآن على كتابة سيناريو لفيفي عبده. أي أن صاحب هذا المكان الذي أسسه عام 1995 أي منذ ما يقرب من 10 سنوات من اهل الفن ايضا، ويبدو انه يعرف قيمة المكان، لانه يحتفظ بصورهم على جدرانه وببعض الاغراض الخاصة بالراحل عبد الحليم حافظ التي يحتفظ بها في مكان خاص بالمكان ولم يحاول عرضها علي رواد المكان حتى الآن ينتظر عرضها في الوقت المناسب الذي لا نعرف ماهو ولكن تبقي علاقة ام كلثوم بالامكنة والازمنة السابقة منها واللاحقة لتظل سببا رئيسيا في ارتباطنا بمكان ما ونتخيل انفسنا اننا ننتمي لزمانها الذي يحمل معاني جميلة نريد ان نعيشها من خلال صوتها وان لم يكن فمن خلال حضورها والنظر الي صورها.
نترك المقهي.. وصوت ام كلثوم يعلو خلفنا، يحيطنا تماما.. يغلف الهواء، والمارة والشوارع والكباري يختفي صوت ضجيج السيارات وصراخ الباعة والعربات المارة بسرعة تسابق الزمن، يختفي ألم يوم كامل من العمل، تختفي المشاكل النفسية، والعذابات الروحية.
نشير لسيارات تقل كل واحد الى بيته، تاكسي الى اول الهرم، وميني حافلة الى شارع فيصل.. يسير كل في طريقه.. والمقهي ما زال يطلق اغنيته في الهواء لتملأ الشارع والمدينة كلها لتعيدها الى زمن جميل«رجعوني عينك لأيامي اللي راحو.. علموني اندم علي الماضي وجراحه.. اللي شفته قبل ما تشوفك عنيه.. عمري ضايع مني.. يحسبوه ازاي عليه»