&
إيلاف-نبيل شرف الدين: بينما يعاود صوت "عبد المطلب" الجميل انسيابه عبر الإذاعات وأجهزة التلفاز : "رمضان جانا ، وفرحنا به" ، تغرق القاهرة في مثل هذه الأيام من كل عام في هالات من الأضواء والألوان المبهجة ، استعداداً لاستقبال شهر رمضان الكريم ، بدءاً من "الفوانيس" ذات الزجاج الملون والمعشق بحرفة وعناية ، التي تزين أرصفة الشوارع ، وواجهات المتاجر والمقاهي ، وتزيح عنها ركام الدعاية الانتخابية ولافتاتها المنفرة ،
&انتهاء بباعة الحلوى التقليدية "الكنافة والقطايف" الذين يتفننون سنوياً في تجميل واجهات محالهم ، وتغمر الأجواء رائحة زكية في معظم أحياء القاهرة على اتساعها ، وزحامها وتلوثها .. إنها الطقوس الاجتماعية التي توارثها المصريون منذ قرون في تأهبهم لاستقبال الشهر الكريم ، يضيفون إليها كل عام لمسة جديدة ، أو يدشنون لطقس مبتكر ، أو يبتكرون وسيلة احتفائية تكرس لخصوصية رمضان القاهري وتفرده ، الذي يؤكده كل من عاش أجواءه وسهر لياليه الجميلة
ففي هذه الاحتفالية يختلط ما هو اجتماعي بما هو ديني ، مضافاً إلى ذلك نكهة يجيد المصريون يمكن وصفها بحرفة التحايل على الواقع وتجميله ، مهما كانت قسوته ، فمنذ عصر صدر الإسلام ، وحتى يومنا هذا يخرج المصريون في آخر أيام شهر شعبان لرؤية هلال رمضان حيث يعتبر علماء الإسلام رؤية الأهلة "فرض كفاية" لما يترتب عليها من الأحكام الفقهية والشرعية وكان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يأمر بصوم رمضان إلا بعد رؤية هلاله على التحقيق أو بشهادة الواحد العدل فصامه مرة بشهادة أعرابي ومرة بشهادة ابن عمر مكتفيا بمجرد الإخبار .. ، فعن ابن عمر قال تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصامه وأمر الناس بصيامه فإن لم ير الهلال ولم يشهد أحد برؤيته أكمل شعبان ثلاثين يوما ثم صام وأمر الناس بالصوم وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ابتداء صوم رمضان قبل رؤية الهلال فقال " صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين " متفق عليه من البخاري ومسلم ، وأفتى الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت رحمه الله بأنه إذا ثبت رؤية هلال رمضان في بلد إسلامي فإنها تثبت في جميع البلاد الإسلامية ، بمعنى أن ذلك يوجب الصيام على جميع المسلمين .
وقد كان هذا الرأي الفقهي معمولا به طيلة عهد الدولة العثمانية ، فكانت تكفي إشارة واحدة تصدر من الأستانة بثبوت الرؤية أو عدمها ، حتى يتم إقرار ذلك واعتماده في كافة ديار الإسلام ، باعتبار أن هذا الأمر من أبسط ما ينبغي أن يتفق فيه سائر المسلمين ، فلا يختلفون في أمر يفرق وحدتهم ، ويمزق صفوفهم ، رغم أن جوهر دينهم التوحيد ، وإلههم واحد ، ونبيهم واحد ، وكتابهم واحد وقبلتهم واحدة .
موكب الرؤية
ويحدثنا الرواة والمؤرخون ، أنه قد جرت العادة في العواصم الإسلامية على خروج القاضي لرؤية هلال رجب وما بعده تحسباً لرؤية هلال رمضان .. واختلف المؤرخون في تحديد أول من خرج لرؤية هلال رمضان من قضاة مصر ، فذكر الإمام السيوطي أن أول من خرج لرؤية الهلا ل في مصر القاضي غوث بن سليمان الذي توفي سنة 168هـ وقيل إن أول قاضي ركب في الشهود إلى رؤية الهلال هو أبو عبد الرحمن بن لهيعة الذي تولى قضاء مصر بعد وفاة أبي خزيمة سنة 155هـ " 771م " وقال الكندي طلب الناس هلال شهر رمضان وابن لهيعة على القضاء فلم يره أحد وأتى رجلان وزعما أنهما رأيا الهلال فبعث بهما الأمير موسى بن علي بن رباح إلى ابن لهيعة فسأل عن عدالتهما فلم يعرفا واختلف الناس وشكوا فلما كان العام المقبل خرج عبد الله ابن لهيعة في نفر من أهل المسجد عرفوا بالصلاح فطلبوا الهلال وكانوا يطلبونه بالجيزة ثم تعدوا الجسر في زمن هشام بن أبي بكر البكري وطلبوا الهلال فى جنان بن أبي جبيش .. وقد سن ابن لهيعة لمن بعده من القضاة هذه السنة الحسنة فكانوا يخرجون إلى جامع عبود الكائن سفح جبل المقطم لرؤية الهلال في شهري رجب وشعبان احتياطا لإثبات هلال رمضان .. ولتحقيق هذا الغرض أعدت للقضاة دكة عرفت بدكة القضاة بجبل المقطم ترتفع عن المساجد يجلسون عليها لنظر الأهلة منها وقد بني في العهد الفاطمي مسجد مكان هذه الدكة الشهيرة .
العصر الفاطمي
أما في عهد الدولة الفاطمية في مصر فقد توقفت هذه العادة ، ولم يستمر رؤية القضاة لهلال رمضان حيث أبطل الخلفاء رؤية القاضي للهلال وجعلوا الشهور الرمضانية بالتناوب ، شهراً تسعة وعشرين يوماً ، وشهراً آخر ثلاثين يوماً ، فإذا وقع رمضان في أحدهما أمضوه كما هو وأصبح ركوب الخليفة الفاطمي أول رمضان يقوم مقام الرؤية عندهم ولكن الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله أباح صوم رمضان بالرؤية لمن يريد .. وقد ترك القضاة في العهود الأخيرة للدولة الفاطمية الخروج للرؤية ، وتحول ذلك إلى المفتين الذين يقومون بهذه المهمة ، وقد وصف ابن بطوطة موكب الرؤية في قرية "أبيار" المصرية ، وذلك أثناء رحلته الأولى لمصر عام 727هـ وكان يسمى "يوم الرقبة" وحرف على ألسنة العامة إلى "يوم الركبة" ، أي يوم ارتقاب رمضان أو ترقبه ، فقال ابن بطوطه : "ولقيت بأبيار قاضيها عز الدين المليجي الشافعي وهو كريم الشمائل كبير القدر حضرت عنده مرة "يوم الركبة" ، وعادتهم فيه أن يجتمع فقهاء المدينة ووجوهها بعد العصر من اليوم التاسع والعشرين لشعبان بدار القاضي ويقف على الباب نقيب المتعممين وهو ذو شارة وهيئة حسنة فإذا أتى أحد الفقهاء أو الوجوه تلقاه ذلك النقيب ومشى بين يديه قائلا باسم الله سيدنا فلان الدين فيسمع القاضي ومن معه فيقومون له ويجلسه النقيب في موضع يليق به فإذا تكاملوا هنالك ركب القاضي وركب من معه أجمعون وتبعه جميع من بالمدينة من الرجال والنساء والصبيان وينتهون إلى موضع مرتفع خارج المدينة وهو مرتقب الهلال عندهم وقد فرش ذلك الموضع بالبسط والفرش فينزل فيه القاضي ومن معه يترقبون الهلال ثم يعودون إلى المدينة بعد صلاة المغرب وبين أيديهم الشمع والمشاعل والفوانيس ويوقد أهل الحوانيت بحوانيتهم الشمع ويصل الناس مع القاضي إلى داره ثم ينصرفون هكذا فعلهم في كل سنة"
أما طقوس "الرؤية" في الريف المصري والصعيد ، فتبدأ منذ دخول ليلة المنتصف من شعبان حيث يتسابق الفلاحون في توزيع التمر وبعضهم يحيي هذه الليلة حتى الصباح، والبعض الآخر يصوم نهارها باعتبارها سنة عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعندما تهل بشائر رمضان يأخذ الناس حذوهم باستقباله ، فالغني ينفق بسخاء ورضا والفقراء يستبشرون خيرا بحلول الشهر المبارك الذي يحمل لهم في طياته الكرم والتسامح والمودة بين الناس .
الهلال الإليكتروني
وفى العصر الحديث تطورت وسائل رؤية الهلال تطورا كبيرا فدخلت فيها المراصد والاقمار الصناعية وتقنيات الكمبيوتر والحسابات الفلكية المعقدة ، وفي كل عام يسعى العلماء لإضافة وسائل جديدة لرصد الهلال تسهل الرؤية الدقيقة له لحظة ميلاده ، وتذلل الصعوبات الرئيسية التي تواجه عملية الاستطلاع حيث يولد الهلال بجوار قرص الشمس ويكون ضوؤه ضعيفا خافتا وتؤثر أشعة الشمس على ظهوره بوضوح في صفحة السماء كما تؤثر عوامل التلوث بالغلاف الجوي على الرؤية العادية له وهذا هو سبب اختلاف الرؤية من بلد لآخر ولإيجاد حل لها يدخل هذا العام مجال استطلاع الهلال مجموعة جديدة من المناظير المحمولة والكاميرات الإلكترونية الرقمية التي تعمل بتقنيات الحاسب الآلي ، فضلاً عن كاميرات رادارية& تعمل بأشعة الليزر لتتبع الأقمار الصناعية بسرعة فائقة لتوفير استطلاع دقيق للهلال وهي عملية صعبة كما يقول الدكتور عبد الفتاح جلال مدير المعهد القومي للبحوث الفلكية لأن الأقمار الصناعية ترصد الهلال بسهولة خارج الغلاف الجوي ويمكن لهذه المناظير والكاميرات الحديثة رصده ورصد الشهب والنجوم وأضاف أن الاتجاه لتطبيق نظام رادار الليزر الحديث المستخدم حاليا بمرصد حلوان يتم بالتعاون مع وكالة ناسا لأبحاث الفضاء .. حيث يطلق الرادار شعاع ليزر في صورة نبضات تنعكس على القمر ومنه إلى جهاز مستقبل على الأرض وتعطي بيانات عن سرعته ومكانته وهي نفس فكرة الدكتور أحمد زويل لكنه أبدع في تطورها باستخدام كاميرات سريعة كما قام خبراء الرصد بإضافة تعديلات جديدة لمنظار القطامية الضخم الذي يعد أكبر منظار في أفريقيا والشرق الأوسط لدراسة الأعماق الكونية وأكد الدكتور عبد الفتاح إن مجلس بحوث الفضاء بأكاديمية البحث العلمي يدرس حالياً اقتراحا بإطلاق مصر لقمر صناعي إسلامي تشارك في تمويله الدول الإسلامية بعد أن تم الاتفاق بينها منذ عام على توحيد بداية الشهور الهجرية وعدم اقتصارها على شهر رمضان وذي الحجة فقط لأن فارق التوقيت بين جميع الدول الإسلامية لا يزيد على سبع ساعات وتشترك جميعا في جزء من الليل وبالتالي تصوم وتفطر معا .. وقال الدكتور عبد الفتاح جلال إنه تم إعداد تقويم فلكي ودليل عالمي متكامل للدول الإسلامية من إندونيسيا حتى المغرب يضم 38 دولة ويحدد ظروف وشكل الهلال وعمره وموقعه في السماء وفترة بقائه في نهاية كل شهر عربي ومستوى رؤيته وهو مفيد جدا في استطلاع الهلال ويجعل عملية الرؤية سليمة وغير مخالفة ، فعملية استطلاع الهلال تتم في أوقات مختلفة في الدول الإسلامية لاختلاف التوقيت فبعضها يكون نهاراً ، وآخر ليلاً ، كما تكون ظروف الرؤية في بعضها أفضل من الأخرى ، فضلاً عن تفاوت استخدام وسائل متقدمة وأخرى تقليدية& لرصد ميلاد الهلال ، لكن الأمر المؤكد أن الجميع يشتركون في فرحة استقبال خير الشهور& طمعاً في كرم الله ، وأملاً& في مغفرته التي وسعت كل شئ .
&